منذ سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، سعت الخرطوم بكل السبل لرفع اسم السودان من قائمة واشنطن لـ “الدول الراعية للإرهاب”، كأحد مسارات الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، التي تحكم الخناق على البلاد، وتهدد نظام الحكم الجديد برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، على أساس أن حذف السودان من هذه القائمة، سيجعلها مؤهلة للحصول على قروض وتمويلات من “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”، ما سيخفف من أعباء الديون الخارجية التي تشل اقتصاد هذا البلد، ويعطي إشارة طمأنة للمستثمرين الأجانب، ويُخرج البلاد من عنق الزجاجة.

sss

وإلى ذلك، أعلنت وزارة الخارجية السودانية، الاثنين الماضي، عن تعيين الدكتور نور الدين ساتي، سفيرًا فوق العادة ومفوضًا لجمهورية السودان لدى واشنطن، بعد نحو ربع قرن من القطيعة السياسية والدبلوماسية، في خطوة رأى فيها المراقبون “تطبيعا للعلاقات” بين البلدين يُنهي عداء طويلا استمر عشرات الأعوام.

وقالت الخارجية في بيانها، إنّها “تلقت موافقة حكومة الولايات المتحدة على ترشيح الدكتور نور الدين ساتي.

 

وأدرجت واشنطن السودان فيما يسمى “قائمة الإرهاب الأمريكية” عام 1993، خلال فترة حكم “البشير”، بسبب اتهامه بإيواء عناصر إرهابية نفذت هجمات على سفارات ومصالح أمريكية، ومن هؤلاء أسامة بن لادن، زعيم تنظيم “القاعدة”، وعدد كبير قيادات وأعضاء الجماعة الذين عاشوا في البلاد عدة أعوام.

 

“تقشير بصل”

بذل الحكم السوداني الجديد جهودًا حثيثة في هذا الصدد على مدار الأشهر الماضية، حيث طلب رئيس الوزراء السوداني، الدكتور عبد الله حمدوك، رسميًا من الإدارة الأمريكية رفع اسم الخرطوم من “قائمة الإرهاب” خلال زيارته لواشنطن في مطلع ديسمبر الماضي. وخلال الزيارة، قال مسؤولون في الإدارة الأمريكية إن واشنطن لم تعد “في خصومة” مع حكومة السودان، وباتت تعتبرها الآن شريكًا، إلا أن رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب عملية إجرائية.

غير أن إدارة الرئيس الأمريكي مازالت تتهرب من تحقيق هذا المطلب السوداني المشروع، وتعمد إلى التسويف، وذلك رغم تصريحات مسؤولين أوروبيين كبار بأنه لا ينبغي تحميل نظام الحكم الحالي أوزارًا ارتكبها نظام البشير، ورغم مرور نحو ستة أشهر على بدء المساعي السودانية في هذا الصدد، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تماطل واشنطن في مسألة حذف اسم السودان من “قائمة الإرهاب” الأمريكية المزعومة؟

وبعد الإعلان عن “اللقاء السري” الذي عُقد قبل فترة بين “البرهان” وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وموافقة حكومة “حمدوك” على تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، أعلنت وزارة العدل السودانية، 13 فبراير الماضي، عن توقيع اتفاقية تسوية لدفع تعويضات مالية كبيرة لأسر ضحايا تفجير المدمرة الأمريكية “كول” التي تم استهدافها عام 2000 قبالة السواحل اليمنية، وقُتل في الهجوم 17 بحارًا أمريكيًا، وأُصيب العشرات، وأشارت أصابع الاتهام إلى تنظيم “القاعدة” الذي كان متمركزًا في السودان وقتها.

 

وفي نهاية يناير الماضي، صرح تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، بأن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مثل “تقشير البصل”. وأضاف ناجي: “هناك حزمة من القيود تتطلب من حكومة السودان العمل عليها، منها القضايا التي تتعلق بالعقوبات المفروضة بشأن إقليم دارفور، بجانب التعويضات المالية الخاصة بضحايا الهجمات الإرهابية التي تصل إلى أكثر من 7 مليار دولار”.

وبعثت وزارة الخارجية الأمريكية بخطاب إلى نظيرتها السودانية في 4 مارس الماضي، للتأكيد على أنها أنهت كافة أشكال العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، بموجب الأمرين التنفيذيين الصادرين عام 2017 أثناء فترة حكم الرئيس السابق باراك أوباما.

شراء الوقت.. وبناء الثقة

يرى المراقبون أن هناك مجموعة مؤثرة داخل مراكز صناعة القرار في واشنطن، تعتبر أن إزالة تسمية الإرهاب قرب نهاية “الفترة الانتقالية” عام 2022، هو الخيار الأفضل للبلدين، نظرًا لما سيكون لذلك من أثر على خلق الحافز لاستمرار الإصلاحات السياسية في البلاد، ووسيلة للجم نفوذ القوات العسكرية والأمنية ووضعها تحت السيطرة خلال هذه الفترة، إذ إن هذا التأخير سيجعل واشنطن تشتري الوقت لبناء ثقة السلطات الأمريكية في نظام الحكم الجديد.

يرى المراقبون أن هناك مجموعة مؤثرة داخل مراكز صناعة القرار في واشنطن، تعتبر أن إزالة تسمية الإرهاب قرب نهاية “الفترة الانتقالية” عام 2022، هو الخيار الأفضل للبلدين

وثمة تشكك غير معلن عنه من قبل الإدارة الأمريكية في احتمالية وقوع انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة في البلاد، وقد عزز من هذه الشكوك محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها حمدوك، فضلا عن المحاولات الانقلابية التي تم الإعلان رسميًا عن إحباطها خلال الأشهر الماضية.

ويتخوف المسؤولون الأمريكيون أنه في حال إزالة اسم السودان من “قائمة الإرهاب”، ربما تحدث انتكاسة في الأوضاع في السودان في ظل سيطرة المكون العسكري على معظم المشهد في البلاد. لذا، يريدون استخدام “ورق ضغط” لحين الاطمئنان لانتقال البلاد من الفترة الانتقالية الحالية، إلى حكومة مدنية منتخبة.

ويضيف المراقبون أن لبقاء السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب أسبابًا عديدة أخرى، تتصل بشبكة متشابكة من العمليات التشريعية، والأحكام القانونية، والتسويات المالية، وتقييمات الاستخبارات، والأهم من ذلك كله، التقديرات السياسية لمجموعة صناعة القرار في واشنطن. وتتمثل التعقيدات التشريعية في إقرار الرئيس الأمريكي – أولًا- بأحقية السودان في رفع اسمه من القائمة، ثم بعدها تنتقل القضية إلى الكونجرس، لمناقشتها علنا والتصويت عليها، ومن ثم البت فيها بشكل نهائي.

وهناك تعويضات أخرى بـ “المليارات” ذكرها مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، قد لا تستطيع السودان بطبيعة الحال الإيفاء بها نظرًا للضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فمن غير المنطقي، وفيق المراقبين، مطالبة الخرطوم بدفع مبالغ طائلة بالعملة الصعبة كتعويضات، في حين أنه يبحث عن تمويلات وقروض لا يستطيع الحصول عليها في الظروف الراهنة، بل تُعجزه عن ذلك تصنيفه “دولة إرهابية” من قبل الولايات المتحدة.

 

ورغم ذلك، فمن المتوقع أن تحكم بها المحاكم الأمريكية بتعويضات مالية باهظة لأهالي ضحايا حادث تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كل من كينيا وتنزانيا، والتي تزعم واشنطن أن الخرطوم كانت “متواطئة مع منفذيها”، وهو الأمر الذي نفاه المسؤولون السودانيون مرارًا.

اقرأ أيضًا: من قائمة الإرهاب إلى المواجهة …”الآن يمكنكم دعم السودان”

ويعتبر عبد الفتاح عرمان، الصحفي السوداني المُقيم في واشنطن، أن مسألة رفع اسم السودان من “قائمة الإرهاب” الأمريكية، عملية معقدة وطويلة تتعلق بعدة جوانب، من بينها الوصول إلى تسوية مرضية مع أسر ضحايا المدمرة كول وتفجير سفارتي واشنطن في دار السلام ونيروبي، التي اتهم النظام البائد بالوقوف خلفهما، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره في النهاية “فخًا سياسيًا” للسودان، حال موافقته على ذلك، ما سيعن اعترافه بالتورط في هذه العمليات الإرهابية، رغم النفي الرسمي المتكرر. 

ويقول الأكاديمي السوداني الدكتور حامد التيجاني، أستاذ السياسات العامة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إن هناك شرطين أساسين لدفع أمريكا لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، مرتبطة بإحداث تغيير في السياسة الأمريكية؛ وإنجاز ملف السلام، خاصة في إقليم دارفور الذي شهد عدة مجازر عرقية، وتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومن دون تحقيق ذلك، فإن جميع المحاولات لرفع اسم السودان ستبوء بالفشل، بل إن من المتوقع أن تكون فرصة الخرطوم أضعف، حال وصول “الديمقراطيون” إلى البيت الأبيض على جناح الانتخابات المقبلة.