تتداعى الأفكار في رؤوس المحبوسين احتياطيًا، خاصة أولئك الذين يتم التجديد لهم باستمرار دون محاكمة، لماذا هم هنا؟، كيف يتم مساواتهم بالمحبوسين في تهم التطرف؟، ما المدى الزمني الذي يستطيعون فيه الحفاظ على حالتهم النفسية دون الوصول إلى مرحة الشطط، أو ربما اكتساب أفكار عدوانية تجاه المجتمع؟.
sss
تعكس الرسائل الأخيرة التي أرسلها الفنان شادي حبش من محبسه الذي ظل قابعا به لمدة عامين، الحالة النفسية التي وصل إليها، صحيح أن بدنه تكيف مع الأجواء التي يعيش فيها، لكن حالته النفسية لم تستطع الصمود كثيرًا، وربما كانت السبب الرئيس وراء اعتلال صحته، ونقله إلى المستشفى قبل وفاته أمس.
يقول “شادي” في إحدى رسائله: “السجن ما بيموتش بس الوحدة بتموت، أنا محتاج دعمكم عشان ما أموتش.. في السنتين اللي فاتوا أنا حاولت أقاوم كل اللي بيحصلي لوحدي عشان أخرج لكم نفس الشخص اللي تعرفوه بس مبقتش قادر خلاص”.
تؤكد رسالة الفنان الشاب (24 عامًا) المبادئ الأساسية لعلم النفس، التي تشخص الأوجاع الوجدانية، بأنها أشد صعوبة من الأمراض الجسدية، ففقدان الأمل في الحياة أو الرغبة في المعيشة قد تكون دافعًا وراء اختلال الجسد بالكامل، ودوامة أمراض لا حصر لها تدفع بصحابها نحو مصيره المحتوم.
اعتلالات نفسية
رسالة أخرى بعثها “شادي” تؤكد الاعتلالات النفسية التي تعرض لها، حينما يقول: “إن مفهوم المقاومة في السجن.. إنك بتقاوم نفسك وبتحافظ عليها وعلى إنسانيتك من الآثار السلبية من اللي بتشوفوا وبتعيشوا كل يوم، وأبسطها إنك تتجنن أو تموت بالبطيء، لكونك مرمي في أوضة بقالك سنتين ومنسي ومش عارف هتخرج منها امتى؟ أو إزاي”.
لا يختلف أطباء الأمراض النفسية على أن الدعم النفسى للمريض، يفوق أهمية العلاج الدوائي أحيانًا، ما يبرز أهمية الجانب الوجداني في حياة المرضى مهما كانت صعوبة أمراضهم، وكيف له دور هام في مساعدتهم على سرعة الشفاء، كذلك إحداثه فرقًا بالغًا في تطور الحالة.
اقرأ أيضًا.. شادي حبش.. “نهاية فنان” تعيد فتح ملف الحبس الاحتياطي بمصر
الميل للعنف
تظهر رسالة “شادي” الاحتياج الملح للدعم النفسي والشعور بأنه لا يزال يحظى بحب أصدقائه أو أنهم لم ينشغلوا بالحياة عنه، حينما قال:” “محتاج لدعمكم محتاج تفكروهم إني لسه محبوس وإنهم ناسييني.. وإني بموت ببطء كل يوم لمجرد إني لوحدي قدام كل ده.. أنا عارف إن لي أصحاب كتير بيحبوني وخايفين يكتبوا عني أو فاكرين أني هخرج من غير دعمهم ليا.. أنا محتاج لكم ومحتاج لدعمكم”.
يقول طبيب نفسي حلل رسائل شادي حبش، لكنه رفض ذكر اسمه، إن أخطر ما كتبه الشاب هي الرسالة التي يطالب فيها بمحاكمته جنائيًا على التهمة التي يرى أنها ليست موجودة، والتي تنذر باتجاه نحو تبني أي وسيلة لتفريغ الطاقة السلبية التي امتلأت بها نفسه وإمكانية ميله نحو العنف لشعوره الدفين بالظلم.
وكان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، قد أصدر الترجمة العربية لتقرير نشرته منظمة هيومن رايتس فيرست، في فبراير الماضي، الذي يحذر من أن السجون المصرية قد تتحول إلى وسيلة الإرهابيين لنشر أفكارهم، ويتضمن التقرير تلميح حول خطورة الجمع بين السجناء العاديين والمتهمين بالإرهاب في مكان واحد.
يقول شادي في رسالته حول الأغنية الساخرة التي أخرجها وغناها المطرب المقيم حاليًا خارج مصر رامي عصام، : “تحب أو تكره النوع ده من الخطاب، لكنها تفضل مجرد أغنية وناس كتير مسمعتش أبدا عنها أصلاً، وسهل الرد عليها بكل أشكال الإعلام والأغاني، أو حتى على أسوأ الظروف لو فعلا فيه جريمة قانونية، مع إننا بنشوف الشخصيات العامة بأكبر دول العالم وارد تتعرض للسخرية، فالحساب يتم عبر المحاكمة”.
ويضيف الطبيب أن الصحة النفسية تعني ببساطة قدرة الإنسان على التكيف مع ضغوط الحياة، وحالة “شادي” ربما تفاقمت مع ظهور فيروس كورونا ومنع الزيارات بالسجون ما حال دون تواصله المباشر مع أسرته، التي كانت ربما الوسيلة الوحيدة للتخفيف من آلامه ودفعه للاستمرار في الحياة.
يشير الطبيب إلى الاحتياج إلى ما يسمى بالإسعاف النفسي الذي يوجه لصالح الأشخاص الذين تظهر عليهم بوادر ضعف الحالة النفسية، حتى لا تكون محركًا للإصابة بأمراض بدنية صعبة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري، وضعف المناعة، والقولون العصبي، وحتى الموت المفاجئ.
اقرأ أيضًا.. “معركة صامتة” .. زياد العليمي من حصانة البرلمان إلى قوائم الإرهاب
كانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية قد حددت 6 فئات للإفراج عنها في ظل أزمة كورونا ، وفي مقدمتهم المحبوسين احتياطيًا، والغارمات، والغارمين، وكبار السن، وحيازة المخدرات للتعاطي الشخصي، وكل من قضى نصف المدة طبقا لقانون السجون، وأصحاب الجرائم الصغيرة، وذلك من أجل تخفيف التكدس في السجون المصرية، ومنع انتشار فيروس بين المحبوسين، ورجال إنفاذ القانون “الشرطة، النيابة، القضاء،” ووصوله إلي المرحلة الثالثة “التفشي المجتمعي”.
لم يستفد “شادي حبش” كثيرا بالرسائل التي توجهها الأعمال الفنية التي شارك فيها والتي كانت تصب في النهاية دائمًا على وجود أمل.. فالأمل كان بالنسبة له لا يغرق.. مثل مركب قوي يسبح على وجه ماء في تمايل، مهما كانت التيارات العنيفة.