على خطى محاكمات نرومبرج التاريخية التي زلزلت معاقل الديكتاتورية الهتلرية في ألمانيا ، يشهد العالم وانطلاقا من ألمانيا مرة أخرى وقائع محاكمة علنية لضابطين ينتميان للنظام السوري ،بتهمة ارتكاب جرائم في حق الإنسانية ، وانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان وصلت إلى حد إزهاق عشرات الأرواح.

sss


وتحطم هذه المحاكمة، التي قد تمتد حتى شهر أغسطس المقبل، الحصانة التي كان يتمتع بها الجناة في سوريا، من رأس النظام الحاكم إلى قاعدته، مثلما تشكل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة، فضلا عن أنها يمكن تلعب دورا حاسما في مكافحة الإفلات من العقاب، حسب منظمات حقوقية. 

الجلاد وتابعه

المتهمان هما مسؤولان سابقان في جهاز أمن المخابرات التابع للحكومة السورية ، وانشقا عن النظام السوري وطلبا اللجوء في ألمانيا ، وهما لا يعلمان أن الأيام تخبئ لهما بداية النهاية و أن دماء الضحايا التي خضبت أيديهما لن تمحى بالتقادم . ومن ثم تعتبر المحاكمة  الأولى في العالم فيما يتعلق بالانتهاكات المرتبطة بالنظام السوري الذي يطلق يده في الإعتقالات العشوائية والتعسفية والتعذيب لنشر الخوف والرعب بين السوريين .

 الأول هو المتهم الرئيسي أنور رسلان 57 عاما حضر بصفته عقيدا سابقا في جهاز أمن الدولة وهو ملاحق بتهمة ارتكاب جرائم  ضد الإنسانية ، كما يتهمه القضاء الألماني بالمسؤولية عن مقتل نحو  58 شخصا وعن تعذيب ما لا يقل عن أربعة آلاف آخرين من أبريل 2011 إلى سبتمبر 2012، في فرع الخطيب الأمني (251)، الذي كان يديره في دمشق.

تقارير حقوقية :الحكومة السورية تمارس التعذيب، والإعدام دون محاكمة من الممارسات الشائعة في مقار الاحتجاز الحكومية في سوريا

أما االمتهم الثاني فهو إياد الغريب 43 عاما ،ضابط صف ،  متهم بالتواطؤ في جريمة ضد الإنسانية لمشاركته في توقيف متظاهرين تم اقتيادهم إلى هذا السجن بين الأول من سبتمبر و31 أكتوبر 2011.

ويواجه المتهم الرئيسي  حكما بالسجن مدى الحياة في حالة ثبوت إدانته، أما المتهم الثاني فيواجه حكما بالسجن لمدة قد تصل إلى 15 عاما.

وفر رسلان والغريب من سوريا ووصلا إلى ألمانيا حيث طلبا اللجوء على غرار مئات آلاف السوريين منذ تسع سنوات،  وهما موقوفان قيد الحبس الاحتياطي منذ اعتقالهما في 12 فبراير 2019.

ويقول رسلان إنه انشق في أواخر 2012 وتفيد عدة وسائل إعلام أنه انضم إلى صفوف المعارضة في المنفى قبل أن يصل إلى ألمانيا في 26 يوليو 2014

ويستند الإدعاء الألماني في إجراء المحاكمة على صلاحيات عامة تتيح له مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم خطيرة في أي مكان في العالم.

لا تسقط بالتقادم

التقت الوجوه مرة أخرى، ولكن تبدلت المواقع واختلفت الأسباب ، الضحايا المعتقلون صاروا أحرارا  طلقاء ، والسجان الجلاد أصبح سجينا وراء القضبان ، ورغم الاختلاف الكبير بين الجانيين والمجني عليهم ، إلا أن ثمة قواسم مشتركة  تجمع بينهم ، وهو أنهم جميعا سوريون، ويقفون على رقعة واحدة من الأرض المحايدة تتمثل في محكمة ألمانية تقع في مدينة كوبلنز بولاية راينلاند بالاتينات، وأنهم يخضعون لفروض وشروط العدالة التي تتمثل في سيادة القانون  متخذين الإجراءات الاحترازية الضرورية لتجنب الإصابة بكوفيد-19 قبل الانتهاء من المحاكمة المقرر استمرارها حتى أغسطس العام الجاري ، والتي تشكل البداية للكشف عن فضائح عن التعذيب الممنهج في سوريا والذي يشمل الاعتداء الجنسي والاغتصاب.

بالنسبة للضحايا، كان يوم المحاكمة وهو الخميس الماضي ، يشكل يوما تاريخيا ،  فهم حضروا باكرا إلى المحكمة، قبل حوالي ساعة على بدء الجلسة الافتتاحية حيث تذكروا الضرب المبرح والصدمات الكهربائية والإهانات اليومية التي استمرت شهورا .

فرصة للعدالة

وتعد المحاكمة، حسب “العفو الدولية” ، تذكيرا مهما بالحاجة إلى القيام بالمزيد لضمان المساءلة عن الفظائع المروعة الناجمة عن النزاع السوري.

كما تمثل فرصة مهمة لتحقيق العدالة للضحايا وتحذيرا صارخا لمرتكبي الانتهاكات في سوريا ، حسبما أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش ، في حين اعتبرتها المستشارة في برنامج العدالة الدولية بالمنظمة، بلقيس جراح، بأنها المحاكمة الأولى من نوعها للحظة الفاصلة بالنسبة للضحايا المصممين على تحقيق العدالة عن الجرائم التي ارتكبت بحقهم في سوريا”.

بينما وصفت الناشطة بالمنظمة بلقيس جراح المحاكمة بأنها “لحظة تاريخية”، مضيفة “يجب أن تكون المحاكمة تذكيرا قويا بضرورة مواصلة العمل من أجل محاسبة كل المسؤولين عن الانتهاكات البشعة التي وقعت أثناء الحرب في سوريا.”

اقرأ أيضا : “التحقيق الدولية ” : مستويات “غير مسبوقة” من المعاناة والألم في سوريا

واعتبرت منظمة العفو الدولية المحاكمة تمثل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة في سوريا ، حيث قالت مديرة البحوث للشرق الأوسط بالمنظمة لين معلوف إن “هذه المحاكمة بمثابة خطوة تاريخية في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين عُذّبوا، وقتلوا في سجون نظام الأسد”.

وأضافت أن “هذا الأمر لم يكن ممكناً لولا شجاعة وتضحيات الناجين السوريين، وأسر الضحايا، وعشرات من الأفراد والمنظمات الأخرى، الذين سعوا بلا كلل لتحقيق العدالة وكشف الحقيقة”.

وطالبت المنظمة جميع الدول باتباع خطوات ألمانيا في بدء إجراءات مماثلة ضد الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم بموجب القانون الدولي، بما في ذلك عن طريق تزويد وحدات جرائم الحرب بالموارد.

وتعتبر محكمة كوبلنز أول محاكمة علنية حيادية مستقلة بحق متهمين من النظام السوري بجرائم حرب ، ولكن هناك ملفات أخرى غير علنية ضد مسؤولين في النظام تنظر أمام محاكم أوروبية عدة ، على حد قول المحامي والناشط الحقوقي السوري  أنور البني في تصريحاته لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية .

العفو الدولية: المحاكمة تعد تذكيرا مهما بالحاجة إلى القيام بالمزيد لضمان المساءلة عن الفظائع المروعة الناجمة عن النزاع السوري

ويعتبر “البني ” أول من أثار ملف التحقيق، بعدما تمكن من  التعرف على “رسلان” مصادفة في مجمع للاجئين في ألمانيا  قبل خمس سنوات ، قائلا :” تذكرت أن وجه هذا الشخص مألوف لأنه هو ذاته الذي كان خطفني واعتقلني في منتصف 2006 في دمشق.”

وأضاف :” أتذكر عندما رفع عناصر دورية الأمن الغطاء عن رأسي لتسليمي إلى الشرطة، أني شاهدت وجه رسلان الذي كان رئيس الدورية.” ، معتبرا المحاكمة بأنها تاريخية لأنها المرة الأولى التي يواجه فيها مسؤولون من النظام السوري القضاء .

كما اعتبر في حوار مع فرانس برس في برلين أن محاكمة كوبلنز تشكل  “رسالة مهمة” إلى المسؤولين السوريين ومن نفذوا الانتهاكات مفادها “أنك لن تفلت من العقاب، لذا فكر بالأمر”.

 بينما أكد محامي الضحايا باتريك كروكر، أن هذه المحاكمة ليست البداية ، ” فقد قام رسلان بدور مباشر في تعذيب الضحايا ، وهناك  أجزاء كبيرة من الدعوى حيث كان هناك تورط مباشر من المتهم وقانونيا حتى ولو لم يلمس أحدا شخصيا لا يعني بأنه لم يرتكب الجريمة على حد قوله .

وأوضح كروكر، الذي يمثل ستة أطراف مدعية مدنية سورية قد تنضم إليها امرأتان، أن “القضية ليست قضية انتقام بل قضية معرفة الحقيقة ، فهؤلاء الضحايا الذين لجؤوا إلى دول أوروبية مختلفة “يريدون للعالم أن يعرف ماذا حدث هناك”.

وأشاد ناشطون بالمحاكمة معتبرين إياها “خطوة أولى نحو تحقيق العدالة لآلاف السوريين الذين يقولون إنهم عذبوا في السجون السورية”، وذلك بعد أن فشلت محاولات تأسيس محكمة دولية خاصة لمقاضاة المسؤولين السوريين.

الولاية القضائية

ويمثل الضابطان السابقان بأجهزة المخابرات السورية بتهمة جرائم ضد الإنسانية  أمام القضاء الألماني ،وذلك بعد جمع الأدلة ووفقا لمبدأ “الولاية القضائية العالمية” والذي يسمح للمدعين العامين بالتحقيق في الجرائم الدولية التي يرتكبها مواطنون أجانب على أرض أجنبية ومحاكمتهم بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.

وتعد “الولاية القضائية العالمية”، إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، والمعاقبة عليها في حال ارتكابها من خلال فرض العقوبات الجنائية.

اقرأ أيضا : لم يذكر روسيا..تحقيق أممي في قصف مواقع الإغاثة يدين الأسد وحلفاءه

 وتنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 على أن الدول الأطراف ملزمة بتعقب المشتبه في ارتكابهم مخالفات جسيمة كجرائم الحرب  بغض النظر عن جنسياتهم ومكان ارتكاب الجريمة المزعومة، وتقديمهم إلى محاكمها أو تسليمهم إلى دولة أخرى طرف في الاتفاقيات لمحاكمتهم.

وتطبق عدة دول بينها ألمانيا وفرنسا، مبدأ “الولاية القضائية العالمية” الذي يسمح لدولة ما بمقاضاة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان تنفيذ جريمتهم.

كما تتابع لجنة تابعة للأمم المتحدة “آلية دولية مهمتها تسهيل التحقيق في الانتهاكات الفادحة للقانون الدولي المرتكبة في سوريا منذ 2011”. ويقضي عملها بجمع الأدلة من أجل تسهيل إصدار أحكام محتملة ضد مرتكبي هذه الانتهاكات.

 وتملك اللجنة، التي أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيلها عام 2016 وتقدم نفسها على أنها محايدة ومستقلة، أكثر من مليون وثيقة، بينها صور وأفلام فيديو وصور عبر الأقمار الصناعية وشهادات لضحايا ووثائق غير مصنفة.

 “البني” : كوبلنز : “رسالة مهمة” إلى المسؤولين السوريين ومن نفذوا الانتهاكات مفادها “أنك لن تفلت من العقاب”

ويحاكم المتهمان بجريمة التعذيب وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي دخلت حيز التنفيذ عام 1994.

بينما دأبت الحكومة السورية على رفض التقارير التي تتحدث عن استخدام التعذيب والقتل خارج نطاق القانون في الحرب الأهلية الدائرة في البلاد والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من السوريين.

وقال المحامي السوري فراس حاج يحي في مقال له على منصة درج أي السلم “السورية ” :” يعتقد البعض أن القانون الدولي والعدالة مجرد وهم، ولكن كما كانت محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة مسؤولي فظائع النازية بوابة لتطور مسار العدالة الدولية وصولاً إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، يأمل السوريون بأن تكون محاكمة كوبلنز بوابة لمحاسبة نظام الأسد على ما ارتكبه من فظائع بحقهم.”

وأشار إلى ما كتبه  الصحفي عامر مطر وهو معتقل سوري سابق في الفرع الأمني الذي كان يعمل فيه رسلان، وهو يقيم حالياً في برلين على “فيس بوك ” قائلا :”  تم اعتقالي من منزلي في دمشق نهاية مارس عام 2011، وأخذت إلى فرع المخابرات أمن الدولة- فرع الخطيب أو ما يسمى بالإدارة العامة 285، وكان أنور رسلان رئيس الفرع حينها، وقام بالتحقيق معي وتعذيبي. اليوم هو سجين وأنا أدعي ضده أمام القضاء الألماني. تم تعذيبي والتحقيق معي بسبب عملي الصحفي وتغطية الأيام الأولى للثورة السورية. رموني في منفردات قذرة عرفت فيها أنواعاً مختلفة للتعذيب، لأن العمل الصحفي في سوريا الأسد بمثابة أبشع الجرائم. كان محقق فرع أمن الدولة يقرأ مقالاتي ويشتمني. لم تنقطع أصوات حفلات التعذيب أثناء وجودي في فرع الخطيب، تعذيب الأطفال والمسنين حتى. كنت أتمنى أن نحاكم كل المجرمين والقتلة أمام القضاء السوري في سوريا الحرة، لكن مع استمرار الديكتاتورية يمنحني القدر فرصة محاكمة أحدهم في المنفى، بعدما فقدت أملي بتحقيق العدالة”

قانون “سيزر ”

أقر مجلس النواب الأمريكي بالإجماع قانون حماية المدنيين في سوريا، والذي يعرف بقانون “سيزر” أو قيصر والذي ينص على فرض عقوبات على الحكومة السورية والدول التي تدعمها مثل إيران وروسيا لمدة 10 سنوات أخرى.

سمي قانون سيزر بهذا الاسم نسبة  إلى مصور عسكري سوري انشق عن نظام الأسد عام 2014، وسرب 55 ألف صورة لـ 11 ألف سجين قتلوا تحت التعذيب، وقد استخدم اسم سيزر لإخفاء هويته الحقيقية، وعرضت تلك الصور في مجلس الشيوخ الأمريكي، وأثارت ردود فعل عالمية غاضبة.

وقال المصور: “رأيت صورا مروعة لجثث أشخاص تغطيها الجروح والحروق وآثار الخنق والتعذيب”.

ومن المقرر أن تستعين المحكمة بصور من بين آلاف التقطها هذا  المصور العسكري الذي تمكن من الهرب من سوريا صيف عام 2013 حاملا معه 55 ألف صورة.

وكان عدد من الدول الأوروبية قد تسلم شكاوى من قبل ضحايا التعذيب، وذلك بعد تلقيهم دعم من محامين للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية.

اقرا أيضا : الاحتجاز في البلدان العربية.. تشابهت التدابير وغابت المعايير

وكانت تقارير حقوقية أفادت مرارا بأن الحكومة السورية تمارس التعذيب والإعدام دون محاكمة ، وهي من الممارسات الشائعة في مقار الاحتجاز الحكومية في سوريا وفقا لما ذكرته منظمة العفو الدولية في وقت سابق ، بينما قدرت شبكة حقوق الإنسان السورية أن حالات الاختفاء القسري بلغت 65000 حالة ، أغلبهم من المدنيين ، على يد الحكومة السورية في الفترة ما بين مارس 2011 وأغسطس 2015 ، ولازالوا في عداد المفقودين حتى الوقت الراهن .