لعلّ ما يميز رمضان بنوع خاصّ هو أنه رحلة البحث عن الهدف الحقيقي لحياة الإنسان على الأرض، ذلك أنه إن كانت الحياة أكلاً وشربًا، فهي ضئيلة المعنى وقليلة المعنى، وإن قلنا مثل الأبيقوريين: فلنـأكل ولنشرب فإنّا غدًا نموت، لأضحينا حقًّا أشقى جميع الناس .

sss

 إنه رمضان، شهر الصوم والإحسان، زمن تهذيب النفس، والذي يأتي هذا العام في ظلّ جائحة تحلّ بالإنسانية، من مشارق الأرض إلى مغاربها، جائحة تستدعي رفع الأكفّ عالية في ضراعة الصائم، الساجد، العابد، لاستمطار مراحم الله تعالى على البشريّة  برُمّتها .

 

بعيدًا عن السياسة، وبعيدًا عن أزمة كورونا وعالمها الخفيّ وأسرارها التي لا تنفكّ تخيف العالم، دعونا نحلِّقْ في هذه  السطور في عالم الروحانيات، ونَطُفْ بآفاق النفس البشريّة التي أرهقتها الحداثة المغرَقة في الرأسمالية التي سلعت الإنسان، عسى أن نجد في نفحات الشهر الفضيل، وفي فلسفة الصوم، ما يستنقذ الأرواح والأجساد معًا من طوفان بحر العالم الزائل .

 

مثيرٌ جدًّا شأنُ الصوم، فقد عرفته الإنسانيّة حتّى قبل ظهور الأديان السماويّة، ففي مصر القديمة كان كهنة آمون وآتون على حدّ سواء، ملتزمون بنواميس وشرائع  تحثّ على الصوم. وكانت هناك مواسم للصوم يُحتفَل بها، تُقَدَّم فيها القرابين للآلهة، واعتبر الفرعون القديم أن الصوم رحلة تطهير داخلي من أدران الجسد والسموّ على  شهوات الجسد .

 

عرف الحكماء والفلاسفة فوائد الصوم قبل زمان وزمانين، فقد أوصى الحكيم لقمان ابنه ذات مرة بالقول “يا بني إذا امتلأت  المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة،  وقعدت الأعضاء عن العبادة  “.

 

وفي عهد البطالمة كان أطباء الإسكندرية، تلك المدينة التي كانت رمزًا للعولمة قبل ألفَيْ عام، بما اجتمع إليها  من شعوب العالم، ينصحون مرضاهم بالصوم تعجيلاً بالشفاء .

 

ومن القديم إلى الحديث فإنّنا نجد الطبيب الفرنسيّ الكبير “ألكسيس كاريل” الحائز على جائزة نوبل في الطب، يكتب ما نصه: “إن كثرة وجبات الطعام ووفرتها تعطل وظيفة أدّت دورًا  عظيمًا في بقاء الكثير من الأجناس عبر التاريخ، وهي وظيفة التكيّف على قلّة الطعام، ولذلك كان الناس يصومون على مرّ العصور “.

 

  لعلّ ما يميز رمضان بنوع خاصّ هو أنه رحلة البحث عن الهدف الحقيقي لحياة الإنسان على  الأرض، ذلك أنه إن كانت الحياة أكلاً وشربًا، فهي ضئيلة المعنى وقليلة المعنى، وإن قلنا مثل الأبيقوريين: فلنـأكل ولنشرب فإنّا غدًا نموت، لأضحينا  حقًّا أشقى جميع الناس .

 

ينقلنا رمضان من عالم الإغراق في الماديات وشؤونها  وشجونها، إلى الخروج من الذات إلى المسكين والفقير، عبر الصدقات، وإخراج الزكاة، والهجرة إلى الله آناء الليل وأطراف النهار .

 

 رمضان مدرسة جامعة، تتجدد فيه العلاقة بين الإنسان وربه،  ويُروَّض فيه الجسد بالامتناع عن الطعام والشهوات في نهاره،  إنه جهاد محبوب ومرغوب، جهاد الذات المشتبكة مع الكدّ والكفاح في كافة مناحي الحياة .

 

يصوم المؤمن في رمضان ويجاهد جهاد النفس في موسم المغفرة، فيدرك أن الزمن ليس آلة ميكانيكية تدقّ بإيقاع رتيب، بل هو فيض من اللحظات وعطاء من الإشراقات، وهو رأسمال العمر … ومنه ليلة هي بعمر .. فيملأ أيّامه ولياليه بالطاعات، ونهاره بالاستغفار  عمّا فات .

 

أسئلة  عميقة تُطرَح في حاضرات أيامنا عن رمضان وعباداته ونسكه وصلواته في ظل إغلاق المساجد، والعزل المجتمعي، وعدم المقدرة على التواصل الإنساني، ذاك الذي يُكسِب رمضان نوعًا  خاصًّا من ألقه وجماله .

 

وفي الحقّ أن هذه نازلة مؤلمة، لم تعرفها الأجيال عبر أكثر من مائة عام، لكنها ليست ظاهرة فريدة في تاريخ الإنسانية، فقد عرف العالم العربي والإسلامي أوبئة كثيرة مثل الكوليرا، والأنفلونزا  الإسبانية وغيرهما، وتعطلت فريضة الحج، لكن القلوب العامرة بالله، تجد إليه سبحانه وتعالى السبيل، حتى وإن كانت في غياهب الجُبّ مثل يوسف الصدّيق، أو في بطن الحوت كما حال يونس ابن متى  .

 

 المعنى  والمبنى  هنا  هو أن العزلة الاجتماعية هذه ربّما تكون فائدة للوصل الروحاني وليس للفصل الإيماني، ففي الهدوء ومع  الأسرة الصغيرة العدد، يمكن للنفس البشرية أن تراجع تلك الديناميكية المشتعلة بمحبة العالم، والتعلّق بكلّ ما هو أرضيّ، وتنشد من ثَمّ ومن جديد البحث عن مدينة الله، وبهذا  يمكن أن تتحوّل المحنة إلى منحة  .

 

رمضان، وعن حقّ، فرصة ذهبية للتطلّع إلى السموّ، وعلاقة كل إنسان مع السمو أمر ليس من قبيل صناعة التاريخ، بل السموّ من صلب الطبيعة البشريّة، فنحن لا نؤمن بالصدفة   بل مقتنعون وقد اختبرنا ذلك بأن الله سيد التاريخ، وهو من استخلف الإنسان في الأرض لعمارتها  ونمائها  .

 

يأتي رمضان هذا العام في تلك الظروف الاستثنائية على صعيد الكون برُمّته ليعيد تذكيرنا بوحدة البشرية، وبأن العالم قد نسي الأصول الواحدة والجذور الواحدة، وأنه حان الوقت لبناء المدينة الفاضلة على  الأرض، من أجل حماية السلام وصون الأمان وتعزيز مستقبل الإنسان، وحتى لا يضحي على الأرض فقير أو جائع، خائف أو قلق، وهو دور واستحقاق تتعاظم الحاجة إليه في زمن تتقلّص فيه مساحات الروحانيات لصالح المادّيّات .

 

ولعلّ الناظر إلى الصوم كفريضة، يجده في قلب الأديان التوحيدية  بصورة قطعيّة، ما يعني  أن هناك رابطًا وقاسمًا يجمع أبناء إبراهيم، فالأديان التوحيدية وبرغم اختلافها  الظاهر ، إلا أن لها  رسالة مشتركة  تجعل البشر يفهمون  كيف أنهم مدعوّون إلى التعاون في سبيل البِرّ والتقوى، وأنّ تشابكهم وتعاضدهم ليس أمرًا من قبيل الرفاهية، بل ضرورة وواجب يصل الى  حد الفرض .

 

رمضان ليس شهر عتق  الأفراد من النار فحسب، إنه أيضًا  شهر عتق الإنسانية من غرور الدنيا وبهرجها الزائف، ورَدّ الناس إلى  وعيهم وهدفهم الحقيقيّ على  هذه  الأرض. ومن هنا فإن هذا الشهر الفضيل يستدعي أهم ما في الإنسان من منح ربّانيّة، العقل والتفكير، فيما بعد الحياة الفانية، إنه الرسالة السامية للكائن البشري، والتي تبدأ على  الأرض وتمتد إلى  دار الخلود .

 

يحتاج العالم في هذه الأيام الصعبة إلى قيادات دينية تنويرية تقود العالم الى  بَرّ الأمان، لا سيما في ظلّ الاضطراب الكبير الذي تنوء به البشرية: قيادات تعيد التذكير بأن المومنين إخوة  وأنهم محمَّلون بمسؤولية التنوع والتعددية، تلك الفلسفة القرآنية السامية، أي فكرة الشعوب والقبائل المدعوّة للتعارف  والتنافح والتلاقح معًا .

 

في رمضان وزمن العزلة الجبريّة لا الطوعيّة، ادخُلْ إلى مغلقك، واقفلْ بابك، واستأنفْ حوارك الداخليّ الذي انقطع مع النفس اللوّامة، شاغب ضميرَك الذي خدّرتْه العولمة مرة، وأثقلته الأعباء المالية مرات، راجع حساب وكالتك، وقدّمْ لآخرتك في دنياك .

 

 ليكنْ شهرُ رمضان شهرًا مباركًا  تفتح فيه السماءُ طاقات البركة  على البشرية وتخلّصها  من هذا الوباء أول الأمر وآخره .

سكاي نيوز عربية