“حلفت بالطلاق ما أزرعه تاني”.. بتلك العبارة واجه المزارع أحمد عبدالسلام من الغربية كل من طلب مشورته حول زراعة محصول القطن للعام الحالي، ولخص بها معاناته مع زراعة محصول كان يحلب الخير والسعادة للريف المصري، قبل أن يتحول إلى هم وشقاء.
تراجعت مساحة محصول القطن لعام 2020 الذي بدأت زراعته في مارس الماضي وحتى منتصف مايو، بنسبة %57 لتسجل 102 ألف فدان مقابل 237 ألًفا للعام الماضي، وفقا للإحصائيات الرسمية، لتظهر انفصالا بين سعي الدولة لتطوير صناعة الغزل والاهتمام بالقطن، واتجاهات المزارعين في الريف.
يلخص عبدالسلام مشكلة زراعة “الذهب الأبيض” في ارتفاع تكاليفه على المزارعين وانخفاض سعر توريده، فالفدان الواحد تصل تكلفة زراعته من البذور حتى الحصاد 16 ألف جنيه، يدفعها المزارع من جيبه دون معرفة سعر القنطار الذي سيبيع به، وكيف ستتم عملية البيع؟، ومتى سيحصل على أمواله.
يقول الفلاح، الذي يقترب من الثمانين، إن التكلفة تتضمن التقاوى ومبيدات دودة القطن والأسمدة والرى وأجرة جني المحصول الذي يتم جمعه على ثلاثة مراحل “جنيات” والقنطار الواحد يحتاج 12 عاملاً أجرة كل منهم 70 جنيهًا وبعد هذه كله، لم يجد من يشتري “الجنية” الأولى، فاضطر لتخزين الأولى بمنزله وترك الجنية الثانية للتلف لعدم بيع الأولى.
بلغ سعر شراء القطن من المزارعين في 2019 نحو 2300 جنيه مقابل 2700 لعام 2018 و3000 جنيه لعام 2017، مع إعلان وزارة قطاع الأعمال تجربة تسويق محصول 2020 بنظام المزاد العلني بعد تطبيقه لأول مرة على محافظتى الفيوم وبنى سويف.
ووفقا للاتحاد العالمي لبحوث القطن، فإن سياسة زراعة القطن في مصر لا تتضمن إستراتيجية ثابتة تسمح باستقرار الإنتاج والزراعة، والذي ظهر جليًا في القفزات الكبيرة في المساحات المنزرعة خلال مواسم، والهبوط العنيف في أرقامها في أعوام تالية، وتصل أحيانًا إلى 100 الف فدان مثلما حدث في العام الحالي.
مزادات علنية
وتسببت سياسات المزادات العلنية التي تم تطبيقها في محافظتين ينتميان لجنوب مصر، في تراجع أكبر لمساحة القطن فى الوجه القبلي لتبلغ العام الحالي 12 ألف فدان فقط، مقابل 33 ألفاً العام الماضي، بعد مشاكل كبيرة انتابت المنظومة الجديدة من بينها عدم حصول الفلاحين على كامل مستحقاتهم واستمرار وجود الوسطاء وتراخي التجار عن الاشتراك.
لايتماشي تراجع مساحة الأقطان مع خطة الدولة لتطوير وتحديث محالج الأقطان والتي فترض دخول 3 منها الخدمة قبل نهاية الصيف، لتضاف إلى محلج الفيوم الذي يعمل وفق أحداث النظم العالمية، بقيمة تقديرية تصل لنحو مليار جنيه.
وتوجد علاقة طردية تربط عدالة تسويق القطن بصناعة الغزل والنسيج فكلما تقاضي الفلاح عائدا مناسبًا اندفعت الصناعة للأمام مثلما حدث في الخمسينيات، لكن مع إهمال الزراعة ضاعت الصناعة، وتحول القطن طويل التيلة ذو السمعة العالمية الجيدة، إلى خامات مهجورة لا تجد من يعمل بها.
يقول وليد السعدني، رئيس لجنة تنظيم تجارة القطن التي تضم داخلها 290 شركة لتجارة وتسويق الأقطان، إن تراجع المساحة سببه عدم وضوح السياسة السعرية للمحصول وانخفاض سعر شراؤه من الفلاحين.
وتتفاقم مشكلات زراعة القطن في توقف المحالج المحلية عن شراء القطن المحلي لارتفاع أسعاره، واعتمادها على المستورد من الخارج الذي يأتي بجودة أقل وسعر أسرخص في ظل دعم جميع الدول المنتج للقطن لمزارعيها لاستمرار زراعته، فاليونان تحصل على علي 700 مليون دولار من الاتحاد الأوربي، والولايات المتحدة تخصص 1.2 مليار دولار سنويًا لدعم زراعة القطن.
وتستورد مصر أقطان قصيرة التيلة، بكميات تصل إلى مليوني قنطار من الأقطان بقيمة 1.2 مليار دولار، تناسب إحتياجات التصنيع في المصانع المحلية التي لا تتعامل مع القطن الطويل، والذي يتم تصدير الكثير منه للمصانع الأجنبية في الخارج لإنتاج المنسوجات الفاخرة.
يقول السعدنى إن حل عودة زراعة القطن في مصر تتطلب تحديد سعر مشجع للفلاح حتى يتجاوز تكلفة الزراعة بجانب ربح لا يقل عن 2500 جنيه للقنطار، وخفض الفائدة التمويلية على شركات الأقطان التى تقوم بتسويق المحصول، وإجبار المغازل على شراء الأقطان المحلية.
انضمت أخيرًا لمبادرة القطن النظيف بعد عام كامل من المراجعة الشاملة لجميع مراحل إنتاج محصول القطن، والتي تضم شركات عالمية كبيرة، بما يمنح مصر فرصة في استدامة إنتاج المحصول وفتح أسواق عالمية جديدة أمامه في الخارج، لكن المنتجين يطالبون بتصريفه محليًا لمنع تعرضهم لهزات العرض والطلب.
وتسعى مصر إلى تعظيم صناعة الغزل والنسيج وتكرار تجربة الهند التي يعمل فيها 35 مليون عامل، بينما يصل عدد المغازل إلى 43.1 مليون مردن فى 1900 مصنع، منها 18% قطاع خاص والباقي ما بين قطاع عام، وتبلغ صادراتها من المنسوجات 55 مليار دولار.
ويقول حسين أبو صدام، نقيب عام الفلاحين، إن زراعة القطن لم تعد مجدية بسبب تطبيق نظام البيع بالمزايده في الفيوم وبني سويف والذي ثبت أنه إستراتيجية خاطئة، فالسعر لم يزد عن 2100 جنيه للقنطار، بعدما غاب التجار الذين امتلكوا فائضًا من العام السابق.
وأكد أبو صدام أن بيع القطن المصري بالمزايده جاء في وقت غير مناسب، فمعظم المصانع المصرية تعمل على القطن قصير التيلة، مع الانخفاض الكبير في أسعار القطن عالميا ووجود فائض كبير من قطن العام السابق لم يجد الفلاح تصريفا لمنتجه، واعتبر الحل في إقرار قانون الزراعات التعاقدية (التعاقد على شراء الاقطان من الفلاحين قبل زراعته).
بعد الاهتمام بتطوير المحالج وحل مشكلات المصانع المنتجة لها دون النظر إلى الفلاح كعنصر أساسي في الإنتاج، بمثابة وضع العربة أمام الحصان ومطالبته بجرها، فالجميع يتفق على أن المصنع لن يعمل دون وفرة نسبية في المواد الخام.