كثير من أنصار ثورة «25 يناير» ما زالوا ينظرون إلى «30 يونيو» باعتبارها موجة من موجات الثورة الأم، وهم كما تملؤهم الحسرة على ما آلت إليه الثورة، يتحسرون أيضًا على ما انتهت إليه موجتها الأولى، قليلٌ من هؤلاء تسوؤهم تلك الكراهية التي تتبدى في إعلام «3 يوليو» الرسمي، فذهبوا (غيظًا وحنقًا) إلى رفع شعار نكره ثورتهم كما يكرهون ثورتنا.
يأخذ عليَّ بعض هؤلاء -وأكثرهم من الشباب- أني ما زلت أنظر إلى ما جرى في« 30 يونيو»، باعتباره موجة جديدة من موجات الثورة في «25 يناير»، لا يمكن عزلهما، ولا أتصور فصلهما عن بعضهما، بل إني أذهب إلى أن «يناير» سوف تشهد موجاتٍ جديدة، كما سوف تشهد انتكاسات أخرى، شأنها في ذلك شأن الثورات الكبرى في التاريخ، إلى حين يستقيم عُودها، وتتجذر شجرتها، وتؤتي ثمارها في كل حين.
إجابتي على هؤلاء الأصدقاء صغتها في سؤال افتتاحي للنقاش، قلت: وهل نحن مطالبون بكره «يونيو» لأنهم يكرهون «يناير»؟، ألا نكون بهذا قد وقعنا في غلَطهم، ويصدق فينا ما يصدق عليهم من أوصاف: الانتهازية، والسذاجة، والتخبط في الرؤية، وسوء المقصد ؟
وهل كرهنا «ثورة يناير» لأن الإخوان قفزوا عليها، وحاولوا أن يجنوا ثمرتها وحدهم، واعتبروها سُلمًا يصعدون عليه إلى التمكين ثم يقذفون به في الجحيم، كذلك لن نكره الموجة الثورية التي جرت في «30 يونيو» بدعوى أن الفلول ركبوها، وأنها آلت إلى ما انتهت إليه من أوضاع عكس ما هدفت إليه «ثورة يناير»، ولا هي حققت الأهداف التي قامت بها موجتها في «30 يونيو»، كما أني أفترض أننا لا نصنع مواقفنا بالقطعة، ولا نحدد رؤانا بالمصلحة، ولا نتخذ مواقعنا بما جنيناه أو بما خسرناه، لذلك لسنا مثلهم، ولن نكون.
أشدُ ما نأخذه على ما جرى بعد «30 يونيو» أنه انتهى إلى غير ما بدأ، وعلى عكس مطالبه، وضرب التحالف الذي صنعه، وسقطت المطالب التي رفعها، وعاد بنا إلى الخلف، مرة جديدة، كل هذا لا يجعلنا نكفر بالحدث، ولا نكفر بالشعب الذي خرج كالطوفان، سواء في« 25 يناير» أم في« 30 يونيو»، لأن الأمور لم تمض إلى الوجهة التي تمنتها تلك الجموع في الموجتين الثوريتين، وإلا كان من الأولى بنا أن نكره «يناير»، قبل أن نكره «يونيو».
قلت لصديقي الشاب الذي يجادلني في كراهيته «يونيو» لإخفاقها أولًا، وردًا على كراهيتهم ليناير ثانيًا، اقرأ يا صديقي رواية «1984» وتوقف مليًا عند ما جاء في موضع منها لتعريف السلطة بأنها: «تمزيق عقول البشر إلى أشلاء، ووضعها مرة أخرى في أشكال جديدة»، وفي موضع آخر من الرواية تجد القول: « ما من أحد يمسك بزمام السلطة، وهو ينتوي التخلي عنها، إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكمًا استبداديًا لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي، إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة، هل بدأت تفهم ما أقول الآن؟».
لهذا –بالضبط- ينبذون وراءهم «يناير»، ويتمسكون بِأَهْدَابِ «يونيو» وحدها.
**
الذين يكرهون «ثورة يناير» كراهية تحريم، ويؤيدون بشدة إحدى موجاتها في«30 يونيو» كمثل الذين يحتفون بالمصب ويُعادون المنبع، هم على الحقيقة يُعادون السبب، ويرحبون بالنتيجة، السلطة غايتهم، وأسخف الأوصاف، وأكثرها سذاجة وصف المؤامرة الذي تلوكه ألسنتهم، ويتبدى سخف هذا التوصيف في أن (كل) من باتوا اليوم يرونها «أم المؤامرات»، هم أنفسهم الذين وصفوها من قبل بأنها «أم الثورات»، والفيديوهات شاهدة على هذا التقلب بين الموقف ونقيضه، كانوا من (مدَّاحي) الثورة، ثم انقلبوا إلى ذمها، وتحميلها المسئولية عما آلت إليه الأوضاع، وما يعانية الوطن من مشكلات هم صُناعها، وهم المروجون للسياسات التي أدت إلى تفاقمها.
تتبدى سذاجة وصف المؤامرة على «يناير»، في أن الجيش ساندها، ووقف مع الشعارات التي رفعتها (راجعوا بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة) ومنذ اللحظة الأولى، رفضت قيادة الجيش أي تفكير في إطلاق رصاصة واحدة على المتظاهرين في الشوارع، أو المعتصمين في الميادين.
هل يمكن تصور أن يساند الجيش مؤامرة ضد الدولة، وهل يمكن أن تقف القوات المسلحة على الحياد في مواجهة مؤامرة تستهدف الوطن، أو أن ترفع التحية العسكرية لمتآمرين، الأنكى من كل ذلك أن تظل الأبواق تصدح كل يوم (أو هي على الحقيقة تنعق كل يوم) وفي كل مناسبة، وأحيانا بدون مناسبة ضد الثورة، رغم أن دستور البلاد الحالي الذي يحلف على احترامه كل قيادات الدولة، يدمج بين ثورتى يناير ويونيو، ويرى أنهما معًا يشكلان: «ثورة فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية» ويعزو الدستور هذه المكانة العالية لثورة يناير بموجتيها إلى: «كثافة المشاركة الشعبية التى قُدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية، وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها».
**
«حديث المؤامرة»
هو من نوعية الكلام الفارغ من أي مضمون حقيقي، وهو اتهام ساذج لحدث تنبأ به كثيرون، كان هناك ما يشبه الإجماع في نهايات العقد الأول من القرن الحالي أن ثمة شيء ما يحدث في مصر الآن، وكتب العديد من الكتاب والصحفيون والخبراء يبشرون بأن الأوضاع القائمة لا يمكن لها أن تستمر طويلا، خاصة بعد أكبر فضيحة تزوير للانتخابات التشريعية في تاريخ مصر الحديث، تلك التي جرت في 2010، وأشرف عليها «أحمد عز» رجل الأعمال ورجل «جمال مبارك».
صحيح أن ما جرى في «يناير»، كان أفصح وأروع وأكبر مما توقعه الكثيرون، لكنه في النهاية جاء، وجرف في عنفوانه أسوأ حالة وصلت إليها البلاد، تلك التي وصفها الأستاذ «هيكل» في مؤتمر للصحفيين قبلها بسنوات بأنها «سلطة شاخت فوق مقاعدها».
ليس الكتاب والمثقفون وحدهم من تنبأوا بالثورة، فالرئيس «السيسي» نفسه، والذي ظهر اسمه لأول مرة على الساحة العامة مع اندلاع الثورة، اعتبره البعض مشاركًا في الثورة، وأنه (أول من تنبأ بحدوثها (الكاتب الصحفى ياسر رزق: الرئيس السيسي هو أول من تنبأ بثورة 25 يناير – YouTube)، وقد انتشرت نقولات عن «اللواء السيسي» في أعقاب «ثورة يناير» تفيد أنه لم يتنبأ فقط بالثورة، بل أوصى أن يتدخل الجيش للحفاظ على الاستقرار فى حالة تفاقم الأزمة (التليجراف: السيسى تنبأ بثورة 25 يناير وأوصى أن يتدخل الجيش للحفاظ على الاستقرار فى حالة تفاقم الأزمة.. الصحيفة البريطانية تؤكد: المشير كان يحظى بثقة واحترام غالبية رؤسائه داخل المؤسسة العسكرية – اليوم السابع – youm7.com)، يقول التقرير نقلا عن لسان بعض كبار المستشارين السياسيين فى مصر، إنه بعد اتساع المساحة الفاصلة بين الجيش المصرى والرئيس المخلوع «حسنى مبارك»، بدأ الجيش فى دراسة السيناريوهات التى يحملها المستقبل لمصر ولوضعه داخل الدولة المصرية.
أخبر المستشارون «التليجراف» أن قادة الجيش طلبوا من «اللواء عبد الفتاح السيسى» الذى كان يرأس جهاز المخابرات الحربية آنذاك إعداد دراسة عن مستقبل مصر السياسى، ووفقا لـ«تليجراف» توقع «السيسى» فى تقريره أن تمرير الحكم إلى «جمال مبارك» نجل الرئيس المخلوع سيؤدى إلى حالة من الاضطراب فى الشارع المصرى.
فمن أين جاء «حديث المؤامرة» إذن؟
**
ثورة تنبأوا هم بحدوثها، ويعلمون أنها اندلعت في مواجهة أوضاع هم أول من يعلم أنها كانت الأسوا على كل الأصعدة، وفي مواجهة واحد من أحط سيناريوهات انتقال السلطة من الرئيس إلى نجله، فيما سُمي بمشروع التوريث.
فلماذا يكرهونها؟
أي مواطن عاش بعضا من أيام التحرير يمكنه أن يجيبك على هذا السؤال، كل من بات ليلة من ليالي الميادين التي تجمَّعت فيها حشود المصريين تطالب بإسقاط النظام، يعرف بالضبط لماذا يكرهون «ثورة يناير» كل هذا الكره، وبكل هذا العنف، كان لابد أن تشارك -ولو ليوم واحد- في الميدان وسط كل هذا المزيج المركب من الخوف والطمأنينة، من اليأس والأمل، من الإصرار والتحدي وخشية الخذلان، حتى تشعر بتلك الروح التي أشعلت حماسة الرابضين في تلك الساعات الحاسمة من تاريخ مصر على الأسفلت في برد يناير 2011.
كان مهم جدا لك أن تتواجد في قلب هذه الجموع متدثرا بدفئها حتى تتذوق «الطعم» الذي كان يمكن أن يمضي عمرك كله دون أن تعرفه، أن تتذوق «طعم الحرية»، كان ضروريا جدا أن تجمع خوفك مع خوف الآخرين ليصنع الخوف الجماعي تلك الشجاعة والقوة التي لا تقهر، حتى تعرف أن الإنجاز الأهم والأخطر الذي حققته «ثورة يناير» أنها أسقطت حوائط الخوف؛ وهو الإنجاز الذي خشيت منه السلطة وقتها، ولا تزال تخشاه حتى اليوم، وظلت تعمل طوال السنوات الماضية على وأده.
**
يكرهون «ثورة يناير» لأنها نزعت الخوف من قلوب المشاركين فيها، وزرعته في قلوب الذين خرجت الناس ضدهم تطالب بإسقاطهم، قلبت خوف الجماهير إلى شجاعة منقطعة النظير، وانقلبت طمأنينة أهل الحكم إلى رعب مستديم من تكرار اللحظة الفارقة مرة أخرى.
أمسك شعب الميادين بأحلامهم في أيديهم، ورأوها رأي العين وهي تتحقق، واحدة وراء أخرى، الديكتاتور الصنم يحطم، بعد أن كانت كل الآمال تتوقف عند إقالة وزير داخليته الجزار، الأحلام إذن ممكنة، وقابلة للتحقق، وكان بالميادين أناسٌ كثيرون ذكروا أنهم ولدوا هنا وفي هذه الأيام، وفي هذه الأجواء، واعترفوا أن أعمارهم التي مضت لم تكن موجودة، أذكر شابا في أوائل العشرينات من عمره وهو يقول: «كنت أشعر أني عجوز، أعجزتني كثرة الهموم، وأعوزني ضيق ذات اليد، وضيَّق حياتي فقدان الأمل، وهنا وجدت بارقة أمل في المستقبل، فولدت مجددا».
هذه المشاعر على المستوى الفردي صنعت شعورا جارفا واحدا وموحدا لكل الناس التي خرجت تطلب الانعتاق من كل هذا الجمود والتخلف والقهر، شعور بمولد شعب سقطت عن عينه الغشاوة، وانزاحت من على وجوه المواطنين تلك الغبرة التي كستها لزمن طويل، وأفاق الجميع على أنهم خرجوا لتوهم من «الغيبوبة» التي أدخلوا فيها طوال عقود من التغييب والاستبداد والقهر والإفقار وانتشار الفساد.
**
في يناير وفبراير، في عز برد الشتاء، لم يكن التحرير ميدانا يضم بين جنباته هذه الملايين، ولم تكن مصر سجنا مغلقا على كل من فيه، بل كان الميدان تجربة حياة، وكانت مصر تُنبئ بحياة كريمة، وسلطة تحترم شعبها، وكان الدفء الذي يملؤ كل القلوب قد حوَّل شتاء 2011، إلى أجمل فصول الشتاء دفئا في حياة المصريين، وكان من أعظم مشاهد «ثورة يناير» أن يلتف الشباب من المسيحيين في صفوف حول المصلين يحمونهم ضد أي عدوان قد يُقدم عليه أنصار مبارك ومؤيدوه.
جريمة «ثورة يناير» لدى الذين يكرهونها أنها كسرت سلاسل اليأس، وزرعت الأمل في نفوس الناس، وعظمت طموحاتهم، وهو أمر تخشاه الأنظمة، وتحاول أن تقتطعه قطعة وراء الأخرى وتزرع مكانه اليأس والخوف من جديد.
«روح يناير» هي التي يتمنون إزهاقها، وهي السبب وراء كرههم لها، الروح التي ابتعثتها «الثورة» هي أخطر ما يواجهونه من اليوم الأول وحتى يومنا هذا، وكل هذا العنف في خصومتهم مع الثورة هي سببه.
**
يكرهونها لأنها كاشفة
نزعت الأقنعة عن كثير من الأجهزة والمؤسسات والأفراد، وأسقطت مساحيق الخداع التي انطلت على الناس فترة طويلة، وصار في يقين المصريين أنه لا أحد حمى ثورتهم ضد الطغيان، وأن من حماها هو وجودهم في الميادين، وحين انصرفت الجموع اجتمعت كل الجهات على الثورة تحاول أن تجتثها من التاريخ، وشارك الجميع، أجهزة وإعلاميون ومخبرون، وكل الفاسدين في أكبر وأشرس عملية تشويه للثورة والثوار، ومنذ اليوم الأول ورغم شعارات «الإيد الواحدة» إلا أن كل الأيادي، وبدون استثناء، اشتركت في محاولات محمومة ومتكررة لقتل الثورة وقنص زهرتها اليانعة.
بالتأكيد هم لا يكرهون « ثورة يناير» لأنهم جاءت بهم إلى السلطة، بل يكرهونها لأنها بروفة ناجحة لأخرى مثلها، كراهيتهم « يناير» نابع من خوفهم من تكراره، هم على الحقيقة لا يكرهون ما حدث، هم يخشون ما يمكن أن يحدث مجددا، كان يمكن أن يكونوا على رأس مؤيدي ما جرى إذا ضمنوا أنه لن يتكرر، خاصة بعد أن وقعت ثمرة الثورة في حجرهم، وكل هذه الكراهية دليل خوف أكثر من كونها علامة ثقة.
**
كل هذه الكراهية لها تفسير من التاريخ، فقد كان هناك دائمًا مع كل ثورة تنتكس جيل له سمات مشتركة مع أجيال النكسة المتعاقبين، وحسب تعبير صلاح عيسى (الكاتب والباحث المدقق في تاريخنا الحديث) فإن هذه الأجيال شهدت ظاهرة أن كل شيء ضد كل شيء، الاستقلال ضد الدستور، وثوار الثلاثينات ضد ثوار العشرينيات، والأصالة ضد المعاصرة، والقومية ضد التعدد الحزبي، والوطنية ضد التقدم، في فترات انتكاسات الثورة كنت ترى مصر الأضداد، لا مصر الموحدة على قلب رجل واحد في سبيل مشروع وطني جامع لقواها، محفز لتقدمها، تتحرك به عجلة التاريخ إلى الأمام.
نحن لا نتغنى بالثورة كدراويش يقيمون حفلات زار صاخبة الحركات، زاعقة العبارات، متشنجة الأصوات، بل نحن أول من نرى الأخطاء التي جرت خلالها، وأول هذه الأخطاء وأعظمها تأثيرًا على مسيرة الثورة، جاء مع تصور خاطئ وساذج، أنه بمجرد الانتصار في معركة خلع رئيس النظام انفتح الطريق فسيحا أمام تحقيق جنة الثورة على أرضٍ كان الاستبداد والفساد والاضطهاد قد جرَّفها، وطال بوارها، وكانوا قد زرعوا فيها كل شتلات الخوف والفزع من أي تغيير.
«ثورة يناير» رواية طويلة ذات فصول متعددة، شهدت ربيعها الأول في 12 فبراير 2011 ثم هبت عليها رياح الخماسين، ثم عادت لتشهد ربيعها الثاني في 30 يونيو 2013، ومن جديد تلبدت سماؤها بالغيوم، واجتاحتها عواصف خماسينية.
«ثورة يناير» بموجتيها كانت حتمية، لا هي مؤامرة، ولا مصنوعة، وهي مستمرة طالما لم تتحقق أهدافها، وهي كما أن لها أنصارًا ومؤيدين، سيبقى لها أعداء وكارهون، نعرف أن محبتها لن تعيدها للحاضر، ونوقن بأن كراهيتها لن تمحوها من ذاكرة الوطن.
وهي مستمرة بالمعنى التاريخي الفاعل لمضمون الاستمرار.