لا يطمئن قلبي ولا عقلي للمتشنجين بدعوى الدفاع عن الأخلاق، شرطة الأخلاق، المحتسبين، جندورمة العالم الافتراضي، قوات مكافحة “السوشيال ميديا”، فدائما كانت دعواهم غير صادقة ونواياهم غير ما يعلنون، خاصة عندما يستهدقون من لايملك (قبيلة مصالح) تحميه، أو أداة إعلامية تدافع عنه، إنها شهوة الرقابة والسيطرة وإطلاق الأحكام على البشر، يجد فيها البعض تعويضًا عن نقائصه، حتى لو كان ذلك سببًا فى تحطيم إنسان أو تحويل حياته إلى جحيم.
“حنين حسام” و”مودة الأدهم” و”سما المصري”، الثلاث متهمات بإفساد أخلاق الشعب المصري، وقريبًا سيخضعن للمحاكمة استنادًا إلى تلك التهمة وسط ترحيب من جمهور حماية الأخلاق.
أتابع هذا المشهد وكأنني رأيته من قبل أكثر من مرة، وهو ما يطلق عليه ظاهرة وهم سبق الرؤية أو ديجا فو Déjà، إنه ذات المشهد الذى كان بطله الشيخ كشك ونقده اللاذع للفنانات والممثلات في خطبه في السبعينات، ثم في التسعينيات على يد الشيخ وجدى غنيم، الذى كان يصف الفنانات بالداعرات والعاهرات في شرائط الكاسيت، ثم تكرر في 2012 مع الشيخ عبدالله بدر في برامج “توك شو”، والذى سب وقذف كثير من الممثلات منهم إلهام شاهين.
وهذا المشهد المتكرر للدفاع عن الأخلاق باستهداف فنانات أو ممثلات أو مشاهير “السوشيال ميديا” أو تطبيقات الهواتف الذكية، هو مجرد فاتح شهية لما بعده، لكنها مجرد بداية بأهداف سهلة يمكن الحشد لرميها بالحجارة وسيلقى مهاجمتها قبولًا مجتمعيًا.
ثم ينطلق قطار الحسبة إلى محطاته ليستهدف باقى القائمة، فالقائمة دائما تبدأ بنساء متهمات بإفساد الأخلاق، يتبعها مفكرين وأدباء وسياسيين.. إلخ.
لقد كانت الخطب وشرائط الكاسيت للشيخ كشك ووجدى غنيم مجرد بداية.
ففى عام 1992 نشرت جريدة النور بيانا لجبهة علماء الأزهر تتهم فرج فودة بالردة، وفى 8 يونيو من ذات العام قام شابان باغتياله، وفى محاكمة القاتلين أفتى الشيخ الغزالى بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة.
وفى عام 1995 أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكمها بالردة والكفر على الدكتور نصر أبوزيد والتفريق بينه وبين زوجته، هذا الحكم الذى كان بمثابة صافرة إنذار وصل صداها إلى أذن المشرع المصرى فأصدر القانون رقم 81 لسنه 1996 بتعديل قانون المرافعات المادة الثالثة.
“لا تقبل أي دعوى كما لا يقبل أي طلب أو دفع استناداً لأحكام هذا القانون أو أي قانون آخر ، لا يكون لصاحبه فيها مصلحة شخصية ومباشرة وقائمة يقرها القانون، ومع ذلك تكفي المصلحة المحتملة إذا كان الغرض من الطلب الاحتياط لدفع ضرر محدق أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله عند النزاع فيه , تقضي المحكمة من تلقاء نفسها ، في أي حالة تكون عليها الدعوى ، بعدم القبول في حالة عدم توافر الشروط المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين ,ويجوز للمحكمة عند الحكم بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرط المصلحة أن تحكم علي المدعي بغرامة إجرائية لا تزيد عن خمسمائة جنيه إذا تبينت أن المدعي قد أساء استعمال حقه في التقاضي”.
وبذلك أغلق المشرع المصرى وقتها أمام المتربصين بأصحاب الأقلام طريق دعاوى الحسبة بأن اشترط الصفة والمصلحة فى أى دعوى يتم رفعها.
لكن الفراغ التشريعى الموجود حاليا فيما يتعلق بتطبيقات الهواتف الذكية والمسئولية عن محتواها، سواء كانت كتابات أو صور أو مقاطع فيديو، سيفتح الباب لشرطة الأخلاق والمحتسبين الجدد لفرض رؤيتهم على الجميع، وسيكون ذلك بابًا لتقديم أطفال صغيري السن وفتيات فى مقتبل حياتهم للمحاكمة بتهم فضفاضة كإثارة الرأي العام، والتحريض على الفسق والفجور بعد أن غررت بهم الشركات مالكة هذه التطبيقات لتقديم محتوى غير مقبول اجتماعيا من أجل أموال تدفعها تلك الشركات مقابل زيادة متابعة ومشاهدة ورواج تطبيقاتها، وبالتالي زيادة الإعلانات، تلك الشركات التى تجنى الملايين بدون أن تتحمل أي مسئولية.
لقد انتبهت دول العالم حاليًا لأهمية وجود تشريع يحمى الأطفال وصغار السن والشباب من أن تتلاعب بهم أو تستغلهم شركات تطبيقات الهواتف الذكية وشركات “السوشيال ميديا”، فقد كشفت بريطانيا أنها ستجعل شركات التواصل الاجتماعي مثل “فيس بوك”و “تويتر” و”سناب” مسئولة عن حظر أو إزالة المحتوى الضار على منصاتها، إذ أكدت الحكومة أنه سيتم فرض هذا الأمر لضمان أن جميع الشركات لديها أنظمة قائمة للرد على المخاوف بشأن المحتوى الضار وتحسين سلامة مستخدميها.
لابد أن نقطع الطريق على المحتسبين الجدد، كى لا يحولوا حياة الأجيال القادمة إلى جحيم برقابتهم ومصادرتهم على حرية الشباب فى التعبير عن أنفسهم بطرق تختلف عن تلك التى اعتدنا عليها، وفى ذات الوقت لابد من توفير آليات حماية للشباب من استغلال شركات “السوشيال ميديا” وتطبيقات الهواتف الذكية، معادلة صعبة يمكن حلها بتشريع متوازن يضمن حرية الرأى والتعبير، ويحمى من استغلال تلك الشركات.