اختصاصاتٌ عدة تقع في دائرة عمله، يعد مجلس النواب المصري منوط بشكل رئيسي ضبط التشريعات المقيِّدة لحرية الإبداع، باعتباره المسئول الأول عن هذا الأمر في البلاد، إلا أن النتائج المترتبة على ممارسة هذا الدور، جعلت أداء المجلس في هذه النقطة محل نظر.

sss

بحسب ما ذهبت إليه مؤسسة “حرية الفكر والتعبير”، فإن المجلس المنتخب في عام 2015 قد أهمل إلغاء المواد التي تقيِّد حرية الإبداع في القوانين المصرية، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، إذ وافق على القانون المُسمى بـ”قانون توقير العلم وتجريم إهانته” وسعى بعض نوابه إلى إقرار قانون يُرسي عقوبة على “إهانة الرموز التاريخية” الأمر الذي قد يُشكل خطرًا بالغًا على حرية الإبداع والفكر في مصر.

في ورقة تحليلية نشرتها المؤسسة، رصدت ما اعتبرته تضييقًا يمارسه مجلس النواب المصري على حرية الإبداع، مشيرة إلى أن للمجلس دور بارز في انتهاك وتقييد حرية الإبداع، وحث المجموعات والجهات المعنية على طرح هذه المسألة في العام الحالي، الذي يشهد إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب، بهدف مطالبة المجلس بتشكيله الحالي بالتطرق إلى هذه المسألة خلال الشهور القليلة المتبقية من مدته الحالية.

الورقة التي جاءت تحت عنوان “تجريم الخيال.. كيف ينظر البرلمان إلى حرية الإبداع؟”، تناولت الموضوع من خلال محاور جاءت على النحو التالي:

أولًا: حرية الإبداع بين الدستور والقانون

ثانيًا: البرلمان يضيِّق الخناق على حرية الإبداع

ثالثًا: تأثير التشريعات على أحكام حرية الإبداع

حرية الإبداع في الدستور

كشف الرصد، أن ثمة تاريخ دستوري مصري طويل مرتبط بحرية الإبداع، بدأ من دستور 1971 الذي في مادته الـ49 على أن: “تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك.”

وعلى الرغم من أن هذه المادة كانت بمثابة ترسيخ لموضوع حرية الإبداع كمسألة حَريٌّ بها أن تُراعى دستوريًّا، إلا أن صياغتها اعتُبرت فضفاضة ما يسمح بالتوسع في التأويل، وما سيؤدي، بطبيعة الحال، إلى تحكم السلطات التنفيذية في مسار تنفيذها وطرق تفسيرها، بحسب التحليل.

الدستور الحالي والمعدل أخيرًا في عام 2019، ولأول مرة، تضمن مادة مخصصة لحرية الإبداع تنص على منع حبس المبدعين بسبب نشر أعمالهم، وهي المادة 67، وعن طريقها أصبحت كل مادة قانونية تخالفه واجبة الإلغاء.

التحليل تطرق إلى صدور حكمين خلال العقد الأخير، وصفهما أنهما في غاية الخطورة ضد المبدعين، أولهما: في 2013 بحكمٍ بالحبس خمس سنوات على الكاتب “كرم صابر” لاتهامه بازدراء الأديان في مجموعته القصصية “أين الله؟”، والآخر الحكم الصادر بالحبس سنتين مع الشغل ضد الكاتب أحمد ناجي لاتهامه بخدش الحياء العام في روايته “استخدام الحياة”.

استشهدت الورقة، برفض المجلس مقترح تقدمت به النائبة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بفرع جامعة الأزهر بالإسكندرية، لتعديل بعض مواد قانون العقوبات لعدم دستوريتها، حيث طالبت بحذف المادة رقم 98 الخاصة بازدراء الأديان من قانون العقوبات.

كما تطرق إلى مقترح تقدم به النائبان أحمد سعيد ونادية هنري، بمشروع تعديل لقانون العقوبات، يسعى إلى إلغاء عقوبة الحبس في جرائم النشر بتهمة خدش الحياء العام، إلا أنه حظي برفض 21 وموافقة ستة أعضاء.

وبشان أغاني المهرجانات ذكر تقدم النائب فرج عامر بمقترح للمجلس لتشديد عقوبة خدش الحياء العام لتصل إلى ثلاث سنوات، وأن يكون الحبس فيها وجوبيًّا، وطالب بمحاكمة مغني المهرجانات بهذه المادة بعد تشديدها، ما يعد خروجًا عن أصول التشريع القانوني الذي يلزم بأن يكون التشريع عامًّا ومجردًا وليس مصنوعًا لاتهام شخص بعينه، وإلا أصبح القانون مُشرَّعا لمراعاة مصلحة شخصية للنائب، وأصبح مشوبًا بعيب إساءة استعمال السلطة، وبالتالي في حالة الطعن عليه يتم إلغاؤه.

تضييق الخناق على حرية الإبداع

رصدت الورقة أيضًا محاولات البرلمان التوسع في سن القوانين التي تضيق المساحة الممنوحة للمبدعين في مصر، حيث أقر “قانون توقير العلم المصري” الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور، كما طرح بعض أعضائه مشروعًا بقانون يجرِّم “إهانة الرموز التاريخية”.

مجلس النواب أقر هذا القانون ضمن حزمة واسعة من قوانين الفترة الانتقالية والتي صدرت بتوقيع الرئيس المؤقت منصور، والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.

وتنفيذًا لما جاء بهذا القانون تم الحكم بحبس الراقصة “صوفينار” ستة أشهر وتغريمها 10 آلاف جنيه لإهانة العلم المصري، بسبب ارتدائها العلم أثناء أداء رقصة.

إهانة الرموز الدينية

في نهاية عام 2019، تجدد النقاش حول هذا القانون بعد الجدل المثار حول انتقاد الشيخ الشعراوي، إذ أشار أعضاء بمجلس النواب إلى أهمية إقرار قانون إهانة الرموز التاريخية، حتى لا تكون شخصيات كالشيخ الشعراوي عرضة للنقد.

وكان الدافع وراء التقدم بمشروع قانون إهانة الرموز التاريخية ما اعتبره البعض قدحًا في شخصية صلاح الدين الأيوبي، بعد تصريحات الروائي يوسف زيدان.

بعد تصريحات زيدان بأيام قليلة تقدم النائب عمر حمروش، أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف، بمشروع القانون، مُعتبرًا أن: “الفترة الماضية، شهدت محاولات متعددة لتشويه صورة الشخصيات والرموز التاريخية”. وفي 8 نوفمبر 2017، أحال رئيس مجلس النواب مشروع القانون إلى لجنة مشتركة من اللجنة التشريعية ولجنة الثقافة والإعلام والآثار.

لقد أضر المُشرِّع من خلال مشروع القانون بنوع من المصالح وفضل مصالح أخرى عليها، فقد أضر بالحق في التعبير والإبداع الفكري لصالح المحافظة على “هيبة” الشخصيات التاريخية.

وتصل عقوبة من يهين الشخصيات التاريخية إلى 5 سنوات سجنًا، وتتحول بعدها في حالة العودة إلى ارتكاب نفس الجرم إلى 7 سنوات سجنًا، بخلاف الغرامة التي تصل إلى 500 ألف جنيه وترفع إلى مليون جنيه في حالة تكرار الفعل.

كما أنه تنبغي الإشارة إلى أن قانون إهانة الرموز التاريخية لا يتوافق مع القانون المصري، الذي تمنع مادته 67 تطبيق أي من العقوبات السالبة للحرية بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري.

وتنص المادة 67 على أنه “لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها “. كما أن مصر ملتزمة بمواد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صدقّت عليه، والذي تؤكده مادته الـتاسعة عشرة على أن: لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. ولكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف دروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.”

كذلك، يشوب القانون خلط بين النقد والإهانة أو بمعنى أكثر دقة “القذف”، والقذف كما وضحه قانون العقوبات في المادة 302: “أن ينسب إلى شخص ما فعل معين اذا صح كان واجبًا عقابه”، مثل أن تتهمه بالسرقة المعاقب عليها قانونيًّا، فإن لم تستطع إثبات أنه سارق أصبحت أنت مرتكبًا لجريمة “القذف”، وعلى الرغم من أن “القذف” جريمة في القانون المصري يعاقب عليها القانون بالغرامة التي تصل إلى 15 الف جنية مصري، تصل العقوبة إلى الحبس 3 سنوات والغرامة معًا في حالة إذا تضمن القذف طعنًا في عرض الأفراد أو خدشًا لسمعة العائلات في حين أنه من الواضح أن النقد التاريخي لا يُقصد به الطعن في ذمم الشخصيات التاريخية، بل نقد ما تُمثله، وما يتصل بذلك من عمليات تدقيق المصادر التاريخية ومُساءلة أرشيف النصوص والمرويات.

تأثير التشريعات على أحكام حرية الإبداع

في هذا الصدد، ذكرت الورقة أنه منذ الحكم على الفنانة رضا الفولي بطلة كليب “سيب إيدي” بالحبس عامًا بتهمة خدشها الحياء العام، مرورًا بالحبس عامين للكاتب أحمد ناجي لنفس الاتهام، ترسخ لدى أجهزة الرقابة أن منع الأعمال الفنية هو الأصل، وأن هناك حق أصيل لجهات رقابية متفرقة أن تقرر مبدئيًّا ما الذي ينبغي أن يصل إلى الجمهور وما ينبغي أن يتم منعه.

كشفت أيصًا أن خطورة التشريعات التي تنص على حبس الفنانين تكمن في أنها تنتزع جدوى فكرة حرية التعبير وحق النقد بشكل تام، كما انها تُعلي من شأن الرقابة على حساب دستورية القوانين، بالمخالفة للأحكام الدستورية التي تواترت على أن الإبداع هو الأولى بالرعاية، بل وتعطي حق الرقابة على المنتج الإبداعي لجهات عدة، وهو ما يؤثر على الصناعات الفنية بالكامل وفي كافة شرائحها.

لفتت أيضًا إلى أنه مع تصاعد وتيرة التشريعات المُحرضة على حبس الفنانين، أخذت النقابات الفنية موقفًا بوليسيًّا وقررت المساهمة في القبض على الفنانين، وكانت في مقدمتهم نقابة المهن الموسيقية، التي تقدمت في البداية ببروتوكول تعاون مع وزارة الداخلية لتسليم الموسيقيين، بعدها تم القبض على العديد من فناني المهرجانات وغيرهم بتهمة خدش الحياء العام لنشرهم مقاطع فيديو غنائية.

وكانت إحدى هذه القضايا التي حكم فيها على المطربة “شيما” بعقوبة الحبس لمدة عامين، ثم تم تخفيفها بعد ذلك إلى عام، أوضحت المحكمة في أسباب حكمها أنها اعتمدت على رأي نقابة المهن الموسيقية في الكليب حين قررت النقابة سحب الترخيص بعد أن منحته لشيما بعدما أثيرت الضجة حوله، ووصفت الكليب بأنه “إباحي”.