لا تقل حملات التطوع لمكافحة فيروس كورونا عن جهود المقاومة الشعبية في فترات الحروب، فكلاهما ينبعان من اشتراك البشر في أنشطة تحمل قدر عالٍ من الجهد، وهدفها الدفاع عن الغير تجاه مخاطر عنيفة تهدد النظام العام ومقومات المجتمع ووجوده.

 

شكل فيروس كورونا فرق مقاومي السترات الصفراء والبرتقالية الذين يخوضون معركة تطوعية، سلاحهم فيها لا يتعدى عبوات ضغط بلاستيكية متعددة الأشكال، وذخائرهم لا تتجاوز قطرات من المياه مختلطة بالمطهرات.

وتلقت الوحدة المركزية لشئون مقدمي الخدمة الطبية بوزارة الصحة 10 آلاف طلب للتطوع، عقب 3 ساعات فقط من فتح الباب أمام الراغبين للعمل ضمن فرق الدعم الطبية بمستشفيات العزل والإحالة أو فرق التقصي والمتابعة الميدانية؛ للتصدي لفيروس كورونا المستجد.

لا تخلو المحافظات حاليا من شباب يحملون أجهزة تطهير يدوية، يتحركون دون إجبار لمساعدة الجهات الرسمية التي لا تستطيع الوصول لكل الأماكن، ويتحركون بسرعة لإنهاء مهامم قبل حلول فترة حظر التجوال المسائية عند الثامنة مساءً.

في الحارات الضيقة في القاهرة وقرى الريف البعيدة، أصبحت المُهمة مُلقاة على عاتق المتطوعين الذين يقومون بجهود توعوية بالاشتراطات الصحية، وتطهير الأماكن التي يتردد عليها القاطنون كمحال البقالة أو بيوت الفقراء وكبار السن، وتغيير ثقافة الانتشار البشري أمام الحارات التي تحمل لقب “زنقة” الوصف اللغوي الدقيق للتكدس البشري الخانق داخلها.

يقف محمد حمدي (32 عامًا)، ممسكًا بمضخة ملحقة بعبوة مياه غازية قديمة، أمام منازل عتيقة تحتاج إلى مصعد للهبوط وليس الصعود تعيش فيها طبقات فقيرة، ووسط أطفال يلهون ويصطدمون بالمارة، وأفراد يتبادلون السلام بالأيدى، ونساء تحيتها لا تزال تبادل القُبل، ينقل الشاب أعينه في قلق، وتداعب عقله خيالات حول معدل انتشار الوباء حال زيارته لكتل البشر التي يراها أمامه.

تنتاب “حمدي” الذي انضم لفريق من الكفاح ضد انتشار “كورونا” علامات من الدهشة وسيل عارم من الأسئلة: ماذا لو مر الفيروس من هنا؟.. ما عدد الإصابات المتوقعة حينها؟.. لماذا لم يسمع هؤلاء عن الوباء حتى الآن؟.. كيف يمكن إقناعهم بإتباع الإرشادات الصحية؟.. هل يملك من يراهم بعينيه القدرات المالية للإنفاق على المطهرات والمنظفات على مدى طويل؟.

يتعثر أفراد “المكافحة الشعبية” أحيانًا بمجموعة من كبار السن الذين يحكون عن مغامراتهم أبان الانضمام للكفاح الشعبي المسلح ضد القوات الإنكليزية بمنطقة قناة السويس خلال الستينيات، ومهاراتهم في القنص بالبنادق الروسية القديمة، التي لن تجدي نفعًا حاليًا، فمستقبل البشرية لا يتعلق بقوة الحديد والبارود حاليًا، لكن بحبة دواء أو ربما مِحقَن يخترق طبقات الجلد حاملاً معه إكسير الحياة.

يعتبر المتطوعون أن دورهم لا يقل عن فرق المقاومة الشعبية التي شكلها رسمًيا الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر بعد هزيمة يونيو 1976، وتولت تدريبًا من قبل القوات المسلحة حينها، للعب أدوار في حماية ظهر المقاتلين بمناطق الاشتباك، ومنع مدن كاملة من السقوط، مع اختلاف العدو بين جيوش منظمة أو وباء لا يرى بالعين ولا يمكن التوقع بسلوكه.

يقول حمدي إنه لافارق بين المتطوعين للعمل في مستشفيات الحجر الصحي الذين يواجهون خطر العدوى أو الذين ينقلون البضائع لغير القادرين لحماية النسيج الاجتماعي وفرق المقاومة الشعبية التاريخية التي أدوار فعالة في حماية المدن والمصانع وإمداد وسائل المعيشة المختلفة للمواطنين في أوقات انشغال المؤسسات الرسمية بالمعارك العسكرية، ولعبوا أدواًرا  في التصدي لبعض الثغرات الحربية عام 1973 وتأمين الجبهة الداخلية.

ربما تتماشي تلك القناعات مع مسميات حملات التشجيع على التطوع في مواجهة الوباء التي تمنح المشاركين فيها حالة من النشوة النفسية كفدائي في ساحة المعركة مثل “كن بطلاً” أو “إنقذ مدينتك” أو “وطنك يناديك” والتي تشبه شعارات سادت فترة حروب الاستنزاف بمصر في أعقاب نكسة يونيو على غرار “إنا فدائيون” و”قومي يا مصر” و”صفوف .. صفوف”.

أقرأ أيضاً:  “هدية اليابان للعالم” .. هل يوقف “أفيجان” زحف كورونا داخل مصر؟

تلعب فرق المكافحة الشعبية، حاليًا، أدوارًا مكملة لإعلام الدول الرسمي في مخاطبة فئات عمرية لا تتابع التواصل الاجتماعي، وما تزال تنكر وجود مرض من الأساس وتشكك فيما يصدر عن الهيئات ذات الصبغة الحكومية، مستغلين عنصًرا لا يتوافر للمسئولين يتعلق بالثقة المباشرة فغالبية المتطوعين، يعملون بالأحياء التي يعيشون بها، ما يعطيهم مصداقية أكبر من الغرباء.

يرى محمود علي، أحد المتطوعين في حملة تطهير المنازل بالجيزة، أن الأدوار الشعبية هي الحاسمة حاليًا في حل أزمة كورونا فالسيطرة عليه لن تتم بقرارات رأسية حكومية، ولكن باقتناع جماهيري بخطورة الموقف وتبرع القادرين ماليًا، وهنا تكمن أدوار المتطوعين في الوصول للفئات التي ليس لديها القدرات المالية على تطهير أحيائها بالكامل، أو التي ما زالت تنكر وجود أزمة من الأساس.

تتسم موجات التطوع الحالية بطبيعة مغايرة عن المبادرات المجتمعية السابقة مثل حملات توزيع الكساء والأغطية على المحتاجين أو حملات التبرع بالأغذية للفقراء قبيل شهر رمضان أو حتى ترميم المنازل وتوصيل الخدمات لها في المناطق الفقيرة، فحجم المخاطرة يجعلها تعاني نقصًا في العناصر البشرية المدربة، التي يمكنها التعاطي مع الجمهور، والقيام بدورها دون تعرضهم لشبح العدوى.


يقول علي إن فرق الكفاح الشعبي ضد “كورونا” تتسم حاليًا بالمحلية وليس العمومية، فغالبية المتطوعين يقصرون جهودهم على المناطق التي يعيشون فيها فقط، ولا يفضلون الاشتراك في حملات المناطق الأخرى، لتصبح الأولوية الأولى لدى الجميع مواجهة الخطر المباشر بالمنطقة التي يعيشون فيها.

يغير الشاب، الذي يقترب من عامه الثلاثين، طريقة حديثه وفقًا للمتلقين، ليردد خطابًا شبيهًا بجلسات الأصدقاء في المقاهي ودعابات مواقع التواصل الاجتماعي لكسر حاجز الجليد قبل أن يحاول إقناعهم بالتوقف عن ارتياد المقاهي أو تدخين النرجيلة، ويتحول إلى شخص آخر مع كبار السن، ليسوق معلومات قديمة عن الأوبئة للوصول إلى أرضية مشتركة تكسر تحفظ المسنين دائمًا على تلقي نصائح من الأصغر سنًا.

تتتسم الصبغة المحلية التي يعمل بها “الكفاح الشعبي” حاليًا إزاء فيروس كورونا حاليًا فترات الانفلات الأمني التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، والتي نظم فيها قاطنو كل شارع لجانًا شعبية تتغير على مدار اليوم، تتولى مهام حفظ الأمن في الأحياء السكنية، ومنع الغرباء من الدخول، وحالت دون تفشي السرقات بعد انسحاب القوات الشرطية من الشوارع بعد اشتباكات عنيفية مع المتظاهرين حينها.

أقرأ أيضًا: بعد 100 يوم من ظهور كورونا.. إشادة عالمية بجهود مصر في مواجهة الوباء

يرى بعض المتطوعين أن “محلية” تقديم خدمات التوعية من المخاطر الصحية أو ورعاية المصابين بالأمراض المزمنة تتطلب ملكات لغوية وتجارب تتوافق مع الثقافة المحلية للحصول على الرضا المعنوي من قبل المخاطبين، وأن يملك المتطوع ذاته رغبة في زيادة رأسماله النفسي الاجتماعي والصحي، فلا عائد مالي من وراء تخصيص وقته لتلك الأنشطة.

جهود قروية

في المناطق الريفية والنائية، يسود التشكك الدائم الأهالي تجاه الغرباء، ولا تهتم غالبية القطاعات السكانية إلا بالمصلحة المباشرة فقط، ولا تستجيب إلا لعناصر محلية يثقون بها وبمؤهلاتها العلمية، تتحدث معهم بنفس اللهجة المحلية التي تختلف في دلالات أو نطق بعض الكلمات.

شكل محمد عطية، صيدلي بإحدى قرى محافظة الغربية، خلية مكافحة محلية من مختلف الأعمار وتولى كل منهم دور يتناسب مع فئته العمرية وطبيعته النوعية، ليقوموا بحملات توعية بمكبرات الصوت وإنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي للرد على الاستفسارات.

يقول عطية إن فريق العمل استطاع تطهير جميع المؤسسات الحيوية والمحال التجارية والأسواق التقليدية والمراكز والعيادات الطبية ثلاث مرات أسبوعيًا، وامتد الأمر بعدها إلى وسائل المواصلات الخاصة بالمواطنين ومركبات التوكتوك، والمرور في الطرقات لمنع الناس من الخروج من منازلهم أو التجمع في الشوارع.

وفر المتطوعون، في القرية التي تبتعد عن القاهرة قرابة 100 كيلو متر، أقنعة مجانية عبر التبرعات للخفراء النظاميين وأفراد النظافة، وتوقف عدد منهم أمام ماكينات الصراف الآلي لتطهيرها باستمرار في أوقات ذروة صرف الرواتب، بينما تخصص بعضهم في الوقوف أمام المخابز العمومية من الصباح الباكر لتنظيم المواطنين، وترك مسافة متر بين كل منهم، لمنع انتشار العدوى.

تسود المخاوف بالريف أكثر من المدن مع حلقات الاتصال المستمرة بين الأجيال التي حفظت جزءًا من تاريخ الأوبئة، فكثير ممن قاربوا الخمسين يحفظون حكايات متوارثة عن آخر موجة لـ”الكوليرا” التي ضربت مصر في نهاية الأربعينيات والأعداد الضخمة التي فتكت بها، والإجراءات الصحية التي تم إتخاذها حينها، ولا تختلف عن المتبعة حاليًا من العزل الاجتماعي لبؤر الإصابة والاعتماد الأساسي على مادة الكلور في التطهير.

تعدت مجهودات فرق المكافحة الشعبية، حاليًا، مواجهة فيروس”كورونا” إلى حملات طرق أبواب للتوعية بالإرشادات الصحيحة لاستخدام المواد المطهرة ومواد النظافة والتعقيم وخطورة الإسراف في استخدامها أو الدمج غير المدروس لمكوناتها بعد وفاة مواطنة بسبب خلطة كيمائية خاطئة، وشكوى العديد من المواطنين من أعراض تنفسية كالاختناق، وحدوث حالات حرائق بالمنازل بسبب استخدام الكحول الإيثيلي بجوار مصادر الكهرباء.

ويتخوف الأطباء بمصر حاليًا من حدوث مشكلات صحية عامة بسبب خلطات التطهير ووسائل التعقيم المتبعة،  بعدما اعتمد الأهالي على ماكينات رش المبيدات الزراعية الضخمة التي وضعوها على الطرق السريعة، ويوجهون فوهاتها مباشرة نحو وجوه وأجساد الركاب، ما ينذر بإصابات في الجلد كالحروق والالتهابات أو ربما الأورام السرطانية.

يتسم أداء فرق المتطوعين بالمرونة في استثمار الموارد المتاحة، فلجأوا إلى استحداث أكياس صغيرة الحجم من المطهرات للاستخدام مرة واحدة فقط وتعميمها على المسافرين في نقاط التفتيش بين المحافظات، والاتفاق مع مصانع الغزل والنسيج على صناعة كمامات واقية من ألياف قطنية لا تسرب المياة والأبخرة وقابلة لإعادة الاستخدام بعد غسلها، لمجابهة نقص الكميات المتوفرة منها ببعض المناطق.

تمتلك مصر فرق مدربة على التعامل مع الأزمات والكوارث وإدارتها، ووضع خطة متكاملة للتغلب عليها وإزالة الآثار الناتجة عنها بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية المحلية، لكن طبيعية “كورونا” المغايرة من الانتشار السريع، والانتقال بأكثر من وسيلة عدوى، تجعلها غير قادرة وحدها على المجابهة وحدها، ويضع الجميع على قدم المسئولية للمشاركة في جهود تحجيمه.

أقرأ أيضًا: لمساندة القطاع الطبي.. المؤسسة العسكرية تتصدر معركة كورونا

يتعاظم دور فرق المقاومة الشعبية مع تنامي انتشار فيروس كورونا، وتتزايد الأدوار الاجتماعية التي يقومون بها بوتيرة متسارعة في خضم الأعباء المالية المتفاقمة التي يسببها توقف الأنشطة الاقتصادية والحياتية، حتى بات من مهام بعضها التسوق لصالح كبار السن وإعداد الطعام لصالح دور رعاية الأطفال، ومساعدة أصحاب الدخل اليومي المتضررين من التوقف المفاجئ لعجلة الحياة.