يقف شاب ثلاثيني على كرس خشبي بمنطقة بولاق أبو العلا، يتقاذف قطع الملابس في الهواء، لجذب الجماهير لبضاعته المعلقة على مواسير معدنية والمبعثرة على طاولة خشبية، لا يمل من ترديد عبارة “قرب بـ 2 جنيه” التي تعني في الثقافة الشعبية الدارجة حاليًا “20 جنيهًا”.

sss

يتجمع المارة حول الشاب الذي يحمل في يديه مجموعة من الأوراق النقدية متنوعة الفئات، ويضع ما يأخذه من عملات من الفئات الكبيرة في فمه قبل إعادة الباقي للزبائن وإعادة تجميع حصيلة بيعه في يديه، يحاول بأس طريق تصريف باعته واستغلال موسم الشراء الذي يتزايد قبل شهر رمضان وعيد الفطر.

يقول محمد عليّ، عند سؤاله عن الوباء والاشتراطات الصحية نصًا: كورونا أيه؟. عندي أربعة أطفال.. لو قعدت في البيت.. أجبلهم أكل منين.. الكمامة لبستها يومين بس قلعتها.. ما أقدرش أجيب واحدة كل يوم بـ 10 جنيه”.

حال “عليّ” ككثير من البائعين في الأسواق الشعبية المصرية لا تفرق معهم الإصابة بالفيروس طالما يعودون في نهاية اليوم بما تحتاج أسرهم، فلا قدرات مالية لمن يحصلون على رزقهم يوم بيوم أن ينتظروا في المنازل أو يخشون من المرض”..

أقرأ أيضاً: وسط “رياح كورونا”.. القضاء والدولة ينتصران لأصحاب المعاشات

يبدي الشاب احتجاجًا عندما يخبره البعض بنقل النقود للمرض، يواجههم بابتسامة صفراء، ويخبرهم باستعداده لتقبيل آلاف الجنيهات الملوثة بالفيروس ففي اعتقاده أنه سيشفي من المرض حتى لو أصيب به، وستظل الأموال يتمتع بها.

يقول علي، الحاصل على ليسانس آداب قسم فلسفة ويرفض استكمال باقي اسمه خوفا من المطاردة، إن الحملات التي تشنها الأجهزة التنفيذية على الأسواق لن تنهي وجودها فالباعة والمشترين لديهم مصلحة مشتركة في بقائها، فلا يستطيع عائل أسرة بسيطة أن يشتري لأبنائه من محلات تجارية غالية الثمن ووسيلته لكساء أبنائه تظل عبر فروشات الشارع.

شنت محافظة القاهرة، أمس، حملات مكبرة لإعادة الانضباط لمنطقتي الموسكي والعتبة لاستمرار منع الباعة الجائلين من التواجد في المنطقة، وطالبت أصحاب المحال والمترددين على المكان بمنع التجمعات حرصًا على سلامتهم مع إيجاد وسيلة تنظيمية لعملية البيع والشراء خلال الفترة المسموح بها قبل مواعيد الغلق لتسهيل حصول المواطنين على احتياجاتهم مع عدم التكدس.

يبلغ الباعة الجائلين في مصر نحو 6 ملايين مواطن، وتحافظ الدولة بشكل غير مباشر على وجودهم، باعتبارها وظيفة لا تكبد ميزانياتها شيئًا في ظل ارتفاع تكلفة فرصة العمل الواحدة في المشروعات متناهية الصغر والصغيرة التي تصل إلى 20 ألف جنيه.

ظلت تلك المهنة حتى عام 2000 تستقطب غير المتعلمين، لكنها استطاعت عبر 20 عامًا أن توسع دائرة عناصرها لتضم عدد كبر من حملة المؤهلات العليا الذين لم يجدوا فرصة عمل بقطاعات أخرى، واستطاعت تلك الفئة توفير بضائع تناسب دخل الفئات الفقيرة في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر  إلى 48%.

ووفقًا للاتحاد النوعي للجمعيات للتنمية الاقتصادية، فإن مهنة الباعة الجائلين تضم المرأة وبنسبة لا تقل عن 30%، كما أنها تفتح تصريفا مستمرًا للمشروعات المنزلية والعائلية والأسر المنتجة بأسعار جيدة، وترفع مستوى المعيشة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والأسري.

يعرف الباعة جيدًا أن كورونا وباء لكن ليس بالأمر حيلة، يعتبرون المنحة التي وفرتها الدولة للعمالة غير المنتظمة بـ 500 جنيه غير كافية فلديهم  التزامات مالية وبضائع يجب دفع ثمنها للمصانع، وتجار الجملة،  وأعباء حياة متزايدة من إيجارات لوحدات سكنية وغيرها.

أقرأ أيضاً: بين اليأس والأمل ..آلام العمالة المؤقتة في زمن الأوبئة

في شارع الخان بطنطا بمحافظة الغربية، يحتشد الآلاف يوميًا لشراء مستلزمات رمضان، في تجمعات بشرية لا متسع فيها لقدم، تبدو الحياة طبيعية تمامًا كأي يوم عادي ولا يبالي الجائلون والبائعون بالصحية فمعادلتهم الأصعب هي توفير لقمة الخبز لأبنائهم.

يقول أسامة ريكو، الذي يفترش سوق الخان بطنطا بمجموعة من ملابس الأطفال الصغيرة والجوارب، إنه جرب البيع على الانترنت ولكنه فشل في الوصول للزبائن، فجمهوره من البسطاء لا يعرف على الانترنت غير موقع “فيسبوك” فقط ولم يقم طوال حياته بطلب إلكتروني.

يضيف أن الزبائن التي تأتيه تشتري بضاعة بعشرة جنيهات وترفض أن تدفع قيمة توصيل بالقيمة ذاتهاـ، وبالتالي لا بديل أمامه سوى التواجد في السوق والبيع الحذر والهروب بسرعة حال قدوم حملات للأجهزة المحلية.

يقف بجوار “ريكو”، محمد حسين الشاب العشريني الذي انضم قبل أيام فقط، إلى مهنة البائع الجائل، حاملاً مجموعة من الكؤوس الزجاجية يعرضها على الفتيات وأمهاتهن، على أمل أن تداعب خيالهن في الشراء لبيت المستقبل، مرددًا عابرة: “للجهاز يا عروسة”.

يقول الشاب، الذي ترك العمل في شرم الشيخ على خلفية توقف النشاط السياحي بسبب كورونا، إن الأزمات المتتالية استنزفت قدراته فبعد ثورة 25 يناير وتوقف السياحة جاءت حادثة سقوط الطائرة الروسية ومع تحسن الأمور حلت كورونا، وفي كل مرة تضيع مدخراته ما جعله يشعر بأن “أمواله كما لو كانت حرامًا”.


تشتكي نقابة الباعة الجائلين باستمرار من دخلاء المهنة التي انضم إليها عمال سابقون في قطاعي السياحة والتصنيع، معتبرة أن ما تشهده الشوارع في وسط القاهرة من امتلائها بالفروشات والباعة، سببه أشخاص غير مسجلين لديها ولا تعرف عن أوضاعهم شيئًا.

يواجه الباعة يوميًا لمطاردات من شرطة المرافق ورجال الوحدة المحلية المختصين بالتراخيص ومصادرة بضائعهم وعدم عودتها عند تسديد الغرامة، لكنهم يطورون باستمرار أساليب للبقاء في الشارع، سواء في كورنا أو قبلها، وأصبحت لديهم أنف بوليسية تستشعر الخطر وتعود مع زواله، وطوروا من مفروشاتهم بصناعة طابلوهات خشبية ذات أرجل متحركة أو قابلة للطي لسرعة الهروب بمجرد سماع صافرة إنذار سيارات الشرطة.

في القطارات الدرجة الثانية، يتحرك عشرات البائعين كالمعتاد، بعدما اختفوا لعدة أيام جسوا خلالها نبض الشارع، وتغلبوا على التشديدات الاحترازية لمحطة السكك الحديدية، وتمكنوا من الدخول عبر دهاليز وفتحات الأسوار كالمعتاد، ليعرضوا بضائعهم التي تتراوح بين أكواب الشاي والمأكولات وحتى الملابس.

يختلف باعة القطارات عن أبناء مهنتهم المنتشرين بالشوارع في اكتسابهم قدرة على التحرك السريع في أشد درجات الزحام وتوظيف بضائعهم لتتماشي مع قدرات الزبائن سواء في التعبئة أو التناول، بتقسيمها لأصغر وحدات ممكنة لتقليل ثمنها لتتناسب مع ظروف الجماهير الصعبة.

يقول أحد باعة الجوارب بالقطارات، رفض ذكر اسمه خوفا من الملاحقة، إن أوضاعهم باتت أفضل منذ حادث سقوط بائع من قطار فاخر قبل شهور، فعمال السكك الحديدية يخشون المسئولية القانونية ويكتفون بالتنبيه عليهم فقط، بعدم إلقاء البضائع على أرجل الركاب الجالسين كالمعتاد لتحاشي تعدد لمس البضائع باستمرار.

يخضع تنظيم الباعة الجائلين بمصر حاليا لقانون صدر قبل 63 عامًا، والذي لم يشهد إلا بعض التعديلات الطفيفة التي تضمنت تغليظ الغرامات والعقوبات ويكرس فكرة معاملة  البائعين كأشخاص ذوي خطورة يجب تحجيم دورهم وانتشارهم رغم تقدير اتحاد جمعيات التنمية الاقتصادية حجم تجارتهم بنحو 80 مليار جنيه.

يمتلك الباعة أساليب خاصة في ترويج بضائعهم شبيه بالوكالات الإعلانية التي تجعل الجماهير تتفاعل معهم، بالغناء والشعر أحيانا أو حكم الحياة أو حتى المواقف الكوميدية التي تدفع الركاب للضحك وتدفعهم إلى الشراء.

معظم باعة القطارات قادمين من الصعيد بعدما فشلوا في الحصول على فرصة عمل هناك، ويتحركون من الخامسة صباحا وحتى الثامنة ونصف ليلاً لتوزيع بضائع لصالح تجار جملة وشركات معروفة في إنتاج الشيكولاته وأقلام الجاف، ويمثل ذلك الدخل الوحيد لهم.

يضيف البائع أن التعرض للخطر أصبح أسلوب حياة للبائعين تعودوا عليه، فالقلق سمة لحياتهم، قلق من التعرض للضبط في وسائل المواصلات وخسارة بضائعهم وقلق من إمكانية التعرض للعدوى، وقلق من المستقبل ودم قدرتهم على بناء حياتهم، لكن لا بديل.

أقرأ أيضا:أطفال الشوارع..  خطيئة مجتمعية تهدد بالانفجار

تكونت ظاهرة الباعة الجائلين في القاهرة وضواحيها في فترات الستينيات والسبعينيات بسبب الهجرة من الريف والصعيد بحثًا عن فرصة عمل مع انحسار الرقعة الزراعية، وكانت أحد أسباب انتشار المناطق العشوائية المتاخمة للقاهرة.

تدرس لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس النواب اقتراح بقانون لتنظيم الباعة الجائلين والأسواق الخاصة بهم، وتنص مادته الأولى على أن يعد بائعا متجولا كل من يبيع سلعًا أو بضائع أو يعرضها للبيع أو يمارس حرفة أو صناعة بأي مكان عام دون أن يكون له محل ثابت ودائم، وكل من يتجول من مكان إلى آخر أو يذهب إلى المنازل ليبيع سلعا أو بضائع أو يعرضها للبيع.

يحافظ الباعة الجائلين على علاقة الكر والفر مع أجهزة الدولة منذ عشرات السنوات، فتاريخ وجودهم يعود على عصر المماليك، حينما انقسموا لنوعين أحدهما جائل يحمل البضاعة فوق الرؤوس، وآخر يسمى أرباب المقاعد الذين يفترشون أرض الأسواق.