لم تحقق الصين نهضتها الصناعية في يوم وليلة ولكنها ثمار سلسلة من الخطط  طويلة الأجل، التي استمرت 40 عامًا واستثمار منقطع النظير للتعاقدات التجارية مع الأجانب وجعلها مشروطة بنقل تكنولوجيا الصناعة أو وجود شركاء محليين.

sss

لا يتخيل كثيرون أن الصين التي كانت في مطلع الخمسينيات مجتمع فقير يتعاطي 10% من سكانه الأفيون ومتليء بدور الدعارة وبيوت القمار، ويموت مئات الآلاف من سكانه في الشتاء جوعا وبردًا، أصبحت تنتج ربع منتجات العالم كله  والمصدر الثاني عالميا لاستقطاب الاستثمار الأجنبي، بحجم يعادل2.1  تريليون دولار.

تمثل تجربة الصين مصدر إلهام لكثير من الدول النامية في كيفية استثمار العنصر البشري في تحقيق النمو الاقتصادي والمحافظة على مستويات نمو تتجاوز التوقعات، فقبل ظهور كورونا وصلت معدل النمو الصناعي 6.9% ومعدل المبيعات للتجزئة بلغ 8 % والاستثمارات في الأصول الثابتة بلغت 5.2 %.

اقرأ أيضًا:

50 مليون وظيفة بقطاع السياحة العالمي معرضة  للخطر بسبب “كورونا”  

تعود بداية انطلاق الصين الصناعية إلى 1978، مع تولى الحكم قيادة صينية جديدة آمنت بإتباع سياسة خارجية تقوم على الانفتاح وتهيئة البيئة الملائمة لسياسة اقتصادية ناجحة، تقوم على الإصلاح والتحديث عبر سلسلة من الخطط الزمنية المحسوبة ترتبط كل منها بأهداف لا يمكن التنازل عنها.

واستفادت الصين التجارب السابقة جيدًا فلم تتخل عن أولوية القطاع الزراعي لصالح القطاع الصناعي كما حدث في التجربة السوفياتية، والتي ساهمت في تسريع الفشل الاقتصادي، وخفصت الدولة مساهمتها في  الوحدات المملوكة لها في الصناعات التحويلية باستمرار متهجة مبدأ الشيوعية الرأسمالية فالقطاع الحكومي يعمل مع القطاع الخاص والمؤسسات المختلطة معا وفي آن واحد.

كانت أولى الخطط العشرية التي تبنتها الصين بين عامي 1980 و1990، وكان هدفها واقعي للغاية بمضاعفة الناتج القومي وتأمين الغذاء والكساء الكافيين للسكان، وجاءت المرحلة الثانية بين عامي 1990 و2000 بمضاعفة الناتج القومي أربعة مرات، والارتقـاء بمعيشة الشعب الصيني والوصول إلى الحياة الرغيدة، ووضعت بكين حاليًا خطة طويلة الأمد بدأت عام 2000 وتمتد حتى 2050 بهدف الوصول لمستوى الدول المتقدمة في نـصيب الفرد من الناتج القومي.

واتخذت الدولة خططا للاستثمار في الأيدي العاملة في الثمانينيات بتشجيع المواطنين على فتح مؤسسات صغيرة،  والاتجاه إلى التصنيع منخفض التكلفة الذي يستثمر الأيدي العاملة الرخيصة والسعر المخفض لصرف العملة الذي يمنح السلع الصينية تنافسية عالية في الأسواق التصديرية.

كما أعادت هيكلة الشركات المملوكة للدولة من خلال إدخال النظام الغربي في الإدارة وإغلاق الشركات غير المربحة، وإرسال البعثات إلى البلاد الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة.

اقرأ أيضًا:

“توقيف الضرائب وتسهيل التمويل”..سياسات إنقاذ العالم من”فقر كورونا”

وركزت الصين في بداية نهضتها الصناعية على “الصناعات الأرتكازية” التي تـضم خمـسة مجموعــات رئيــسية هي “الآلات والمعــدات” و”البتروكيمياويات” و”السيارات” و”التشييد والبناء” و”الإلكترونيــات”، وتم انتقائها لكونها كثيفة العمالة، وتتمتع بمرونة عالية للطلب في المستقبلؤ وتتسم بعشرات المراحل الوسيطة في الصناعة.

وضعت بكين “التكنولوجيا” كهدف أساسي بتشجيع الشركات على التوسع فـي اسـتخدام الوسـائل الحديثة وزيادة نسبة القروض الممنوحة للأبحاث العلمية والتكنولوجية وتقديم البنوك قروض تخص تطبيق الأبحاث التكنولوجية، ومنح المعاهد العلمية التي تحولت لشركات أبحاث نفس معاملة الشركات من الحوافز والإعفاءات الضريبية.

وبدأ دخول الصين التكنولوجيا المتطورة عام 1988 بإنشاء منطقة للتكنولوجيا المتطورة ببكين، وخلال عشر أعوام كان نصيبها من دخل تجارة الصناعة التكنولوجية 51.4 مليار يوان، بعد إنشاء 87 منطقة لتنمية الاقتصاد والتكنولوجيا، و52 منطقة لصناعة التكنولوجيا المتطورة، ضمت جميعها 1500 مؤسسة لخدمة التقنيات المتطورة يعمل فيها 1.5 مليون شخص.

وصممت الصين في نهضتها على إجبار الشريك الأجنبي على نقل التكنولوجيا إلى  الصينيين وكان شرطًا مفروضًا على المستثمرين الراغبين في العمل داخلها، ولم تتخل عنه إلا قبل عام واحد، بعدما وصلت بكين إلى مستوى منافسة العالم الغربي على الابتكار وليس التصنيع فقط.

وفي منتصف التسعينيات اعتمدت الصين على تأسيس خمس مناطق خاصة لاجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية والاستفادة منها  لصالح التصدير، بحيث يحيث تكون كل منطقة عبارة عن وحدة جامعة مكونة من المؤسسات المشتركة الاستثمار والمؤسسات التعاونية بين الصين والأجانب والمؤسسات الأجنبية، ونجحت المناطق الخمس في عام واحد في تسجيل حجم تجارة خارجية 24.4 مليار يوان بنسبة  14.65% من إجمالي التجارة الخارجية للصين.

وتعتبر أهم نقطة في فكر التنمية الذي طرحته الصين هو خلق تنافس بين أقاليمها على جذب الاستثمار، وفتحت الباب أمام التجارة العالمية وحددت اليوان كعملة تجارتها الخارجية وفي عام 2008 استثمرت الصين 586 مليار دولار في مشروع لدعم البنى التحتية ومجالات عدة مختلفة.

اتسم الاستثمار الأجنبي في الصين بأسلوب “الموجات الموجهة” فالثمانيات تركز على بناء المنشآت التحتية والمشروعات الصناعية، وفي الألفية الثانية تم تحقيق الارتباط بالعالم في مجال قوانين التجارة والاستثمار وجعل الصين السلسلة الصناعية  العالمية ، حتى وصلت إلى تأسيس 960 ألف شركة أجنبية التمويل في 2018.

تعيش الصين حاليًا الموجة الثالثة منذ ست أعوام والتي تشهد تعديلات تفرضها الحاجة على قوانين الاستثمار لتحقيق العدالة بين الشركات الصينية والأجنبية  يتعلق بالمناقصات الحكومية، حيث أصبحت فرص المستثمرين الصينيين والأجانب متكافئة، والتخفيف من سلسلة الأعمال المقصورة على المستثمرين الصيني أو التي يشترط وجود شريك محلي لها.

وتبنت الصين مبادرة “الحزام والطريق” لاستثمار تفوقها في رأس المال وبعض التقنيات والمتخصصين لبناء المنشآت التحتية والتجارة والاستثمار في دول أخرى واقتسام العوائد، لتعيد طريقًا لتصدير الحرير عمره 3 آلاف عام قبل الميلاد، بتكلفة تبلغ 47 مليار دولار وليربط بين 56 دولة، وتستهدف عبره الوصول بحجم تجارتها مع إفريقيا إلى 400 مليار دولار  بحلول نهاية العام الحالي.