جلس سيد مكاوي على مقهي بمنطقة المنيرة وضع عليها لافتة بعنوان “النشاط” وفى نفس التوقيت الذى يسير فيه صلاح جاهين فى شارع طويل ممتد ليسأل عن المقهي، لمقابلة ملحن تذاع له أغنية مميزة فى الراديو كلماتها تقول” أخر حلاوة مفيش كدا، ماتيلا يامسعدة نروح السيدة”، صبي القهوجي أشار إلى مكاوي الجالس فى هدوء وبجواره عود خشبي لا يفارقه.
sss
ليشهد المقهي بداية تعارف وصداقة وتعاون فني كبير بين شخصان كلاهما يحمل تساؤلات فلسفية تخصه، لكن البوح بها يختلف حسب الأدوات المفضلة لهما، ويبقي غيابهما حاملا حالة خاصة فى يوم واحد حتي يتذكر الجميع سيد مكاوي وصلاح جاهين، لا فقط من خلال الفن ولكن من خلال رحلة جديدة خاضاها معا فى سنوات مختلفة.
” أخويا الأستاذ صلاح جاهين أول ما تعرفت عليه حسيت فيه حاجة معينة، انا أحب درويش لأنه يتناول كل ألحان الناس والطوائف، ولما سمعت لجاهين حاجة اسمها السوق، قعدت ادور على صلاح ده وأغني السوق ده فى كل مكان، وكان نفسي التقي بواحد زي بديع خيري كدة، ده مين الجن اللي كاتب الكلام ده قعدت ادور عليه وهو كمان سمع اني بدور عليها واتلقينا” هكذا تحدث عنه سيد مكاوي فى أحد البرامج النادرة.
كل من اقترب من سيد مكاوي وصلاح جاهين أكد أنهما يتفاهمان دون كلمات، وأن حالة التآلف الظاهرة فى أعمالهما لم تكن إلا انعكاس لحالة التفاهم الكبيرة فى الحقيقة، كما أن الأعمال التي جمعتهما كانت مميزة إلى حد كبير، وتعزف على أوتار الوطن، من بينها” حنحارب، احنا العمال اللى اتقتلوا، والدرس انتهي، واوبريت الليلة الكبيرة، البيانولا وأعمال الرباعيات التي غناها مكاوي بصوته”.
الشاعر المصري الذى كتب مئات الأشعار وغناها المطربين ، ما بين أوبريت ورباعيات وأغاني وسيناريوهات لأفلام وكاريكاتير، والتي دون فيها رحلات فلسفية أو تصورات إنسانية، أو موقف سياسي، والمطرب المصري الذى فقد بصره لكنه لم يفقد حواسه وذائقته الفنية التي جعلت موهبته ضوء خاص له، كونا ثنائيا فنيا مميزا .
أجواء الفلسفة وتساؤلات المحبة والعدل والنور والوطن والخصام والخوف والرحمة غلفتها الكلمات فى الأغاني والأوبريتات كما غلفتها الموسيقي ولم تبتعد هي الأخري عن محط الاستفهام الدائم، الموسيقي هى الأخري لديها توصيفات تشهد بها على الكلمات، قد تشعرك بالأمان فى لحظة وتمنحك طاقة لا تنتهي بالسنين.
اقرأ ايضا
5 شخصيات لنجيب محفوظ أخرجت شادية من فخ”الدلوعة”
الشارع لمين ، لم يكن تساؤلا بسيطا وضعه صلاح جاهين على الورق ليسلمه إلى ملحن، أو يكمل به مشهد سينمائى يروى غربة النكسة على طريقة مختلفة أو مجرد أوبريت اشترك فيه مجاميع وفنانين، ووضعك فى حالة تكمل لك قصة بعيدة فى ميت شابورة.
انا مش تبع مخلوق يا سيدنا البيه
انا حر في اللي يقول ضميري عليه
و إن كنت تحكم جوا ملكوتك
الشارع الواسع فاتحلي ايديه
الشارع الواسع ده ليا كمان
لأ يا ابن ابويا حضرتك غلطان
قولوا له يا ولاد الشارع لمين
قولوا له ليكون البعيد غفلان
الشارع لمين؟
الشارع لنا الشارع لنا
احنا لوحدنا
و الناس التانيـينـن دول مش مننا
دول ناس انانـيـين في مكانهم واقفين
دول مش مننا
جاء فى أحد رسائل الماجستير التي تطرقت إلى أعمال سيد مكاوي أنه أجاد التنوع فى المقامات التي استخدمها في أعماله الفنية وأن الكلمات حملت معها مفاتيح لهذا التنوع وهي رسالة كانت بعنوان ” دراسة تحليلية لبعض ألحان سيد مكاوي والاستفادة منها فى تحليل الموسيقي العربية” مقدمة من وائل طلعت وجيه، قال فيها إنه ما بين قالب الطقطوقة ” انا هنا ياابن الحلال” وما بين قالب الموال ” ليلة امبارح ماجانيش نوم” وما بين الاوبريت وألحانه المختلفة ووقعها فى ” الليلة الكبيرة” استطاع مكاوي أن يمنح الكلمات ضوء جديد .
فى نفس المقهي الذى شهد التعارف ” النشاط” بالقرب من محطة سعد غلول وحي التاريخ أوجده إلى الأبد، كتب جاهين ما أوجعه فى العدوان الثلاثي، وتداعيات الأزمة، لتظل ” مدرسة بحر البقر ” ملحمة فنية أخري أجاد التعبير فيها عن كارثة إنسانية من العدو على مصر.
الدرس انتهي لموا الكراريس، رغم أن كلمات جاهين حملت جميع الألم المرتبط بالمشهد إلا أن موسيقي سيد مكاوي وضعت للألم ملامح جديدة، بصوت شادية، وتساؤل ” ايه رأيك ياشعب ياعربي؟
الدرس انتهى لموا الكراريس
بالدم اللى على ورقهم سـال
فى قصـر الأمم المتــحدة
مسـابقة لرسـوم الأطـفال
ايه رأيك فى البقع الحمـرا
يا ضمير العالم يا عزيزى
دى لطفـلة مصرية وسمرا
كانت من أشـطر تلاميذى
دمها راسم زهرة
راسم رايـة ثورة
كانت قمة التساؤلات هي التي طرحها جاهين فى رباعياته، ” الأصل هو الموت ولا الحياة ؟” أنا مت ولا وصلت للفلسفة؟، الخلق ليه عايشين حياة مؤلمة؟
قدمت الرباعيات من خلال إذاعة صوت العرب في نهاية الستينات من إخراج أنور عبد العزيز وكانت تقدم في حلقات يومية وحققت شهرة واسعة وشيوعا كبيرا مما حدا بالمطرب علي الحجار إلى استئذان سيد مكاوي في إعادة تقديمها وقد وافق سيد مكاوي وتم إعادة تسجيلها بصوت علي الحجار.