يؤمن الباحثون في العلوم السياسية بأن مرحلة ما بعد كورونا ستحمل معها تغييرات عنيفة في الأنظمة السياسية سواء داخل الدول أو على المستوى العالمي، مبشرين بعودة اتجاهات قديمة من سيطرة الحكومات، والميل نحو الأفكار القومية، والجور بصورة نسبية على الحريات المكتسبة لعقود.
سيعيد كورونا بعد انتهاء زمانه النظر في التحالفات ونظرية الهيمنة التي ظلت سائدة في السياسات الدولية لقرون، وسيفرض معه تغييرات عنيفة في مراكز الصراع عالميًا، مع سعي كل دولة للتركيز على أجندتها الداخلية والتخلي بعض الشيء عن التطلعات الخارجية.
وتشهد منطقة الشرق الأوسط تحديدًا ظهورا لافتًا لتأثيرات كورونا على السياسة الخارجية للدول، ففي اليمن بدأت الدول الخليجية تدريجيًا تخفيض نفقاتها الموجهة لصالح دعم فريق الشرعية، وفي الوقت ذاته قلصت إيران دعمها للحوثيين، لتشهد الاشتباكات بين الفصائل الداخلية نوعا من الهدوء طوال الشهر الماضي.
الأمر ذاته يتكرر في ملفي سوريا ولبنان، وبدا واضحا سحب طهران، التي تتصدر دور المنطقة في أعداد الإصابات بكورونا، دعمها المالي للتشكيلات العسكرية المؤيدة لها في سوريا، كما بدا واضحا حدوث خلخلة في مواقف حليفها “حزب الله” في لبنان وممانعته للخطط الرامية لإنقاذ البلاد من الإفلاس، والسعي لطلب دعم من صندوق النقد الدولي.
ودفع فيروس كورونا القيادة السعودية لتحدى أكبر قوتين في العالم في حرب النفط، بإغراق الأسواق بالنفط ودفع البورصات العالمية للهبوط، مع محاولة روسيا وأمريكا زحزحتها عن مكانتها كمتحكم في سوق النفط خارجيًا، وفرضت رأيها في اجتماع “أوبك +” (منظمة أوبك + منتجي النفط من خارجها) في سلوك لن يحدث إلا في خضم وباء هز معه مراكز الثقل العالمية.
التحالفات القديمة
يجزم الجميع على الساحة الدولية حاليًا بأن التحالفات والتكتلات القديمة ستخضع لمراجعات من قبل الدول بعد انحسار الوباء، فدولة مثل إيطاليا التي تتضمن فصيلاً يرغب بشدة في تكرار تجربة بريطانيا في الخروج من منطقة اليورو، لن تغفر لأوروبا تركها وحيدة في مواجهة الوباء وتصدرها لأشهر قائمة الوفيات بكورونا مع نقص حاد في المستلزمات الطبية الأساسية.
يعتبر البعض حاليًا أن بقاء منطقة اليورو مسألة وقت فقط، فالشركات والحكومات حاليًا أصبحت تتخوف بشدة من نظم التجارة العابرة للحدود، وتعتقد بأن الانفتاح الكبير سيجلب معه أوبئة مميتة في المستقبل، وستسعى إلى الانطواء على الذات والاعتماد على الإنتاج والتوزيع داخليًا مع تنامي أنصار نظرية “بلادنا أولاً وأخيرًا”.
ولن تغفر أوروبا أيضًا للولايات المتحدة تفضيلها بريطانيا عن جميع الدول الأوروبية في المعاملة أبان فيروس كورونا، فإدارة دونالد ترامب قررت منع السفر من والى أوروبا، باستثناء لندن التي تضم أيضًامصابين بالوباء، مع جعل الآراء تتصاعد حول ضرورة إعادة فرز العلاقات التقليديّة بين الحلفاء.
صعود السطوية
يري باحثون أن الفترة القادمة ستشهد تناميًا لـ”السلطوية” حتى بين أكثر الأنظمة ديمقراطية في العالم، في تكرار لما حدث خلال الفترة التي تلت الحربين العالمية الأولى والثانية من القرن الماضي لكنها ستكون فترة مؤقتة قبل أن تعود الدول إلى الديمقراطية مجددًا.
تتوقع دراسة لـ”ستيفن والت”، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد، أن يعيد الوباء صعود الحركات القومية ودعم سلطة الحكومات وقبضتها على مقاليد الأمور في ظل الإجراءات الطارئة التي تبنتها لاحتواء انتشار الفيروس، وبعض الحكومات لن يتخل عن تلك الصلاحيات بسهولة أو بسرعة فور انتهاء الأزمة وستعمل على بقائها.
وطورت الدول الغربية، استخدام تقنيات رقابية حديثة تستهدف مراقبة هواتف المواطنين، وتتبع المصابين بالفيروس، ومعروف ودوائر اختلاطهم، في سياسات أثارت المخاوف حول ظهور عصر جديد من السلطوية الرقمية للرقابة والتحكم في سلوك الافراد ومنعهم من ممارسة حرياتهم تحت حجج طبية.
ففي الصين، تم توسيع سياسة “الأخ الكبير” التي تتبناها السلطة في مراقبة المواطنين، وتوظيف أعقد شبكة معقدة للمراقبة في العالم كله، وتكنولوجيا التعرف على الوجه الذين يخترقون الحجر الصحي، ومع نجاحها في احتواء الوباء سيتم تعزيز تلك الإجراءات لتصبح أكثر قسوة.
وعززت الاستخبارات الإسرائيلية سلطاتها للوصول إلى البيانات الخاصة المتعلقة بمواقع وجود المصابين بالفيروس، لتكرر ما تبنته كوريا الجنوبية لكن مع قليل من الشفافية، وتوسيع الأمر ليشمل اعتبارات إثنية ودينية على عرب الداخل “عرب 48”.
في المجر، حصلت الحكومة على قانون من البرلمان يقضي بحبس من يعرقل إجراءات مكافحة الوباء أو نشر معلومات خاطئة عنه لمدد تصل إلى خمس سنوات، في تحركات اعتبرها الصحفيون موجهة ضدهم، وفي بولندا بات جميع المواطنين مجبرين على تطبيق للهواتف يحدد أماكن تواجدهم.
وفي فرنسا يخضع المواطنون لمراقبات غير مسبوقة، وفي روسيا تم فرض رقابة صارمة على جميع مواقع التواصل الاجتماعي لمنع نشر أخبار كاذبة عن الوباء، أما في صربيا فاتخذت الحكومة منه ذريعة لتقليص صلاحيات البرلمان، ومنح نفسها سلطات أعلى بحجة التحرك السريع لمواجهة الجائحة.
انتقال النفوذ
يسير العالم حاليًا نحو تغيرات كبيرة في دوائر التأثير، بظهور لاعبين جدد أقوياء منافسين على أصحاب النفوذ التقليدي دوليًا، وفقا لجوزيف ناي الأستاذ بجامعة كمبريدج، الذي كتب مقالا في مجلة “ذا سبيكتاتور البريطانية” توقع فيها انحسار النقوذ “الأنجلو ـ أمريكي” مستقبلاً.
مع تراجع الغرب في مواجهة الوباء، سينتقل ميزان السياسة العالمية من الدول الغربية إلى الشرقية التي نجحت سريعا في التغلب على الأزمة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين والأخيرة انتهجت دبلوماسية “الكمامات” بتقديم مساعدات لكثير من دول العالم والتقرب منها، ما يؤدي إلى انتهاء عصر سطوة القرار الغربي على الساحة الدولية.
ووفقًا لمركز تشاتام هاوس للأبحاث ببريطانيا،فإن وباء كورونا سيكون سببًا في نهاية العولمة بشكلها الحالي خاصة وأنه يأتي بعد توتر تجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، سعت فيه واشنطن لحشد التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية لعزل نفسها عن بكين، متوقعا بأن يكون الانعزال هو السمة الأساسية للسياسة الخارجية للدول لسنوات قادمة.
ويقول الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن السياسة الدولية ستتغير بشدة في عالم ما بعد كورونا، فالإتحاد الأوروبي سيعيد النظر في اتفاقية بروكسل فيما يتعلق بسيادات الدول الوطنية في الإجراءات الخاصة بالحماية الداخلية، ويتتجه أوروبا إلى تعزيز شراكاتها مع الصين وروسيا دون الإضرار بعلاقاتها مع أمريكا.
ويتوقع فهمي ظهور لاعبين جدد في التأثير على السياسة الدولية كاليابان وألمانيا وحدوث اختلافات واضحة بين مواقف الدول المنفردة والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، مع انتهاء عصر الحروب التقليدية ودخول معارك الاستخبارات والمعلومات والمعارك على القائمة على الأوبئة والأخطار البيولوجية.