أن تستغل أنظمة ديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وآسيا و إفريقيا أزمة كورونا العالمية  لتشديد قبضتها على شعوبها وتوسيع صلاحيات السلطة التنفيذية ، أمر مفهوم ولا يضيف جديدا لأن الأسباب معروفة ولا يخلتف عليها اثنان ، وهو ما شجع  أنظمة ديمقراطية على  توسيع صلاحياتها أيضا  بمقتضى حالة الطوارئ المباغتة حفاظا على أرواح المواطنين ، كلها  إجراءات لها مبرراتها القانونية والعقلانية وتفرضها الضرورة ، ولكن  التمادي في استخدام تدابير مشددة غير مسبوقة على المواطنين والتي من شأنها أن تتجاوز حدود الدولة القانونية ، هو ما يثير كثيرا من علامات الاستفهام حول مستقبل هذه الديمقراطيات بعد انتهاء  تلك الأزمة العالمية ، والتي قد تضعها في “حجر قمعي دائم ” في كثير من مناطق العالم ، بعد القضاء على الوباء و”تفكيك الحجر الصحي “.

sss

لا يزال سيل الصلاحيات الجديدة متدفقا كي يسبق اجتياح الفيروس الذي يتفشى بسرعة تسبق عقارب الساعة كل يوم

أعلنت اليابان أنها تستعد لتمديد حالة الطوارئ خارج المدن الكبرى لتشمل كافة أنحاء البلاد ، بينما منحت الحكومة الإسرائيلية جهاز الأمن الداخلي ، الشاباك صلاحيات جديدة في إطار خطتها للطوارئ ، والتي تكتمت  عليها عكس الصلاحيات السابقة التي تعمل على تتبع المصابين ومخالطيهم بوسائل تكنولوجية تستخدم في حرب “إسرائيل” على المقاومة الفلسطينية.

 الحكومة الإسرائيلية رفضت إعطاء أي تفاصيل عن الصلاحيات الجديدة، يوحي وكأن الفيروس “منظمة إرهابية” يجب إخضاعها بطرق أمنية، رغم أن الذين يتم إخضاعهم وتطويعهم على اختراق الخصوصيات ومراقبة الدولة للأفراد بدون قرار قضائي، هم “مواطنو إسرائيل” وليس أي جهة أخرى، حتى الفيروس.

منظمات حقوقية  حذرت من استغلال عديد من الحكومات تشتيت انتباه المواطنين لتحقيق المزيد من السلطة

وفي الولايات المتحدة، طلبت وزارة العدل من الكونجرس صلاحيات واسعة، والتي بموجبها سيسمح بمنع الحماية القانونية من طالبي اللجوء واعتقال المدنيين إلى أجل غير مسمى ودون محاكمة ، ولكن قدمت الوزارة مشروع قانون أكثر اعتدالا  بعد معارضة الجمهوريين والديمقراطيين.

في حين سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالإعلان أن بلاده في حالة حرب ، تستلزم الطوارئ ، ولكنه عاد هذا الأسبوع ليعترف بأن هناك أخطاء ارتكبت.

أما القانون الأساسي الألماني فهو يمنح صلاحيات طوارئ في حالات محدودة ، لكن ليس منها حالة تفشي الوباء ، لذا لجأت إلى توسيع نطاق القانون القائم ليشمل الحماية من الأمراض الوبائية ، وهو ما واجه انتقادات بأنه “تمكين ذاتي مفرط للسلطة” ، لكن ميركل كانت نموذجا للعقلانية الهادئة  .

اقرأ أيضا :مخاوف عالمية من انتهاك الخصوصية تحت غطاء مراقبة انتشار كورونا

أما الإجراءات القانونية الجديدة التي تتخذها بريطانيا ، فهي  تمنح  الوزارات الحكومية سلطة احتجاز المدنيين أو عزلهم لفترة غير محدودة من الوقت، وحظر الحشود والمظاهرات، وإغلاق الموانئ والمطارات، لكن هناك لوائح أخرى المعروفة باسم “سلطات هنري الثامن “من شأنها أن تمنح  صلاحيات غير منضبطة.

 كورونا كان بمثابة فرصة لكثير من زعماء العالم، لتشديد قبضتهم ومنح أنفسهم صلاحيات كبيرة.

وفي المجر، تم منح رئيس الوزراء صلاحيات مفتوحة، كما تم نشر الجيش في الشوارع والميادين في تشيلي ، التي شهدت مظاهرات قبل انتشار الفيروس  كما قام رئيس الوزراء التايلاندي تشان أوشا  بقمع وسائل الإعلام ومراقبتها، فضلا عن مقضاة وتهديد صحفيين انتقدوا الحكومة على خلفية أزمة كورونا .

لكن خبراء القانون الدستوري يوضحون بأن هذه التدابير منصوص عليها في القانون الدولي، خاصة ما يتعلق بمنح صلاحيات جديدة لإغلاق الحدود وفرض عمليات الإغلاق وتعقب المواطنين المصابين وباقي التدابير الاستثنائية.

مستقبل الدولة القومية

يسلط  هذا الوباء الضوء على الأهمية المستمرة للدولة القومية أو ما يسمي بـ”دولة الأمة ” ، ولكن ما الذي يفعله لـ”أنظمة تشغيل ” الدول القومية ، أي دساتيرها ، هي مسألة أقل وضوحا رغم أنها على مستوى الأهمية ذاتها .

والدولة القومية هي منطقة جغرافية تتميز بإنها تستمد شرعيتها السياسية من تمثيلها أمة أو قومية مستقلة وذات سيادة ، فالدولة كيان سياسي وجيوسياسي بينما دولة القومية هي كيان ثقافي وإثني.

اللوائح البريطانية  المعروفة باسم “سلطات هنري الثامن “من شأنها أن تمنح  صلاحيات غير منضبطة.

ومصطلح “دولة القومية” يفيد التقاء وتوافق السياسي الجيوسياسي مع الثقافي والإثني معا، تشكل “دولة القومية” يمكن أن يحدث في أوقات مختلفة وبقاع مختلفة من العالم.

توفر الدساتير المبادئ القانونية لنظام الحكم بالدول وعلاقاتها بالمجتمع المدني ، فهي بمثابة كتب القواعد  التي تجعل الدولة القومية مؤثرة وشرعية ومحترمة ، حسب الباحثة بالسياسة الخارجية ، ومركز الولايات المتحدة وأووبا ،  كونتسانز ستلين مولر ، التي قالت في مقالها التحليلي إن معظم الدساتير ، جرى صياغتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة ، من أجل أوقات السلام و الحياة الطبيعية  في حين يعتبر  دستور كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة استنثاء نادرا في هذا الصدد .

وتساءلت في تحليلها الذي نشره ،  معهد بروكنجز هو مؤسسة غير ربحية تعنى بالسياسات العامة وتتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها ، ما إذا كانت هذه الدساتير تستطيع النجاة من قبضة الفيروس التاجي

وقالت :” رئيس الوزراء المجري فيكتور أورفان انقض على الأزمة لكي يكمل صلاحياته شبه الديكتاتورية ، وبوسعه أن يحكم الآن من خلال مرسوم وبدون حد زمني . “

وأضافت :” مع ذلك هناك مزاعم لا تصمد ، من جانب المستبدين غير الليبراليين بأنهم يقدمون أداءا أفضل من الديمقراطيات الليبرالية التي تتعامل مع هذا التحدي  ” ، موضحة أن ازدراء حياة الناس مثلما ظهر في المعارك التي شنتها الصين وروسيا والهند والبرازيل وأنظمة حاكمة شبيهة ، ضد كوفيد 19 تعتبر دليلا كافيا .

معضلات معقدة

ولكنها استدركت بأن الديمقراطيات الغربية تواجه أيضا معضلات معقدة بينما تحاول السيطرة على الدمار الذي يتسبب فيه الوباء ، متسائلة :” ما الاستخدام المناسب لصلاحيات الطوارئ ؟ ، وكيف يمكن حماية الحريات الفردية في مقابل دولة ذات شهية جديدة لممارسة الإجبار والقسر .

اقرأ أيضا : “هيومن رايتس واتش”: نخشى استغلال حكومات لأزمة “كورونا” في قمع الحريات

ونبهت إلى “صلاحيات الطوارئ ” هي الاستثناء لأساس للدستورية الليبرالية التي تتمثل في سيادة الدولة المحدودة والتي تحمي الأفراد من الطغيان ، ولهذا السبب تسمح معظم الدساتير للحكومات فقط باعلان “حالة الطوارئ ” بمقتضى ظروف استثنائية ، وهو أحد أكثر الاختبارات الكاشفة التي يمكن أن يواجهها زعيم دولة  .

القانون الأساسي الألماني يمنح صلاحيات طوارئ في حالات محدودة ،لا تشمل  الوباء لذا تم توسيع نطاق القانون القائم ليشمل الحماية من الأمراض الوبائية

وأشارت إلى أن الدستور الفرنسي يمنح الرئيس صلاحيات طوارئ واسعة ، وسارع إيمانويل ماكرون إلى التأكيد مبكرا ، معلنا بأن فرنسا تخوض حربا ” ، ولكنه اعترف هذا الأسبوع بأنه جرى ارتكاب أخطاء،  لافتة في الوقت نفسه إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد  ترامب فاجأ أمريكا بأن السلطة الدستورية “شاملة ” فوق الولايات كلها  ، ومما يدعو إلى السخرية أن لديه صلاحيات طوارئ قانونية واسعة ، ولكنه استعملها مرة واحدة عندما أمر إحدى الشركات بتصنيع كمامات ، مؤكدا أن مسؤولية إدارة “كوفيد -19 تقع على عاتق حكام الولايات و العمد .

أما القانون الأساسي الألماني فهو يمنح صلاحيات طوارئ في حالات محدودة ، ولكن ليس منها حالة تفشي الوباء ، لذا لجأت السلطات إلى توسيع نطاق القانون القائم ليشمل الحماية من الأمراض الوبائية ، وهو ما واجه انتقادات بأنه “تمكين ذاتي مفرط للسلطة ” ، لكن ميركل كانت نموذجا للعقلانية الهادئة  و الاتصال القلبي

الدولة القسرية

ورأت الباحثة أن هذا الوباء هو “ساعة السلطة التنفيذية ” مثلما كان الوضع مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر و الأزمة المالية التي وقعت في 2008 ، مشيرة إلى أن الحكومات تتسابق في كل مكان لتمرير حزمة برامج اقتصادية ، وتحشد الهيئات لإدارتها .

وقالت إن ” الدولة القسرية ” تعود أيضا مع نية في الانتقام ، ووضع المواطنين رهن الإقامة الجبرية أو تسمح لهم بالخروج شريطة الخضوع لإجراءات مراقبة دقيقة ، مثل التعقب الإجباري .

“الصليب الأحمر” :  حظر التجول وإجراءات العزل لكبح انتشار الفيروس تجعل من الصعب بالفعل على الكثيرين توفير سبل العيش لأسرهم

وأكدت أن الحكومات تتخذ قرارات “حياة و موت ” استنادا إلى معلومات منقوصة ، ولكن سيكون هناك إغراء للسلطة التنفيذية بأن تفرط في اللعب بندرة الحقائق التي يمكن توظيفها مع إفراط في التأكيد عليها ، منبهة إلى أن هناك لحظات ينتظرها كل من الشعبويون و المستبدون ، والأكثر أهمية إذن هو ألا تسمح بالتغييرات في الوقت الراهن أن تجعل عملهم أكثر سهولة في وقت لاحق .

تداعيات مدمرة

عانت الكثير من الدول العربية وما تزال من حالات طورائ فرضت لسنوات طويلة ضد الحريات ، والتي جرى بمقتضاها اعتقالات تعسفية دون أوامر قضائية وتهم ملموسة. غير أن فرض أحكام الطوارئ يحصل أيضا في حالة الحروب وحصول كوارث وأوبئة كما في حالة وباء فيروس كورونا.

وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر اليوم إن تفشي فيروس كورونا المستجد في الشرق الأوسط يهدد بتدمير حياة ملايين الأشخاص ممن يعانون بالعمل في مناطق الصراعات وقد يفجر اضطرابات اجتماعية واقتصادية.

وأضافت اللجنة أن حظر التجول وإجراءات العزل المفروضة في إطار تدابير الحفاظ على الصحة العامة لكبح انتشار الفيروس تجعل من الصعب بالفعل على الكثيرين توفير سبل العيش لأسرهم.

الشاباك يحصل على صلاحيات سرية جديدة للسيطرة على الفيروس وكأن الوباء منظمة إرهابية يجب إخضاعها بطرق أمنية 

وحثت اللجنة، ومقرها جنيف، في البيان الذي ذكرت فيه بالاسم سوريا والعراق واليمن وقطاع غزة ولبنان والأردن، السلطات في المنطقة المضطربة على الاستعداد “لتداعيات مدمرة محتملة” و“زلزال اجتماعي واقتصادي.

اقرأ أيضا :احذر المراقبة .. “بصمة الوجه” سلاح جديد لتعقب المعارضين والمجرمين

وكانت منظمات حقوقية قد حذرت من استغلال عديد من الحكومات تشتيت انتباه المواطنين لتحقيق المزيد من السلطة ، حيث قالت وبحسب بيونيلا ني أوولين، مراقب الأمم المتحدة لحقوق  الإنسان ، إن العديد من الحكومات تعد قائمة بالإجراءات اللازمة لتعزيز سلطاتها وتنفيذها في حالات الطوارئ أو الأزمات، وتقول إنها تصوغ هذه القوانين و”تنتظر الوقت المناسب لتقديمها وتطبيقها”.

وهناك مخاوف بشأن تفشي الاستبداد والقمع ، والذي قد يطول أمده وتتفاقم تبعاته ونتائجه والتي تضع الحريات في حجر دائم إلى أجل غير مسمى .

اقرأ أيضا : “انقلاب كورونا “يقيد البرلمانات: ومخاوف من إصابة العالم بـ”الديكتاتورية”