أعادت مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة المعايير الأخلاقية فى تناول الموضوعات الإعلامية خاصة التي يطلق عليها قضايا رأي عام، وعلي مدار الأيام الماضية، كان مسلسل الاختيار المذاع علي عدد من القنوات المصرية، ضمن سباق مسلسلات رمضان، والذي يروي وقائع ومشاهد حقيقية لقصة ومسيرة استشهاد البطل أحمد المنسي، فى مقارنة مع نهاية مأساوية لمسيرة الإرهابي هشام عمشاوي، الذي نٌفذ فيه حكم الإعدام بعد إدانته بارتكاب عددا من الجرائم الإرهابية، وخلقت معها حالة من الزخم والنقاش المجتمعي، بين المصريين ظهر صداها بتفاعل رواد السوشيال ميديا مع كل حلقة جديدة تٌذاع.
أعاد المسلسل المصريين مرة أخري، مشاهد الانتظارأمام الشاشة الصغيرة، بعد سنوات طويلة من غياب الأعمال الوطنية، لم تشهدها المنازل المصرية ربما منذ مسلسل “رأفت الهجان”، للفنان الراحل محمود عبد العزيز، الحقيقة الوحيدة التي توافق عليها الجميع بأن “عشماوي” إرهابي خان وطنه وزملاءه الذين زمالهم فى يوما ما، إلا جماعة واحدة لها رؤية مختلفة حاولت وجاهدت، ومازالت تجاهد فى الدفاع عنه وتعتبره بطلاً وليس إرهابيا، ممثلة فى جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها، عبر مناصتها الداعمة لها وعلي رأسها قناة الجزيرة القطرية.
المباديء الإخلاقية.. شعارات
“المعايير التحريرية تقوم بالأساس على التوافق بين المبادئ الأخلاقية”، شعار ترفعه قناة الجزيرة وتروجه لتجميل صورتها، ولكنه سقط أكثر من مرة فى فخ “الخديعة الكبري” آخر علامات السقوط مقال آثار حالة من الجدل والانتقادات لمؤسسة إعلامية تثير بتناولها الإعلامي للقضايا العربية من المحيط إلي الخليج علامات استفهام كبري حول نشأة القناة وتمويلها منذ عام 1996.
بعد مقتل 18 عنصرًا.. ماذا وراء التصعيد الإرهابي في سيناء؟
المقال صاحب الأزمة، للكاتب مصطفي البدري، بعنوان ” هشام عشماوي.. الوجه الآخر من الاختيار”، وهو وفقا لمدونة الجزيرة المنشور عليها المقال، باحث وداعية إسلامي، وعضو المكتب السياسي للجبهة السلفية، وممثل الجبهة في التحالف الوطني لدعم الشرعية، والمنسق العام للتحالف (سابقا)، ومراجع لغوي بالرابطة العالمية للحقوق والحريات.
ما لم تذكره الجزيرة فى السيرة الذاتية لكاتب المقال والتي لا تخفي عن كل مطلع في شئون حركات الإسلام السياسي بل ويتفاخر بها مصطفى البدري نفسه بها، باعتبارها وسام علي صدره وليس “وصمة عار على جبينه”، أنه واحد من أبرز سلفية القاهرة الذين كانوا يوما ما مسؤولين عن تجنيد الشباب المصري وتسفيره لسوريا.
شهادة 2012
وبحسب ما كشف “البدري” فى حوار معه نشرته صحيفة “اليوم السابع”، بتاريخ 10 أكتوبر 2012، حيث وصفه كاتب الحوار بـ “الشيخ المجاهد “، مؤسس الدعوة السلفية بالعبور، عضو الهيئة العليا بحزب الفضيلة السلفى، إمام وخطيب مسجد النور التيسير بالعبور، المشرف العام على مؤسسة أهل الشام الدعوية.
يعترف “البدري” قائلاً: «أنا سافرت 3 مرات إلى سوريا لتدريس فقه الجهاد إلى كتائب الجيش السورى الحر، وهناك علّمت الشباب كيف يكون الجهاد لنصرة القضية السورية لمواجهة الطاغية بشار الأسد»، كاشفاً أنه يستعد للسفر للمرة الرابعة إلى سوريا لاستكمال دوره الدعوى لمجاهدى الجيش الحر”.
لم يوقفهم “كورونا القاتل”.. الإرهاب يُصعّد هجماته في العراق وسوريا وليبيا
وفقا لما أعلنه “البدري” فإنه قام بعدد كبير من الزيارات لكتائب الجيش السورى الحر وكتائب المجاهدين، قائلا: “هناك اتفاقا بين الرئيس مرسى ونظيره التركى لمساعدة الشعب السورى ستظهر آثاره قريبا، ودعا إلى مساعدة الرئيس لتطبيق الشريعة فى مصر، مشيرا إلى أن الجماعات التكفيرية لعبت دورا فى توتر الأوضاع فى سيناء”.
ومع خروج الشعب على جماعة الإخوان والتى أطاحت بهم من السلطة في ثورة 30 يونيو، ومع بدء الحشد لاعتصام رابعة، ظهر من جديد “البدري”، ووفقا لتقارير إعلامية فقد تم رصد تواجده في أحدي الخيام، بالقرب من شارع الطيران بمدينة نصر، وكانت تشكل واحدة من بؤر التكفير والدعوة للقتال ضد رجال الأمن وإقامة دولة إسلامية، إلا أنه هرب قبل موعد فض الاعتصام للخارج، ليظهر بعدها فى تركيا.
حذف المقال
بعد ضجة كبري أثارها المقال المنشور، رضخت الجزيرة وقامت بحذف المقال، وكتبت: “تم حذف هذه المادة، لتعارضها مع سياسات النشر في الجزيرة، ومع مقتضيات السلوك المهني، وتؤكد مدونات الجزيرة أن ما حدث كان خطأ مهنيا فرديا، وسيتم اتخاذ الإجراءات المناسبة لمحاسبة المسؤول عنه وضمان عدم تكراره مستقبلا”.
اعتذار المنصة التابعة للجزيرة عن نشر المقال، جعل البعض يتساءلون عن جدواه، بل تطرق آخرين إلي ما وصفوه بـ “أسلوب ممنهج” تتبعه قناة الجزيرة، وأذرعها الإعلامية، والتي تم تدشينها بعد 30 يونيو بالخارج، والممولة قطريا والمدعومة تركيا، مثل شبكة رصد وغيرها، بشأن ما تذيعه علي شريط أخبارها لمتابعة الحوادث الإرهابية التي شهدتها البلاد، و تكتفي بالإشارة إلي أن ضحايا الجيش المصري ورجال الأمن هم قتلي وليسوا شهداء، وهو ما سلط عليه الضوء مسلسل الاختيار في أحدي حلقاته.
سياسيون ونشطاء
أثار المقال انتقادات واسعة ولكن الملاحظة الأكثر أهمية أن الانتقادات جاءت أيضًا من ضيوف دائمون علي الجزيرة وتوابعها الإعلامية، التي تروج لبقايا جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وأنصارها فيما يعرف بتحالف دعم الشرعية، المتواجدين بالخارج، عبر مناصتها فى كلا من قطر و تركيا وبريطانيا، أو حتى المتعاطفين معها لتوضح أن السقوط كان مدويًا تلك المرة، وليس كالمرات السابقة “ذوبعة في فنجان” وتتلاشي بعد أيام.
كتب الكاتب الصحفي، بلال فضل مدونًا:”في اعتقادي لا يكفي على الإطلاق قيام منصة مدونات الجزيرة بحذف التدوينة اللي بتدافع عن المجرم هشام عشماوي وبتترحم عليه وبتصفه بإنه سلك طريق المقاومة المسلحة بدلا من وصفه بالإرهابي وإدانته بشكل واضح، لإن نشر التدوينة دي في مكان المفروض بيراجع كل ما ينشر عليه هو عمل منحط وسافل، خصوصا إن كاتب التدوينة ما حاولش يقدم فقط رواية لحياة هشام عشماوي بشكل مختلف عن اللي اتقدم بيه في مسلسل (الاختيار)، لأ ده بدأ التدوينة بالانحياز إليه والترحم عليه وتبرير ما فعله.
دروس من لندن والسعودية وماليزيا : “توبة” الإرهابي مستحيلة
وتابع “فضل” فى تدوينته قائلا:” المفروض إن المسئولين عن النشر عارفين إن كاتب التدوينة صاحب موقف منحاز لهشام عشماوي وهو أعلن ده من أول فقرة، يعني ما هواش باحث مثلا بيتساءل أو بيتأمل، وبالتالي لازم الاعتذار بشكل واضح عن نشر التدوينة دي ومحاسبة المسئول عن نشرها بشكل علني”.
وفي إشارة إلي سقطات أخري للجزيرة ربما عن قصد أو دون عمد، يواصل “فضل” قائلا:”زي ما حصل قبل كده لما إحدى منصات الجزيرة نشرت تشكيك في الهولوكوست، ولما اعتذرت عن نشر مقطع فيديو يمس السعودية، وحكاية الدفاع عن نشر التدوينة بمنطق “دي آراء واحنا غير مسئولين عنها كقناة”، فيها استخفاف بعقول الناس، ومن غير مزايدات ومع التقدير للجميع، لازم أي حد بيتعامل مع الجزيرة يحتج على تصرف زي ده، وأضعف الإيمان إن ده يحصل ولو حتى في رسالة للمسئولين عن القناة، عشان الجريمة دي ما تتكررش”.
بينما ذهب الناشط الحقوقي، جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، في تعليقه إلي أبعد مما طرحه “فضل” واعتبر المقال دعمًا للعنف والإرهاب.
كتب “عيد” فى تدوينته قائلا:”ما تم نشره على موقع الجزيرة ليس مجرد سقطة مهنية أو نشر رأي ، بل هو نشر داعم للعنف والارهاب”.
وتابع “عيد”: “الجزيرة ترتكب جريمة دعم العنف وتحبيذه بتمجيد المجرم هشام عشماوي وممارسته الارهاب عار ما تفعله ومخالف للأعراف ومواثيق الشرف الصحفية والإعلامية”.
ورُغم حذف المقال إلا أن أصدائه مازالت مستمرة علي مواقع التواصل الاجتماعي، وجاءت التعليقات لتفضح أيقونة يروج لها منذ سنوات على أنها صوت الحقيقة ومن لا منبر لهم.
الإرهاب الفيروسي.. مخطط الجماعات المتطرفة لنشر كورونا في صفوف الشرطة بتونس
ومع رصد الوقائع تظهر حقيقة الجزيرة والدعم اللامحدود لتلك الجماعات الإرهابية، والتي بسببها أعلنت عدد من المنظمات الحقوقية المصرية والعربية رفع دعوي قضائية بتهمة التحريض على العنف في البلاد، وهي قضايا ينظرها القضاء المصري، بل ووصل الأمر إلي التقدم بشكاوي إلي عدد من الجهات الدولية ومنها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بجنيف.
لماذا نشرت الجزيرة المقال وحذفته؟ ولماذا اعترض عليه الجميع ووصفوه بـ “السقطة المهنية” والأخلاقية؟
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال يجب معرفة ما كتبه صاحبه، فقد اعتبر” البدري” في مقاله الذي نشره عبر موقع الجزيرة في 14 مايو الجاري الإرهابي هشام عشماوي رمز من رموز المعارضة الإسلامية – على حد زعمه.
وصنف صاحب المقال الإرهابيين هشام عشماوي وعماد عبد الحميد ورفاعي سرور، على أنهم رموز للمقاومة وشخصيات إسلامية بارزة، وزعم أن مسلسل الاختيار يشوه أبطال المقاومة المسلحة ضد الجيش المصري.
ردود أفعال غاضبة
سريعًا جاء الرد علي المقال والمنصة التي نٌشرعليها، والتي جاءت من رواد التواصل الاجتماعي رافضة شكلا وموضوعا المقال، كتب محمد نوار قائلا:”الجزيرة ناشرة مقال بيحكى عن بطولات المجاهد عشماوى و فضل الجهاد المسلح و بتثنى فيه على مفتيين الجهاد بتاعهم، نقدر نقول إن دة اعتراف رسمى منهم بتشجيعهم للهجمات الارهابية اللى بتحصل على الجيش والشرطة، هم بيأكدولنا وبيأكدوا للعالم بكل بجاحة انهم جهة تدعم و ترعى الارهاب”.
وتابع: “الموقف بتاعهم من مسلسل الاختيار و غباؤهم فى محاولة انتقاده بتمجيد التكفيريين و الدفاع عنهم استكمالا لمشوارهم فى الغباء والتبجح بيقطع أى الشكوك فى موقفهم ويخرس كل المدافعين عن هذه المؤسسة القذرة”، متسائلا: “هل هنشوف موقف دولى لما بدر منهم واعترافهم الصريح بدعمهم للارهاب ؟”.
بينما كتب حساب آخر باسم محمود بلال: “هى الناس مستغربة ليه من المقال اللى منشور على موقع الجزيرة بيمجد المجحوم هشام عشماوى؟ اتفاجئتو إن قطر بتدعم الإرهاب؟”.
السَّمُّ فى العسل
“يوصف كل من يغش بخبث في أمر ما، حتى ولو غش في كلامه بأنه يدس السم في العسل، فمن يقول كلامًا معسولاً له مرام أخرى بعيدة عن معناه القريب يوصف بأنه يدس السم في العسل، فهذا التوصيف الخالد له عدة أبعاد وعدة دلالات، فالسم نقيض العسل هو يقتل والعسل يغذي، وقد يغلف طعم العسل اللذيذ سم هاريٍ يلتهمه المسموم بلذةٍ عن طيب خاطر فيقضي عليه”، هكذا وصف الكاتب السعودي محمد بن عبدالله آل عبداللطيف في مقال منشور بجريدة الجزيزة السعودية فى عام 2018 بعنوان” السم في العسل” مقولة عربية تتداولها الألسنة عبر أزمان.
لسنوات طويلة حاولت الجزيرة تجميل صورتها رغم ما تبثه من سموم فى العسل، تقارير إعلامية ودراسات عديدة تناولت ظاهرة “قناة الجزيرة” ودورها التخريبي فى المنطقة، بداية من تغطيتها لحرب العراق وافغانستان، انتهاء بدعم جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسية، وتخصيص مساحات واسعة في محتواها المذاع والمقروء، وهو ما ترصده تلك التقارير .
“الجزيرة والإخوان من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة”
من بين تلك الأعمال كتاب “الجزيرة والإخوان، من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة” لصاحبه المفكر الفلسطيني، الدكتور وليد الشرفا، وهو أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، والحاصل على الدكتوراه في تحليل الخطاب، والصادر له ثلاث روايات آخرها القادم من القيامة وتم ترشيحها لجائزة البوكر، إضافة إلى عدد من الأبحاث في السرد والصورة.
بعد اختيارها لمراقبته.. نشطاء يصفون توكل كرمان بدكتاتورة “فيس بوك”
ورصد الكتاب الذي جاء في 216 صفحة والصادر عام 2013، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ، ما يمكن وصفه بعملية تفكيك دقيقة للتحول بين خطابي الإخوان وقناة الجزيرة فيما بات يطلق عليه الربيع العربي.
هذا التحول الذي يرى الكتاب أن قناة الجزيرة والإخوان مارسا عملية استبدال دقيقة ومعقدة في مخاطبة الرأي العام وبنائه، باعتبار أن التحولات الهائلة في خطابي الطرفين لم تكن إلا حتميات ضرورية لإنشاء فعل التحرر والإيهام بالثبات، لتشكيل أغلبية في الرأي العام العربي.
بحسب ما رصده “الشوفا ” فى استعراضه فإن عملية الإقناع هذه اتخذت أشكالا معقدة بداية من النصوص الكبرى عند الإخوان وليس انتهاء بالأخبار والصور والتعليقات والبرامج الدينية والسياسية والحوارية.
عقب على منهج الكتاب الدكتور نادر سعيد مدير المركز العالم العربي للبحوث والتنمية «أوراد»، بالقول «إن المنهج الذي يتبناه هذا الكتاب يفتت جلمود الصخر وينثر هواءه في الغبار،.. فيصبح الخطاب محدودا في حبس ايدولوجيا أحادية الحق، لا يتجاوز نقطة معينة»، ويتابع «من هنا يصبح دور الإعلام أبعد ما يكون عن إنتاج الاختلاف والتحفيز على التفكير النقدي والأرجاء للأحكام المتسرعة وأقرب إلى إنتاج الصراع والتثوير».
غطي الكتاب ستة فصول أساسية، تناول الفصل الأخير منه التركيز على الملف المصري ضمن خطين متوازيين: تحول الإخوان وتحول الجزيرة نفسها في تغطية الأحداث، ويحلل هذا الفصل التحول في خطاب الإخوان من نص سيد قطب إلى فتاوى الشيخ القرضاوي من خلال اعتباره برنامج الشريعة والحياة نصا جماهيريا يعيد إنتاج الإخوان المسلمين بصفتهم جماعة الحق في مصر وسوريا وفلسطين وتونس وغيرها، وهو تحول يصل إلى حد التناقض مع الخطاب الذي أسسه سيد قطب، حيث الانتقال من الهجوم على المجتمع المدني إلى تقديسه ومن ثم تدنيسه.
وفقا لما رصده الكاتب فإن ذلك يتم من خلال تقنية استبدال المطلق بالسياق، المطلق النصي والسياق الإعلامي، في استغلال رهيب لعناصر صناعة المعنى تمهيدا لاستمالة الرأي العام، وفق قاعدة القدرة على إبطال السلطة عندما يكون الإخوان في موقع المعارضة المقدسة دينيا ووطنيا من خلال العلاقة مع الآخر، والقدرة على إبطال المعارضة عندما يكون الإخوان في مركز السلطة، حيث القدرة على إنتاج التوصيف نفسه مع انقلاب الدور.