فيما أثارت بعض مسلسلات رمضان جدالًا ساخنًا حول “التطبيع” مع إسرائيل، مرت ذكرى رحيل الشاعر الكبير أمل دنقل، الذي غاب عن دنيانا في مايو 1983، بعد رحلة حافلة مع الحياة والشعر ناهزت 43 سنة، ارتبط اسمه خلالها بعدد من أشهر القصائد العربية، ومنها قصيدته “لا تصالح” التي باتت أيقونة لجيل كامل من الشباب العربي في السبعينيات من القرن الماضي، حتى استحق صاحبها لقب “أمير شعراء الرفض”.

ولد محمد أمل فهيم دنقل عام 1940، في قرية “القلعة” بمركز قفط محافظة قنا جنوب مصر، وكان والده الذي توفي بعد ولادة طفله بعشر سنوات من علماء الأزهر الشريف، وترك مكتبة من أمهات كتب التراث العربي والمراجع والمعاجم، لعبت الدور الأكبر في التنشئة الثقافية للشاعر الراحل.

 

كتب دنقل أول قصيدة له عندما كان طالبًا بالمرحلة الثانوية، ونُشرت في مجلة “مدرسة قنا الثانوية” عام 1956، وكانت القصيدة هي الخطوة الأولى في رحلته الطويلة مع الشعر، التي لم ينتج خلالها سوى عدد قليل من الدواوين.

وفي الفيلم الوثائقي “ذكريات الغرفة 8” للمخرجة عطيات الأبنودي، قال دنقل: “أول مرة عرضت فيها أشعاري الأولى على أستاذي وكان شاعرًا، أجابني فيما معناه أنه من الخير لي أن أترك الشعر لأنني لن أكون شاعرًا أبدًا، أحسست بالتحدي وأن كرامتي أُهينت، سألتُ بعض أصدقائي من المهتمين باللغة والشعر، فأخبروني بأن العرب يقولون إن من حفظ ألف بيت صار شاعرًا، قررت أن أحفظ ألف بيت من الشعر، وبالفعل أخذت أستعير الدواوين، وما تزال دواوين المتنبي والبحتري وأبي نواس وامرؤ القيس وأشعار شوقي وحافظ إبراهيم ومطران وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل منسوخة بخط يدي”.

 

اقتسام “اللفافة والرغيف”

ورحل دنقل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا، حيث التحق بكلية الآداب، لكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول، لكي يعمل موظفًا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفًا في “منظمة التضامن الأفروآسيوي”، وأمضى الشطر المبكر من حياته في العاصمة المصرية مع رفيقيّه القاص يحيى الطاهر عبد الله والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وعاش الثلاثة معا يقتسمون “اللفافة والرغيف”، ويرتدون ملابس بعضهم البعض من شدة الفقر، حتى شق كل منهم لنفسه طريقًا متفرّدًا في الثقافة العربية.

 

لم ينشر دنقل قصائده الأولى ذات الطابع الرومانسي الباهت، وأصدر ديوانه الأول عام 1969 بعنوان “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وعلى عكس معظم مدارس الخمسينيات المغتربة، التي تأثرت بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة، استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، مثل “زرقاء اليمامة” وعنترة بن شداد، ربما لتأثره بالجو العام في مصر وقتها وسيطرة الحس القومي العروبي على البلاد.

 

ويرى بعض النقاد أن الصدمة التي ضربت الوجدان العربي بعد هزيمة 1967، أصابت أمل دنقل بما يطلق عليه الردة التاريخية، كرد فعل طبيعي لما خلفته الكارثة من آثار وشروخ في الذات العربية، ربما يكون أهمها فقدان الهوية القومية، والاغتراب عن الواقع المعاش.

وتجلت بصيرة دنقل في قصيدته الشهيرة «لا تصالح» التي كتبها عقب محادثات فض الاشتباك الأول إبان حرب أكتوبر 1973، ونُشرت في صحيفة “المساء” القاهرية تحت عنوان “الوصايا العشر”، حين كانت الحرب على أشدها، ولم يكن الرئيس الراحل أنور السادات قد وقع معاهدة السلام مع إسرائيل 1979 بعد، غير أن الشاعر استطاع التنبؤ بها، فيما يبدو. وجاء في مطلع القصيدة: “لا تصالحْ / ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى..؟/ هي أشياءُ لا تشترى”.

 

وبعد توقيع المعاهدة، نشرت صحف عربية معارضة للمعاهدة القصيدة، بعنوانها الذي عُرفت به “لا تصالح”، وكانت بمثابة صرخة رفض شعارها “لا”، في وجه من قالوا نعم. وعلى الفور بدأت السلطات المصرية تضيّق على الشاعر منافذ النشر. ورغم ذلك، رفض الشاعر دنقل السفر خارج مصر مطلقًا، وعندما تلقى عرضًا من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي لكي يعمل ويحصل على سكن مفروش مؤثث بحى سيخصص للشعراء والأدباء، لكنه رفض العرض المغري، وانعكس ذلك في قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح» حيث قال: «لا للسفينة.. وأحب الوطن».

 

وفي عام 1971، أصدر دنقل ديوانه الثاني “تعليق على ما حدث”، الذي سرد فيه انتهاء عصر عبد الناصر وبداية عصر جديد، حيث اندلعت آنذاك المظاهرات الطلابية المطالبة بشن الحرب على إسرائيل، ليكتب دنقل بعدها قصيدة “الكعكة الحجرية”.

عندما تهبطينَ على ساحةِ القوم

لا تبدئي بالسلام

فهم الآن يقتسمونَ صغارك

فوقَ صحاف الطعام

بعدَ أن أشعلوا النارَ في العشِّ

والقشِّ

والسنبلة..

*من قصيدة أغنية الكعكة الحجرية

 

وتسببت القصيدة في إغلاق مجلة “السنابل” التي كان يشرف على إصدارها الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، وصدور تعليمات غير مكتوبة من السلطات المصرية بمنع دنقل من أي ظهور أو تعامل له أو لِقصائده مع الإذاعة أو التلفزيون أو أي مؤسسة إعلامية رسمية لمدة عشر سنوات.

القصيدة “منشورًا ثوريًا”

يقول الدكتور محمد أبو الفضل بدران الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، إن “سر عبقريته تتمثل في أنه نموذج حقيقي للحداثة العربية التي تستلهم التراث العربي باحتراف، فقد توفي في سن 43 عامًا غير أنه حفر اسمه في المكتبة الشعرية العربية، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية لأنه كرّس شعره للقضايا الإنسانية والعربية”.

الدكتور محمد أبو الفضل بدران: سر عبقرية أمل دنقل تتمثل في أنه نموذج حقيقي للحداثة العربية التي تستلهم التراث العربي باحتراف

ويضيف بدران أن دنقل حافظ على الصدق فوصل إلى الجمهور، وعلى القصيدة فوصل إلى النقاد، وأظن أن الجو السياسي في حقبة الستينيات والسبعينيات المتمثل في مصادرة القصائد السياسية، أسهم في انتشار شعره بين العوام والبسطاء، الذين رأوا فيه الشاعر الأقرب إلى قضاياهم، فكانت قصائده بمثابة المنشور الثوري.

من جانبه، يقول الدكتور محمد القناوي، أستاذ الأدب والنقد بأكاديمية الفنون، إن إنتاج دنقل كان شاهدًا على العصر بامتياز، وعلى تلك الحقبة على وجه التحديد، لأنه كان يحرص على تجسيد الأحداث السياسية، فعبّر عن نكسة 67 التي احتلت فيها إسرائيل شبه جزيرة سيناء بقصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وعبّر عن هموم الحركة السياسية لطلاب الجامعات في قصيدة “الكعكة الحجرية”، حيث كان الطلاب معتصمين وقتها في ميدان التحرير، لمطالبة الرئيس محمد أنور السادات بتعجيل معركة استرداد سيناء من إسرائيل.

وتابع القناوي: “كان دنقل يحترف استخدام الرموز والأقنعة في شعره، ما يستدعي شخصيات تاريخية ودينية، مثل عنترة بن شداد وسبارتاكوس والإسكندر الأكبر والحسين بن علي والحلاج وزرقاء اليمامة وهارون الرشيد، لمعالجة واقع معاصر وقضايا حديثة، وليخلق امتزاجًا مثيرًا بين الماضي والحاضر”.

أصيب دنقل بالسرطان، وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته “أوراق الغرفة 8” وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب أربع سنوات، وكان آخر ما كتبه دنقل قبل رحيله قصيدة “الجنوبي”، التي تكتنفها رؤية فلسفية عميقة للموت والحياة، ليرحل بعدها بساعات قليلة في 21 مايو 1983.

ودُفن الشاعر بمسقط رأسه “قفط” في مقابر أسرته، وأقيمت له جنازة بسيطة حسب وصيته الصغيرة التي كان نصها: “لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت في حياتي ما يكفي.. أوصيكم بأن تكتبوا على قبري هذا قبر فلان بن فلان بن فلان وكل من عليها فان”.