بلافتات ترحيب وزغاريد ورقصات للخيول وطبول بلدية، يستقبل أهالي القرى المصرية الممرضات المتعافيات من فيروس كورونا بعد انتهاء فترات العزل الصحي لهن، بعضهن يتعرضن لصدمة عنيفة، وترتسم الدهشة الشديدة على ملامحهن.. ماذا حدث؟.. وكيف تغيرت نظرة المجتمع لنا في أسابيع قليلة؟.

sss

فيروس كورونا غيّرَ نظرة مجتمعية مترسخة في الريف المصري، إزاء مهنة التمريض في المستشفيات، كان سببها طبيعة عمل “ملائكة الرحمة” واضطرارهن للمبيت خارج المنازل أو العودة في ساعات متأخرة من الليل، ولم تصفح طبيعة مهنتهن في المساواة أحيانا بينهن وبين سيئات السمعة.

استقبلت قرية كفر أبوناصر بالدقهلية، قبل أيام قليلة صابرين ناجي، الممرضة بمعهد الأورام القومي بالمزمار البلدي بعد خروجها من الحجر الصحي في كفر الزيات بالغربية، وأعدوا لها حصاناً ركبته، وطافت به شوارع القرية كلها.

تكرر الأمر ذاته في استقبال الممرضات سواء بلافتات الترحيب بعزبة “بلبل” بمدينة بني سويف، أوعبر الـ “دي جي” في قرية البراشية بدمياط، والورود بقرية ميت الصارم يالدقهلية، وسيل من التصفيق في بني عبيد التي توجد بالمحافظة ذاتها، والتي تشير جميعها إلى ثمة تغييرات في النظرة المجتمعية لطاقم التمريض تتماشى مع الجهود التي يبذلنها في مواجهة الوباء.

زواج لم يتم

تشرح “ثناء”، كبيرة الممرضات بإحدى المستشفيات الحكومية وتعيش بإحدى قرى الغربية، الصورة السلبية التي صاحبت مهنتها عندما رفضت عائلة مدرس للغة العربية إتمام زواجهما رغم وجود صلة قرابة بينهما ومشاعر معروفة منذ الصغر، بحجة أن مهنتها تجبرها على المبيت خارج المنزل ولا تقبل تقاليد أسرة الزوج المستقبلي بذلك.

ظل كثيرون في الريف المصري، يتبنون نظرة سلبية مغلوطة عن تأخر الممرضات في العمل، تربطه بوجود علاقات تجمعهن بالأطباء، ويعيبون على أهالي الممرضات منطقهم المادي، بأنهم يصمتون على عملهن لمجرد أنهن يأتين بالراتب ويضعنه بين أيديهم.

وتقول “ثناء” إن الأمر تغير في نظرة المجتمع، فالجميع يقابلها بترجاب غير معتاد، ويستشيرونها في أمور تتعلق بكيفية الحفاظ على أنفسهم من العدوى، والفروق بين كورونا والإنفلونزا العادية، وتضيف مبتسمة: “أشعر حاليا كما لو كنت وكيلة لوزارة الصحة في المحافظة”.

“معايرة” الجيران والأقارب

وتعاني المستشفيات المصرية من نقص كبير في أعداد الممرضات بإجمالي 11 ألف ممرضة، للمشتفيات الجامعية ونحو 9 آلاف في مستشفيات وزارة الصحة، ما يجعل كل ممرضة تخدم قرابة 335 مواطنًا، ما يزيد من الأعباء المفروضة عليهن خاصة أن التمريض يؤدي أكثر من 60% من حجم الخدمات الطبية للمرضى.

وكثيرًا ما واجهت المستشفيات الحكومية استقالات من العمل أو إجازات بدون مرتب بمجرد زواج الممرضات، مع تصميم أزواجهن على عدم عملهن، خوفًا من أن يتعرضوا لوصمة مجتمعية أو معايرة من الجيران والأقارب.

إساءة الأعمال الفنية

وتقول الدكتورة كوثر محمود، نقيب عام التمريض، إن النظرة المجتمعية للتمريض تحسنت خلال السنوات القليلة الماضية، ويظهر ذلك في زيادة نسبة الإقبال على دراسته في المعاهد والكليات المختلفة، وستزيد النظرة إيحابية لتلك المهنة مع فيروس كورونا الذي  أظهر أهمية الممرضات.

وتذكر أن التقدير المجتمعي المستجد لجهود التمريض يصاحبه عدم تقدير من القائمين على صناعة الفن، ويتضمن إساءة للعاملن بالمهنة، وسبب غضب كبير من العاملات بها مثل، مثل فيلم “يوم وليلة” الذي صدر العام الماضي لخالد النبوي ودرة.

وتشكو نقابة التمريض من الدور الذي أدته “درة”، وتجسد شخصية ممرضة مطلقة تعيش مع ابنيها في بيت شقيقها وتنفق على أسرته، وتسرق الأدوية من المستشفيات لبيعها بالصيدليات لتعزيز دخلها، وتقيم علاقات جنسية عابرة بينها الحصول على 600 جنيه من “طبيب” ليخلو بها في مكتبه.

حملة لتحسين الصورة

ودشنت نقابة التمريض قبل أعوام حملة لتحسين صورة الممرضات في السينما والدراما بحضور مجموعة من الفنانين، وعقدت مؤتمراً حينها يستهدف صياغة سلسلة من الآليات للوصول لتلك الأهداف، واتفقت مع الفنانة الكبيرة صابرين لتكون واجهتها لتحسين صورة أطقم التمريض فنيًا.

تقول “كوثر” التي تتبنى طابعًا هجوميًا على الدراما منذ اختيارها نقيبًا، إن المجتمع غير نظرته للطاقم الطبي وسماهم “الجيش الأبيض”، لكن السينما تسيء لنحو 6 آلاف شخص يعملون في التمريض، ولذلك رفعت دعوى قضائية لمنعه من العرض لكنه متداول على موقع “يوتيوب”.

أعمال سينمائية

وتعاملت السينما المصرية كثيرًا مع مهنة التمريض من منظور سلبي وطابع هجومي، في شخصيات نمطية مثل “ناهد” التي التي تسرق الأعضاء البشرية في فيلم “الحرامي والعبيط”، أو “رباب” التي تحاول بكل السبل اصطياد رجل للزواج منها في “زيارة السيد الرئيس”، أو “فاطمة” اللعوب في “التخشيبة”.

 لكن في المقابل هناك أعمال جسدت أدوراهن المجتمعية مثل “ملاك الرحمة” و”نحن لا نزرع الشوك”، و”القلب له أحكام”، وغالبية الأعمال التي تناولت حرب أكتوبر في السبعينيات التي أظهرت أدوارهن البطولية في علاج مصابي العمليات الحربية والظروف الصعبة التي عملن بها.

وتقول الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع، إنها أزاحت كثيرًا من الغشاوات عن جهود الأطقم الطبية، وبينت أن الممرض لا يقل دوره عن الطبيب الذي يشخص العلاج ويصف الدواء، بل على العكس يستمر في تقديم الخدمة والعناية بالمريض حتى يتعافي تمامًا.

وتضيف “خضر” أن السنوات العشر الأخيرة أخلت بالقيم الجميلة وأسقطتها وسقطت معها وتنتهج ظاهرة التعليب لبعض المهن وليس التمريض فقط، مع غياب الرسالة المحترمة التي تسعى لتوصيلها، فالصيدلي يتم تقديمه مصدرًا للحبوب المخدرة، والإعلامي منافق، والمدرس تاجر للاستروكس، ولا حل إلا في عودة وزارة الإعلام، لتقوم بالدور الذي قامت به عندما كان اسمها “الإرشاد القومي”.     

سبب تاريخي

إلا أن بعض المحللين يرى أن النظرة السلبية للممرضات تعود لأسباب تاريخية ترجع إلى عهد محمد علي باشا، حيث يروي المؤرخون أنه بعد فتح مدرسة الطب إبان توليه مقاليد السلطة في مصر والتي كان مقرها في أبى زعبل سنة 1827م تأكد من أهمية إلحاق جناح للولادة ومدرسة مولدات بالمستشفى، ولكنه وجد صعوبة كبيرة في الحصول على طالبات لهذه المدرسة، حيث تغلبت الحكومة على هذه المشكلة بأن قامت بشراء عشر فتيات حبشيات وسودانيات من سوق العبيد وألحقتهن بالمدرسة، كما ضمت إليهن اثنين من الأغوات من القصر بالقلعة.

وفي عام 1835م تم ضم عشر جواري أخريات تم شراؤهن، ليصل العدد إلى اثنين وعشرين طالبة، ثم زاد العدد بإلحاق عشر فتيات صغيرات يتيمات كن مريضات أرسلن للمستشفى للعلاج وبعد شفائهن لم يطلبهن أقاربهن فألحقتهن الحكومة بالمدرسة. وفي جناح الولادة الصغير الذي بُنى ملاصقًا لمستشفى أبو زعبل تم تعليم المجموعة السابقة من الطالبات مبادئ الولادة”.