للمرة الثانية خلال عام يفسر القيادي الإخواني يوسف ندا إشارات السلطة في مصر بشكل خاطئ. حيث اعتبر أن دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لحوار سياسي حول أولويات العمل الوطني مع كل القوى السياسية “دون تمييز ولا استثناء” قد تشمل جماعته. التي دخلت مجددا في “التيه” بعد سقوط حُكمها وعودة معظم قادتها إلى السجون وتنازع من في المنافي على “تقسيم الأنقاض” ففشلوا وذهبت ريحهم.

من منتجعه الخاص بشبه جزيرة كامبيونا على الحدود السويسرية الإيطالية بعث الملياردير الإخواني المُسن بـ”رسالة مفتوحة” إلى النظام المصري يدعوه فيها إلى الحوار. “باب الإخوان مفتوح لطي صفحة الماضي”. لكنه اشترط في البداية وقبل الجلوس إلى مائدة الحوار “رد المظالم ووقف العدوان وإنهاء معاناة المسجونين”.

رسالة “ندا” جاءت بعد أيام من دعوة السيسي إلى عقد حوار سياسي تشارك فيه كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية “دون تمييز ولا استثناء”. وشدد الرئيس خلال حفل إفطار الأسرة المصرية على ضرورة تفعيل برامج الإصلاح السياسي. مؤكدا أن “الوطن يتسع للجميع.. وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.

قطعا لن تشمل دعوة السيسي “الإخوان ومن لف لفهم”. فالاختلاف بين الطرفين ليس خلافا في الرؤى والتوجهات. بل مواجهات وصدام عنيف وقطيعة دموية يصعُب جبرها تحت أي ظرف.

وأيا كانت الضغوط التي يتعرض لها النظام -داخلية كانت أم خارجية- فلن تقبل مؤسساته وأجهزته منح الجماعة التي لم تعترف بما جرى في 30 يونيو 2013  ولا بشرعية السلطة ولا بدستور 2014 صك الاعتراف الذي من شأنه إعادة إحياء وبعث التنظيم وإخراج قواعده وكوادره من “السرداب” مرة أخرى.

في ختام كلمته بحفل إفطار الأسرة المصرية أشار السيسي إلى أن مصر الجديدة التي تتسع لكل أبنائها هي دولة “مدنية ديمقراطية حديثة”. ويعلم هو كما يعلم الجميع أن الجماعة لا تعترف لا بالدولة الحديثة ولا بقواعدها الديمقراطية من دستور وقوانين وانتخابات ومؤسسات. وإنما تستخدم تلك الأدوات فقط للمزايدة على الأنظمة الحاكمة التي تعارضها. وما أن يتحقق هدفها بـ”التمكين” وتصل إلى الحكم تضع تلك الأدوات على “الرف” وتستدعي من أدبياتها مفردات “الحاكمية والشريعة ودولة الخلافة”.

منذ نشأتها قبل 90 عاما وجماعة الإخوان لا تؤمن بحق الاختلاف ولا بالحياة الحزبية القائمة على التعددية والتداول. وتدعو أعضاءها إلى فرض منهجها بالقوة ضد كل من يعترض طريق دعوتها. “فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم. وإن لجؤوا إلى المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية فنحن في حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق إلى استعادة حكمه ومجده. سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها حتى يفتح الله بينا وبين قومنا بالحق”. هكذا عبّر حسن البنا مؤسس الإخوان عن منهج وطريق جماعته في التعامل مع الآخر.

وتحت عنوان “خطوتنا الثانية” قال “البنا” في افتتاحية العدد الأول من مجلة “النذير” -لسان حال الجماعة الصادر في أغسطس عام 1938: “ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يتسجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهجا يسيرون عليه ويعملون له. وسيكون هؤلاء جميعا منضمين لكم في وحدة قوية وكتلة متساندة إن أجابوا داعي الله وعملوا معه. حينئذ يجتمعون ولا يفترقون فهو موقف إيجابي واضح لا يعرف التردد ولا يتوسط بين الحب والبغض فإما ولاء وإما عداء”.

وتحت عنوان “السياسة الداخلية.. لقد سئمنا كلاما وآن وقت العمل” وصفت “النذير” العمل الحزبي بأنه “شر على مصر” “وقد آن الأوان لكي يرجع الجميع إلى الحق. فيخلعوا عنهم ذلك الرداء الملوث رداء التحزب والخلاف. ويرجعوا جميعا إلى الحق ويتحدثوا تحت لواء الأخوة الإسلامية فيصبحوا بنعمة من الله إخوانا ليس لهم من مآرب غير العمل لوجه الله وليس لهم من غاية غير الجهاد”.

ودعت “النذير” أعضاء الجماعة إلى استخدام القوة إذا امتنع الناس عن التجاوب مع دعوتهم: “فإذا الأمة أبت فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد. وجرِعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضوا خبيثا فاقطعوه أو سرطانا خطيراً فأزيلوه. فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى”.

قد يدعي البعض أن أدبيات الجماعة قد تطورت وأن أفكارها تغيرت وأصبح أعضاؤها يؤمنون بالديمقراطية وحق الآخر في الاختلاف. لكن واقع الإخوان بشكل عام وعلى وجه الخصوص الفرع المصري الذي تم السيطرة عليه في العقود الأخيرة من قبل مجموعة “التنظيم السري” لا يزال يتعامل مع تراث البنا ومن خلفه سيد قطب ومأثورات الإخوان الأوائل باعتبارها “نصوصا مقدسة تأتي في مرتبة ثالثة بعد القرآن والسنة”.

“ندا” قال في رسالته التي عنونها بـ”رسالة ثانية مفتوحة لمن تردد في الرد على الرسالة الأولى” إن “الفكر لا يقضي عليه القتل أو الرفض ولكن بفكر آخر أفضل منه أو أعقل أو أقرب إلى العقول”. مضيفا: “سأظل أقول إن بابنا مفتوح للحوار والصفح بعد رد المظالم”.

رسالة “ندا” لم تكن الأولى فعقب حديث السيسي في سبتمبر الماضي عن فكر جماعة الإخوان صاغ الملياردير الإخواني رسالة تحت عنوان “مصر إلى أين”. دعا فيها إلى فتح حوار مع رئاسة النظام المصري بلا شروط مسبقة.

رسالة “ندا” الأولى كانت ردا على تصريحات السيسي التي أدلى بها في حفل إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وفُهم منها أنها إشارات موجهة للجماعة: “المجتمع على مدى الـ90 و100 سنة يتم صبغه بفكر محدد معين. أنا لست مختلفا مع هؤلاء. لكن بشرط أن يحترموا مساري ولا يتقاطعون معي ولا يستهدفونني (..) سأقبل فكره. لكن لا يفرضه علىَّ ولا يضغط به علىَّ. لست أنا كشخص ولكن على مصر والمجتمع”.

“ندا” استخدم في الرسالتين الأولى والثانية مفردات “مراحل الاستضعاف والمحنة” التي اعتادت الجماعة أن تصدرها في فترات “المظلومية”. وهي تخالف آفات الإخوان الغاطسة “الكبر والغرور والغفلة والنسيان وضيق الأفق والانتهازية وعدم المراجعة وغياب المساءلة أو المحاسبة. هذه الآفات عادة لا تظهر في فترات الاستضعاف التى تمر بها الجماعة. حيث تُظهر قدرا كبيرا من السماحة واللين والرغبة فى التعاون مع الآخرين. والعكس حين تمتلك القوة والسلطة”. على ما ذكر محمد حبيب نائب مرشد الإخوان الذي استقال من الجماعة قبل 10 سنوات في مذكراته.

يبحث “ندا” وإخوانه في الخارج عن باب للخروج بعدما ضاقت بهم السبل وأفقدتهم توازنات ومواءمات العلاقات الإقليمية مساحات الحركة وقنوات الاتصال ومصادر التمويل.

فنتيجة لتحسن العلاقات بين مصر والإمارت والسعودية مع تركيا من جهة ومع قطر من جهة أخرى حوصرت حركة الجماعة للدرجة التي يخشى فيها قادتها أن يُطلب منهم الرحيل كما طلبت أنقرة من الإخوان قبل أسابيع.

وكما لم يتسلم “ندا” وجماعته ردا على الرسالة الأولى لن يصلهم رد على الرسالة الثانية. وإن كان السيسي قد رد بشكل ضمني في كلمته خلال احتفالية عيد الفطر عندما تحدث وبعد يوم واحد من رسالة القيادي الإخواني عن حالة “الاستنفار الشديد والادعاء والتزييف الذي يروجه الإخوان ضد مسلسل الاختيار”.

السيسي وللمرة الأولى خلال السنوات السبع الماضية يذكر جماعة الإخوان بالاسم “رغم إني قعدت 7 سنين لم أذكرهم مرة واحدة وكنت أقول أهل الشر. عشان أدي فرصة لأهل الشر يتراجعوا عن الشر. ربنا يهدينا كلنا”. ساردا تهديداتهم المباشرة بـ”حرق الدولة” قبل وأثناء توليهم الحكم في عام 2012.

بنت السلطة الحالية شرعيتها على إسقاط حكم الإخوان استجابة لمطالب الملايين التي خرجت إلى الشوراع تهتف للمطالبة بزوال حكمهم. بعد محاولاتهم “طمس الهوية المصرية وتهديد بقاء الدولة الوطنية واستخدام العنف المسلح”- بحسب أحد المصادر القريبة من دوائر صنع القرار.

مسلسل “الاختيار” الذي أنتجته شركة تابعة لأجهزة الدولة ما هو إلا محاولة لتجديد شرعية السلطة وتذكير المواطنين بأن مؤسسات الدولة الحاكمة هي التي واجهت خطر الجماعة وهي التي دعمت مطلب الشعب المصري الذي دعا إلى رحيل الإخوان -على ما قال مصدر آخر.

الحوار السياسي المرتقب الذي دعا إليه السيسي “لن يشارك فيه سوى المؤمنين بشرعية 30 يونيو ودستور 2014 من القوى المدنية؟. وهو ما يعني أنه لا مكان للإخوان على مائدة هذا الحوار”. يضيف المصدر المقرب من دوائر صنع القرار. مشيرا إلى أن الجماعة استنفدت خلال السنوات الماضية كل الفرص التي من شأنها رأب الصدع بينها وبين المجتمع المصري ومؤسساته وأصرت على نهجها في التحريض على العنف ونشر الشائعات -بحسب تعبيره.

ويؤكد المصدر أن السلطة الحالية لن تقبل بعودة جماعة الإخوان للعمل كتنظيم يمارس العمل الدعوي الديني والسياسي والاجتماعي. إلخ. لكنها على استعداد للتعامل مع أي مواطن مصري أيا كان انتماؤه شريطة عدم تورطه في العنف أو ارتكابه جرائم وأن يحترم القانون والدستور “مواطن لن يعترف بالدستور أو القانون يتحاسب”.

ويشير مصدر آخر على صلة بترتيبات الحوار السياسي إلى أن النظام تعلم الدرس من الأخطاء التي وقع فيها أسلافه. “عندما واربت بعض الأنظمة السابقة الباب أمام حركة الجماعة تسللت كوادرها وانتشرت في ثنايا المجتمع المصري ومؤسساته. حتى تمكن الإخوان بعد ثورة 25 يناير من الوصول إلى قمة هرم السلطة. بعدها داسوا على الدستور والقانون وتنكروا لكل أدوات الدولة الحديثة”.

لأسباب موضوعية وبراجماتية لن يقبل النظام بالحوار مع قادة الجماعة. ولن يقبل بعودة التنظيم إلى العمل السياسي أو الدعوي تحت أي ضغط. فالرصيد الشعبي لـ”الإخوان” ليس في مصر فقط بل في معظم دول المنطقة في أدنى مستوياته منذ أن أسس حسن البنا الجماعة قبل 9 عقود. والخلافات والصراعات المتصاعدة بين قادتها في الخارج والتي وصلت إلى حد الاتهامات العلنية بالنصب والاحتيال والتخابر نالت من سمعة الجماعة “الربانية” أمام قواعدها وحواضنها الشعبية.

حتى لو فكر النظام في الحوار مع الجماعة فمع أي إخوان سيتحاور؟ إخوان السجون أم إخوان أنقرة أم إخوان لندن؟. “الجماعة الآن في أضعف حالاتها ولا تمثل أي خطر على السلطة كما أن الحوار معها لن يضيف لها أي رصيد”.

إن أراد النظام كتابة الفصل الأخير في تاريخ الجماعة بمصر فعليه إعادة الاعتبار للسياسة. والاعتراف بأخطاء السنوات الماضية. وفتح الباب أمام حوار جاد يرتب أولويات المرحلة القادمة. وتفعيل مواد الدستور والاستجابة لدعوات الملايين التي نزلت إلى الشوارع في 2011 و2013 مطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة. فكلما وُصدت أبواب المجال العام وحُوصرت السياسة ووُئدت أفكار التداول السلمي للسلطة وصُودر حق الناس في اختيار من يحكمهم ومن يراقب أعمال حكامهم فُتح الباب أمام تغلغل وانتشار التنظيمات والجماعات التي تعمل تحت جنح الظلام.

السبيل الوحيد لطي صفحة الجماعة هو الشروع في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة القائمة على مبادئ التعددية والمنافسة والمساءلة والمحاسبة والفصل بين سلطات الدولة الثلاث. وفتح نوافذ التعبير عن الرأي واحترام حقوق وحريات المواطنين.