تلعب جهود الوساطة الدولية في أزمات العالم المتفرقة أدوارًا مهمة خلال السنوات الأخيرة. هذا ما توضحه تجارب قطر -على سبيل المثال- في عدد من مناطق النزاع الصعبة. وهي جهود تبرز حدود قدرة الدوحة -المدعومة بإمكاناتها المالية- على التعامل مع الحركات الإسلاموية وتقديم خيارات تفاوضية ملائمة لها وللأطراف الحكومية المنخرطة معها في وساطات.
ومع ارتباط السياسة الخارجية للدوحة بالسياسات الأمريكية بشكل عام، فإنه يمكن القول إن أهم محددات سياسات الوساطة القطرية تتمثل في العمل كامتداد إقليمي مباشر وتخادمي للسياسات والأدوار الأمريكية، فيما يتمثل “مبدأ الدوحة الوساطي” في دعم تعظيم مكاسب أطراف الأزمات من عمليات الوساطة وما يترتب عليها، حتى تصل بالأطراف المختلفة إلى نقطة يقين بأن من مصلحتها التفاوض وعدم المضي قدمًا في الصراع.
حول محددات هذا الدور القطري في الوساطة ومستهدفاتها منه، أصدر “مصر 360” ورقة سياسات جديدة، للباحث د. محمد عبد الكريم، أشار فيها إلى دور قطر الوساطي في أفغانستان وفي قارة إفريقيا.
للاطلاع على ورقة السياسات كاملة..
وساطة مدعومة باهتمام أمريكي
أصبحت قطر منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، واحدة من أنشط الوسطاء عالميًا في الصراعات الإقليمية والداخلية في الشرق الأوسط، حيث كانت أبرز حالات هذه الوساطة في لبنان والسودان واليمن، مع جهود أقل في فلسطين والصراع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا. وهو ما أكسب الدوحة تعزيزًا لصورتها “كوسيط نزيه معني بالسلم والاستقرار”.
ولا تستفيد قطر فقط من قدراتها المالية والسياسية في اكتساب هذا الدور المحوري في منطقتها حاليًا، وإنما يدعمها كذلك أن واشنطن صنفتها رسميًا في مرتبة حليفتها الاستراتيجية في الخليج العربي “من خارج الناتو”، مثمنة دورها في دعم السياسات الأمريكية. وهو ما اعتبره مراقبون مساهمة قطرية في دبلوماسية الباب الخلفي، وعامل تسوية محتمل بشكل كبير في أزمة الغاز الأوروبية الراهنة، على سبيل المثال.
يشير الباحث د. محمد عبد الكريم أيضًا أن قطر بدورها الوساطي هذا باتت تمثل أحد أهم ركائز السياسة الأمريكية في ظل تحولات “النظام العالمي الجديد”. لاسيما إذا أخذنا في اعتبارنا “التحالف” القطري التركي الذي يتجلى في مقاربتهما المشتركة في إفريقيا على نحو بالغ الوضوح (كما في الصومال وتشاد وإرهاصاته في مالي) وبات يتجاوز أجواء المقاطعة العربية -انتهت باتفاق العلا في 2021- لقطر بمراحل عدة.
قطر.. حاضنة الإسلاميين
يقول الباحث إن قطر لعبت دورًا بارزًا في احتضان مجموعة من جماعات الإسلامي السياسي على خلفة تأييد “الربيع العربي” ومسار الديمقراطية في العالم العربي. كما توفرت للدوحة قنوات اتصال متشعبة مع طيف واسع من التنظيمات والجماعات الإسلامية على امتداد الرقعة الجغرافية من أفغانستان حتى أقصى منطقة غرب إفريقيا كأساس قوي لأدوار قطر في العديد من الأزمات “الأمنية” التي تواجهها دول كثيرة في هذه الرقعة.
وكان واضحًا أن دعم قطر لجماعة الإخوان بصور شتى كان ضمن عوامل مساعي الإمارات والسعودية تحديدًا إثناء الدوحة عن هذه السياسة بأدوات متدرجة، وصولًا إلى فرض عزلة خليجية، بدعم من البحرين ومصر.
ووفق د. محمد عبد الكريم، فإنه حتى سياسات قطر الداعمة للتنسيق أو التفاوض أو الوساطة مع مختلف جماعات “الإسلام السياسي” أو الحركات المسلحة ذات الأيديولوجيا الإسلاموية لا تصاغ أو تمارس بمنأى عن أطراف أمريكية في إدارة جو بايدن الحالية.
ولا يمكن أيضًا فصل تلك السياسة القطرية عن تحالفها الاستراتيجي متعدد الجوانب مع تركيا، التي تعد من أنشط أعضاء الناتو عسكريًا في الوقت الحالي. مع ملاحظة تعزز الصلة بينهما على نحو غير مسبوق في تاريخ البلدين منذ العام 2017، وتوجه الأخيرة لاستغلال تداعيات الأزمة الخليجية وتوسيع وجودها العسكري في قطر، التي رفضت باستمرار الرضوخ لمطالب “الرباعية” واستفادت من الوجود التركي في الحفاظ على سياسة خارجية أكثر استقلالية مع تحول سوريا وليبيا والصومال إلى ساحة معارك خلفية لدول الخليج.
اقرأ أيضًا: باحث: سعي قطر للوساطة بين العرب وإيران لن ينجح.. فلماذا تستمر؟
وقد شهد الصومال على وجه التحديد تحالفًا تركيًا قطريًا راسخًا يتوقع تكرره راهنًا في إقليم الساحل (لاسيما في تشاد ومالي). حيث تتطابق الرؤى القطرية مع نظيرتها التركية في الإقليم ومناطق جواره.
من هنا، تظل علاقة قطر بالحركات الإسلامية من أهم ركائز سياساتها الخارجية. بل وتمثل قيمة مضافة لهذه السياسيات. مع نجاح الدوحة في تجاوز اختبارات عدة لتهديد هذه العلاقة (كما في المقاطعة الرباعية والحملات الإعلامية الدولية ضد قطر في هذا السياق) بفضل متانة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، والدور الهام الذي توفره وساطات الدوحة في نزع فتيل العديد من الأزمات الساخنة، كما تم في الصومال وأفغانستان وتحاول تعميقه حاليًا في أرجاء الساحل الإفريقي.
الحرب على الإرهاب
يلفت الباحث كذلك إلى الدور القطري الجوهري في المساعدة في إنهاء “أطول حرب في التاريخ الأمريكي”: في أفغانستان (أغسطس 2021)، حسب وصف الدوحة، ومساهمتها في إجلاء حوالي 80 ألف شخص من أفغانستان، بينهم مدنيون أفغان وجماعات لحقوق المرأة وصحفيون دوليون.
وتركز دور قطر في المسألة على “وقف التصعيد”. وجاء مجمل عملها بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة “عبر الإدارات المختلفة”، مع استمرار إدانة جميع صور العنف ضد المدنيين في أفغانستان وانتهاكات حقوق الإنسان. ذلك مع الاحتفاظ بقنوات آمنة مع حركة طالبان الأفغانية، بإعلان عزمها مواصلة تقديم المساعدات الإنسانية لحكومة طالبان نهاية أكتوبر 2022، رغم ما اعتبره محللون حالة سخط قطرية إزاء أداء طالبان السياسي وتراجعها عن إدخال الإصلاحات المطلوبة حتى تكون أفغانستان مقبولة للعودة للمجتمع الدولي.
ويلاحظ -في السياق نفسه- متانة العلاقات القطرية-الباكستانية (تسهم باكستان وتركيا ضمن عدد محدود من الدول في إرسال عدة آلاف من جنودها لتأمين فعاليات كأس العام 2022 في قطر)، وتقارب وجهتي نظر الدوحة وإسلام آباد في ضرورة التفهم الدولي لحالة طالبان واتخاذ خطوات نحو تطبيع حضورها في المجتمع الدولي.
وعلى الجهة الغربية من منطقة تأثير الوساطات القطرية في مسار “الحرب العالمية على الإرهاب”، فإنه يلاحظ أيضًا تبلور هذه الجهود في إقليم الساحل الإفريقي. وقد تحدد منتصف نوفمبر الجاري موعدًا لإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسميًا نهاية عملية برخان Barkhane لمواجهة الإرهاب في إقليم الساحل الإفريقي (وأعلن الاتحاد الوروبي بالتوازي مع هذه الخطوة عزمه تكوين قوة أوروبية تتمركز في النيجر المجاورة). فيما أثارت تقارير استخباراتية غربية مسألة اضطلاع قطر بدور وساطي مباشر -مدعوم دوليًا في آن واحد- ومهم في إقليم الساحل عبر نقطتي ارتكاز رئيستين: تشاد ومالي بعد شهور من انخراط الدوحة في الملف المالي عبر تفاهمات اقتصادية وسياسية مهمة مع باماكو (وبترحيب واضح من قبل تركيا التي تلعب دورًا موازيًا للسياسة القطرية في الساحل وظهيره الليبي).
وكذلك يبرز دورها في جهود الوساطة الحثيثة في الملف التشادي، والتي رعتها الدوحة بين أطراف الأزمة التشادية في النصف الأول من العام الجاري وانتهت في أغسطس/ آب الفائت بتوقيع محمد ديبي اتفاقًا للسلام مع جماعات المعارضة المسلحة.
ويقول الباحث إن قطر تملك ميزة التواصل المباشر مع حكومة باماكو، ومقدرات واضحة في التفاهم مع الجماعات المسلحة والإسلاموية في شمالي البلاد لعرض وساطتها المؤهلة للنجاح أكثر من غيرها. ذلك بتوفير “جوائز” سخية لمختلف الأطراف. مع ضرورة ربط هذا المسار القطري بالسياسات التركية النشطة في إقليم الساحل على حساب التراجع الفرنسي الملحوظ.
معضلة ليبيا
أيضًا، حضرت قطر في أزمتي ليبيا والصومال وليبيا بشكل مبكر للغاية. وكان الدور القطري في شرقي ليبيا ملفتًا حتى قبل سقوط نظام معمر القذافي وما تلاه من تقارير متواترة عن تورط قطر (ودول أوروبية وعربية أخرى) في تصدير شحنات كبيرة من النفط الليبي على نحو غير رسمي لفترات متقطعة بعد فبراير/ شباط 2011.
ومع تعقد الأزمة الليبية حتى اللحظة الراهنة، يبدو أن ثقل النفوذ القطري انتقل بشكل تام تقريبًا لينحصر في الجزء الغربي من البلاد (في تطابق خرائطي مع النفوذ التركي).
ومع حدوث تقارب قطري مصري في الأسابيع الأخيرة جاءت تقارير مختلفة نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الفائت تؤكد انفتاح الدوحة على القوى السياسية في شرقي ليبيا للمرة الأولى منذ سنوات. ذلك وسط تحليلات تشير إلى انفتاح القاهرة نفسها على دور قطري “معقول” لموازنة اضطراب خريطة النفوذ الإقليمي والدولي في ليبيا (من وجهة نظر الأولى).
وهنا، يقول الباحث إنه إذا أُخذ في الاعتبار حاجة القاهرة إلى رافعة اقتصادية قوية لتعزيز مكانتها في “محاصصات” إعادة بناء الدولة الليبية وتعويض أي توتر مستقبلي في التنسيق مع “حلفاءها” الإقليميون التقليديون في ليبيا في هذا الملف، فإن قطر توفر هذا البديل بشكل جاد. لاسيما في ضوء مقدرات مصر السياسية والاقتصادية والأمنية الكبيرة في الأزمة الليبية كدولة جوار هامة وسعي الدوحة المرتقب للتنسيق مع القاهرة للصالح المشترك.
أزمة الصومال
أما الصومال، فقد فَقَدَ التحالف القطري التركي هناك، والراسخ طوال سنوات حكم الرئيس الأسبق محمد عبد الله فرماجو، بوصول الرئيس حسن شيخ محمود (مايو 2022)، الكثير من تأثيره التقليدي، وسط تغيرات إقليمية أشمل سواء في تخفيف الاستقطاب مع “المحور السعودي- الإماراتي” أو التغيرات السريعة في إقليم القرن الإفريقي برمته.
وتبرز احتمالات الوساطة القطرية في الصومال بين الحكومة الفيدرالية و”الجماعات الإرهابية المسلحة” (خاصة جماعة شباب المجاهدين)، رغم أحداث العنف والإرهاب التي شهدتها العاصمة مقديشو منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الفائت. حيث تتصاعد دعوات دولية وأمريكية بالتفاوض مع هذه الجماعات لتعزيز عملية سحب القوات الأمريكية أو إعادة انتشارها في إقليم القرن الإفريقي؛ وضمن استراتيجية خفض تكلفة “محاربة الإرهاب” عبر المسار التفاوضي والوساطي.
وربما يؤشر اجتماع الرئيس حسن شيخ محمود، الذي يسعى حسب مراقبين معنيين بإعادة ترتيب أولويات حلفاء بلاده وشركائها، بالسفير القطري في مقديشو نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الفائت إلى تطلع الصومال لمساهمة قطرية فاعلة في ملف مواجهة الإرهاب ضمن جهود تقوية العلاقات بين البلدين.
قطر.. الدور الرئيسي في معركة الطاقة
كذلك، لم تفقد قطر دورها بتراجع سياسات “الحرب على الإرهاب”، فبحكم كونها “لاعبًا رئيسًا في الأسواق العالمية (للطاقة)”، تصاعد دورها مجددًا مع أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبعته من أزمة عالمية في الطاقة.
هنا، يشير الباحث إلى سعي الدوحة، حتى قبل الأزمة الأوكرانية، إلى التقارب مع الاتحاد الأوروبي؛ لخفض اعتماده على الغاز الروسي. ذلك على نحو يتطابق مع السياسة الأمريكية في هذا الصدد. وقد تبينت بعض أبعاد هذا السعي في إعلان قطر منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عزمها ضخ استثمارات ضخمة لتوسيع مرافق تخزين الغاز الطبيعي المسال في جنوب ويلز، وتحديدًا في ميناء ميلفورد هيفن Milford Haven، أحد أكبر الموانئ الأوروبية المتخصصة في تداول الغاز الطبيعي المسال، ذلك “للتعامل مع الطلب المتزايد وسط أزمة الوقود العالمية”.
وهذا يعني دفع قطر خططها المدعومة أمريكيًا بتعويض نقص إمدادات الغاز الروسي لأوروبا. حيث تعد قطر والولايات المتحدة أكبر لاعبين دوليين في هذا القطاع.
اقرأ أيضًا: دبلوماسية “الإنقاذ” الخليجية.. ترسانة الأدوات الاقتصادية لتطويع البيئة الإقليمية
تحديات أمام الدور القطري
يختتم د. محمد عبد الكريم ورقة السياسات بأن تجارب الوساطة القطرية المتنوعة جغرافيًا وسياسيًا منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي تشير إلى توفر فرص كبيرة لنجاح الدوحة في الأزمات التي تنظرها في الوقت الحالي في إقليم الساحل الإفريقي وفي ليبيا والصومال.
وتستند هذه الفرص إلى خبرة الدوحة المشهودة في مقاربة “الفوز للجميع”، وتمتع جهودها الدبلوماسية بدعم غربي وتركي واضح، ووصول “مناطق الأزمة” إلى مرحلة “النضج” واستنفاد أغلب أطراف الأزمة قواها (بغض النظر بطبيعة الحال عن مسألة تمويل الإرهاب أو تغذية الصراعات السياسية في بعض المناطق).
أما أهم التحديات فتتمثل في الصعوبة المرتقبة التي قد تواجهها قطر في الجمع بين وجهات نظر متناقضة أو صراعية في بعض الملفات (لاسيما في ليبيا)، وقدرة الدوحة على تفهم أعمق للأزمة المتفاقمة في مالي ووجود عناصر وتوجهات “هوية قومية” في شمالي البلاد إلى جانب الجماعات المسلحة والراديكالية التقليدية. وكذا تهدئة مخاوف فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي إزاء تحسبات التنسيق التركي-القطري وتكامله السياسي والعسكري في إقليم الساحل بأكمله.