شهد ملف الحقوق والحريات في مصر تدهورا كبيرا خلال السنوات الأخيرة على نحو لم تشهده البلاد منذ عصور ما قبل الدساتير والقوانين، فمعارضتك للسلطة أو حتى اختلافك مع توجهاتها أو انتقادك لقرارتها ومشروعاتها، صار تهمة قد تعرضك للملاحقة الأمنية والإحالة إلى جهات التحقيق، لتجد نفسك شيئا فشيئا تقترب من تلك البؤرة المظلمة التي تجذب كل من يقترب إليهاوتستقر في النهاية بقاع “الثقب الأسود”، وهو الاسم المجازي الذي أطلقه البعض على إجراء “الحبس الاحتياطي”.
مرت على مصر حكومات وأنظمة وصفت بأنها الأكثر انتهاكا للحقوق، لكنها لم تصل إلى حد عدم تفصيل الإجراءات التعسفية التي تتخذها السلطة ضد أصحاب الرأي لتناسب مواد القوانين والدساتير المعمول، فالعصف بالحقوق والحريات كان يتم تقنينه ودسترته في أكثر العصور ديكتاتورية، من باب الحفاظ على شكل النظام أمام المجتمع الدولي.
وحتى في حقب ما قبل ثورة 1952، والتي كانت تقع مصر فيها تحت حكم الاحتلال الإنجليزي، كانت السرايا وحكومات الأقلية تحافظ على الحد الأدنى من مراعاة الشكل في ممارستها القمعية.
في عشرينيات القرن الماضي وفي الفترة التي أعقبت إقرار دستور 1923، سعى الملك فؤاد إلى الانقلاب علىنصوص الدستور الجديد الذي قيد اختصاصاته ووزع صلاحياته على الحكومة والبرلمان، وسط معارضة حادة من الأحزاب السياسية وعلى رأسها الوفد والصحافة التي كانت رأس حربة في مواجهة مخططات الملك وحاشيته.
كانت مصر في تلك الفترة التي شهدت تشكيل حكومة تمثل الأغلبية البرلمانية بقيادة حزب الوفد، لا تزال تتلمس طريقها إلى الحياة النيابية الدستورية، مع ذلك وحتى عندما نجح الملك فؤاد مدعوما من الاحتلال في تعطيل البرلمان وإسقاط الحكومة، لم تصل به درجة الخصومة إلى تخزين معارضيه في السجون لفترات غير محددة أيا كانت التهم الموجهة إليهم.
مع كل محاولة للملك فؤاد للإنفراد بالسلطة أو التلاعب بالدستور، كانت شوراع المحروسة تنتفض لإنقاذ مُنجز ثورة 1919، وكانت أجهزة الأمن تتعامل مع تلك الاحتجاجات بمزيد من القمع والبطش، وتلقي القبض على آلاف المشاركين فيها، وتحيلهم إلى جهات التحقيق بتهم التحريض العنف أو إثارة الرأي العام، وفي بعض الحالات توجه إلى قادة الفكر والرأي تهمة “العيب في الذات الملكية”.
كان يطلق سراح العديد من المقبوض عليهم بعد عرضهم على جهات التحقيق لتهافت التهم الموجهة إليهم، ومن كان يحال منهم إلى المحكمةفعادة ما كان يحصل على محاكمة عادلة، فإما أن يبرأ من التهم الموجهة إليه أو يصدر ضدهحكميتوافق مع القوانين القائمة، فيقضي فترة محكوميته المقررة،ليخرج بعدها محمولا على الأكتاف مرفوع الرأس، وتُفتح أمامه الأبواب الموصدة باعتباره مناضل في سبيل قضايا الحرية والاستقلال.
في 17 يونيو من عام 1930، وفي جلسة صباحية لمجلس النواب المصري، طلب الأديب عباس محمود العقاد، وكان حينها نائبًا بالبرلمان، الكلمة من رئيس المجلس ويصا واصف باشا، ليعلق على استقالة الحكومة التي تقدم بها رئيس الوزراء مصطفى باشا النحاس.
منح واصف باشا الكلمة للعقاد، فوقف يخطب في زملائه قائلًا: “حضرات النواب، أرى أن مجلسنا لا بد أن يكون له موقف حازم وواضح من هذا العبث السياسي، لأن الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء فحسب، بل هي أزمة مجلس النواب نفسه، بل أزمة الدستور المصري… وليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته”.
كان البرلمان قد خصص تلك الجلسة لمناقشة استقالة حكومة مصطفى باشا النحاس احتجاجًا على رفض الملك فؤاد التصديق على قانون يقضي بمحاكمة الوزراء الذين ينقلبون على الدستور، أو يقومون بحذف حكم من أحكامه أو تعديله بغير الطريق الذي نص عليه الدستور.
حضر النحاس باشا وأعضاء حكومته إلى مجلس النواب، وطلبوا من البرلمان إما التصديق على القانون الذي كان يهدف إلى صيانة الدستور، أو قبول استقالة الحكومة، فأعلنت أغلبية النواب تأييدهم لموقف الحكومة، وفي تلك الأثناء فجّر العقاد قنبلته، فعلا الصياح في المجلس بين استحسان واستنكار.
بعد كلمة العقاد أدرك واصف باشا رئيس المجلس أن الأمور قد تتعقد بسبب جواسيس الملك داخل القاعة، فدق منضدة رئاسة البرلمان دقًا عنيفًا وصاح: «لا.. لا.. لا.. أنا لا أسمح بهذا»، وأمر سكرتارية المجلس بحذف كلمة العقاد من المضبطة، ثم رفع الجلسة، وفقًا لما ذكره الأستاذ محمد التابعي في سلسلة مقالات «ذكريات من سجن مصر» التي نشرها في مجلة «آخر ساعة» منتصف ستينيات القرن الماضي.
نُقلت وقائع الجلسة إلى الملك الذي كان قد بيت النية لإلغاء دستور 1923 وتعطيل الحياة النيابية، فاشتعل غضبًا، وتصاعد الغضب عقب تصدر كلمة العقاد عناوين صحف اليوم التالي، لم يتوقف العقاد عند هذا الحد بل استأنف نشر سلسلة مقالاته في جريدة “المؤيد الجديد” والتي تضمنت تحريضًا مباشرًا على الملك وحاشيته وعلى أسرة محمد علي.
تقدم رجال الحاشية بعدد من البلاغات ضد العقاد، وتم استدعاؤه للتحقيق معه في النيابة، ووجهت له تهمة “العيب في الذات الملكية والطعن في صاحب العرش”، وتم حبسه احتياطيًا على ذمة التحقيقات التي انتهت بإحالته بعد أيام إلى محكمة الجنايات.
قضت المحكمة بحبس العقاد تسعة شهور حبسًا بسيطًا في سجن مصر، قضاها معززًا مكرمًا يستقبل في زنزانته وزراءً وكتابًا، وسُمَح له بإدخال الطعام والعلاج والكتب والصحف وأوراق وأقلام للكتابة، ليخرج بعدها بطلًا مناضلًا في سبيل الدفاع عن الحرية والدستور، لتفتح أمامه الصحف ودور النشر أبوابها، وتخرج إلى النور سلاسل العقاد في الفكر والأدب والتاريخ الإسلامي.
تكرر الأمر مع الفنان محمد عبد المنعم رخا رسام الكاريكاتير الشهير الذي أحيل عام 1933 إلى المحكمة بذات التهمة “العيب في الذات الملكية”، بعد أن أثبتت النيابة أنه سب الملك فؤاد بأمه، في رسم قدمه للنشر في جريدة “المشهور”.
صدر حكم بحبس رخا، وعقب خروجه من السجن التحق للعمل في مجلة”روزاليوسف”، بمرتب ثمانية جنيهات في الشهر، وهو مبلغ ضخم بحسابات هذا العصر، وتنقل بعدها في العديد من المجلات والصحف، حتى صار من أعظم رساميالكاريكاتير في مصر.
الأن، ورغم تشدق السلطة باحترامها للدستور، إلا أنه ليس مسموحا لأحد بتوجيه أسهم النقد للنظام أو السخرية منه أو حتى إبداء رأي مخالف في القضايا محل الخلاف، بدء من “تفريعة قناة السويس” وصولا إلى “التعديلات الدستورية” التي رسخت حكم الرئيس السيسي ودسترت إحكام قبضته على مفاصل الدولة.
من خلال تجربة السنوات الأخيرة ثبت أن كل من تعتبره السلطة تخطى حدود النقد أو تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعت في الغرف المغلقة، يذهب في طريق اللاعودة، يدخل إلى البؤرة المظلمة ليغلق عليه”الثقب الأسود”.
يلقى القبض عليه ويحال إلى جهات التحقيق ليواجه مجموعة من التهم المعلبة من عينة “الانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي”، ليبدأ رحلة تجديد الحبس التي لا يعلم أحد لها نهاية، وحتى عندما تنتهي المدة القانونية لحبسه احتياطيا يفاجأ بأنه أعيد تدويره في قضية جديدة ليبدأ رحلة أخرى خلف الاسور.
حدد المشرع مبررات الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، وحصرها في أن يكون إلقاء القبض على الشخص الذي ضبط متلبسا بارتكاب الجريمة، وليس له محل إقامة ثابت أومعلوم داخل جمهورية مصر العربية، ويخشى من هروبه خارج البلاد، ويخشى من إضراره بمصلحة التحقيق أو تلاعبه بالأدلة والقرائن المادية، ورغم ذلك تحول هذا الإجراء إلى عقوبة محتملة تسلب حرية كل صاحب رأي مخالف.
الإجراء الذي وصفته محكمة النقض بـ”البغيض” كونه يتعارض مع قرينة البراءة التي تعد حق أصيل للإنسان وتلازمه منذ نشأته ولا يجوز الانتقاص منها، بحسب ما نصت الدستاير المتعاقبة والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، صار إجراء سيئ السمعة يستدعي من المشرع والسلطة القضائية إعادة النظر فيه والسعي إلى إيجاد بدائل تحد من استخدام السلطة التفيذية له كأداة قمع في وجه كل من يتجاوز الخطوط الحمراء.
مع بداية تفشي وباء كورونا في مصر صدر قرار بإخلاء سبيل عدد من المتهمين في قضايا رأي منهم الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية والمهندس عبد العزيز الحسيني القيادي بحزب الكرامة والدكتور شادي الغزالي حرب الناشط السياسي، استبشر الرأي العام حينها خيرا، وتوقع العديد من المراقبين إغلاق تلك الدائرة الجهنمية بإطلاق سراح مئات السياسيين والصحفيين الذين قضوا خلف الأسوار شهورا بتهم أسندتها إليهم الأجهزة الأمنية على خلفية مواقفهم المعارضة للسلطة، ألا أن الأمل سرعان ما تبدد بعد أن تم التجديد لعشرات المحبوسين احتياطيا بعد أسابيع من القرار المشار إليه.
دخل هؤلاء نفق الحبس الاحتياطى ولا يعرف أحد متى يخرجون منه، فلا جهات التحقيق تصدر قرارها بإحالتهم إلى المحكمة المختصة، ولا تحفظ التحقيق لعدم وجود أدلة سوى مذكرة التحريات التى تواترت أحكام محكمة النقض على أنها لا تصلح وحدها لأن تكون دليلا أساسيا على ثبوت التهمة، ولا هى أيضا قررت إخلاء سبيلهم على ذمة التحقيق بأى ضمان باعتبارهم شخصيات معروفة ولهم محل إقامة أو عمل معلوم وبالتالى لا يخشى هروبهم أو تأثيرهم على الأدلة إن وجدت.
لن نطالب المشرع بإعادة النظر فى قانون الإجراءات ووضع قيود على الحبس الاحتياطى، حتى لا يستخدم كعقوبة سالبة للحرية كما يجرى الآن، كل ما نطالب به هو أن تنظر النيابة العامة بعين الاعتبار إلى المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا رأى، فهؤلاء محرومين من التواصل مع أسرهم منذ أن صدر قرار بإغلاق السجون كإجراء احترازي لمنع تفشي الفيروس المستجد.
بعد أيام من وفاة الفنان والمصور شادي حبش في سجن طرة، الذي قضى في محبسه أكثر من عامين بسبب مشاركته في إعداد أغنية سياسية ساخرة، وجه النائب العام رؤساء الاستئناف وأعضاء النيابة بضرورة استمرار فحص أحوال المتهمين الصادرة أوامر بحبسهم احتياطيا، ومُراعاة مدى توافر مبررات إصدار هذه الأوامر، وإنجاز القضايا المحبوسين على ذمتها في آجال مناسبة.
بالتزامن مع توجيه النائب العام، أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان بيانا، دعا فيه إلى ضرورة مراجعة ملف المحبوسين احتياطيا، وإخلاء سبيل من تجاوزوا مدة العامين ممن لا تنطبق عليهم شروط التجديد، معتبرا أن حالة شادي حبش نموذجاً لتجاوز مدة الحبس الاحتياطي.
بعد حالة وفاة شادي حبشي التي لفتت نظر الرأي العام إلى خطورة إجراء الحبس الاحتياطي، نتمنى أن يتحول توجيه النائب العام ودعوة المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى إجراءات ملموسة على الأرض، وأن تراجع أوراق المحبوسين احتياطيا، قبل أن يُصدم المجتمع بحالات جديدة،وعلى السلطة والجهات المختصة إغلاق هذا الثقب الأسود، وإنهاء قضايا الحسبة السياسية، وعدم إعادة تدوير المتهمين في قضايا أخرى، احتراما ليس للدستور والقانون فقط، بل لإنسانية هؤلاء البشر الذين قد يدفعهم الإحباط واليأس إلى الكفر بكل ما آمنوا به من قيم الدولة المدنية التي تحترم فيها الحقوق والحريات، ولا يعلم أحد حينها إلى أي جهة قد يولون وجههم.