لم يكن ماكتبه نجيب محفوظ فى قصة ” بين السماء والأرض” التي أخرجها صلاح أبو سيف إلا تصورا مهما للإنسان فى حالة شعوره بالخطر، حين أوجد 14 شخص داخل أسانسير يتعرضون لمأزق حبس جماعي لا مفر منه وجعلهم على وشك الموت وفى مواجهة المجهول، 14 نمط من الشخصيات المختلفة بخلفية اجتماعية واقتصادية ونفسية مختلفة، وإن اتخذ الفيلم الذى كتب السيناريو والحوار له السيد بدير، ليأخذ منحي كوميدي، لكنه قدم نموذجا مهما وفكرة تستحق التأمل وتلهمنا اليوم فى مقدمة موضوع عن الخوف من المجهول فى ظل وباء عالمي يعاني منه الجميع ويفرض نمطا جديدا من الحياة ويضعنا جميعا فى مأزق أقرب لمأزق أسانسير نجيب محفوظ بين السماء والأرض.

أثناء شراء أحدي السيدات لتركيبات طبيعية ترفع مناعة الجسم دخلت سيدة ثلاثينية، يظهر عليها الاعياء، وطلبت من البائع فى أحد فروع محلات الأعشاب المعروفة بالزمالك مشروب يساعدها على النوم خلال الفترة الحالية، فقدم لها البائع نصيحة بأعشاب معينة من خلاصة الكاموميل وأكد لها أنها ستساعد فى احساسها بالهدوء والاسترخاء فأكدت له أنها سيدة هادئة فى العموم لكنها خلال تلك الفترة تتابع أخبار “كورونا”، وتفاصيل الفيروس وهو ما يجعلها تشعر بالتوتر ولا تنام بشكل جيد وتعاني من الأرق.

العزل المجتمعي دون ترفيه.. هل يتقبل المصريون التباعد؟

لم تختلف السيدة الثلاثينية عن فتاة عشرينية تشكو منذ ثلاثة أسابيع من ارتفاع درجة حرارة جسمها والتي قد تصل إلى 38 درجة دون أسباب واضحة وأنها زارت طبيبها الخاص أكثر من مرة وقامت بعمل تحاليل للأطمئنان وأكدت النتائج أنه لا أمر غير طبيعي فى الجسم، ولا مشكلات صحية، فأشار عليها طبيبها بالذهاب إلى طبيب نفسي يساعدها على الهدوء وقال إن حالة الإعياء البدني قد يكون سببها نفسي.

هو نفس الأمر الذى عاني منه أحمد عبد الكريم الموظف بوزارة حكومية والمستقر أسريا وماليا حيث يعاني منذ شهر من أعراض أزمات قلبية متلاحقة أدخلته إلى عناية القلب بأحد المستشفيات الخاصة وبعد الخروج بدأ ضغط الدم يرتفع ثم ينخفض، ويصاحبه آلام بالمعدة والصدر لا منطق طبي لها.

يؤكد الدليل التشخيصي والإحصائى للإضرابات العقلية ( dsm-5) الذى نشرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي،أن “مراقان” هو تشخيص يشخص به من يصاب باضطراب القلق المرضي والذى يكون فيه التركيز على أحاسيس جسدية غير مريحة أو غير عادية وقد يدل فى البداية على وجود حالة طبية خطيرة، ومن ناحية أخري يعرف  اضطراب الأعراض الجسدية أنه اضطراب يشمل التركيزعلى طبيعة تعطيل الأعراض الجسدية مثل الألم والدوخة وأيضا يسمي  اضطراب القلق المفرط ويرتبط بالانشغال بإصابة ما أو الخوف من مرض خطير أو الشعور بسهولة بقلق والشعور بقدر كبير من التوتر مما يعطل حياتك.

سيكولوجية الخوف هي مزيج من المشاعر الخاطئة والمعرفة المحدودة، كما يقول عالم النفس “ديفيد ديستينو” في افتتاحية لصحيفة نيويورك تايمزكتب فيها: “نظرا لأن الأنباء حول حصيلة الفيروس فى الصين تثير مخاوفنا، فإنها تجعلنا أكثر قلقا مما نحتاج إليه، وتجعلنا أكثر عرضة لاحتضان المواقف التي يحتمل أن تكون إشكالية أو معادية أو خائفة تجاه من حولنا والمخاوف التي تزيد وتعزز خوفنا وتزيد من الدورة الدموية وانفعالنا، هناك ما يسميه علماء النفس ” التحيز فى التوافر” مما يعني أنه من المرجح أن نعطى وزنا للأحداث التي يمكننا تذكرها على الفور، وزنا له وقع نفسي كبير علينا حتى دون إرادة منا ولا نجيد التحكم فيه.

تضع الحالة الشخص فى حالة يقظة شديدة فيلاحظ الناس المزيد ويسمعون أكثر ويفسرون كل معلومة بطريقة تهديدية، والعاطفة تضعف إدراكنا للمخاطر والتخوف من كوفيد 19 شائكا لأن معرفتنا الموضوعية للمرض لا تزال فى طور التطور، فلا كتالوج للمرض أو تأكيدات، كل الكلمات محض احتمالات.

يقول “فريزيل” إن البشر قد يتطورون فى ردود أفعالهم فيما يتعلق بـ”كورونا” وفكرة عدم اليقين، وعدم قدرتهم على التنبؤ، لأن الإنسان يشعر بانعدام السيطرة، وجوهر السلوكيات غير العادية تأتي دون إرادة حين يكون التهديد غير واضح الملامح، وقد يكون بعيد المدي.

السلطة هي الأخري قد تعاني من حالة مزاجية مختلفة تدفع لمزيد من التصرفات والتصريحات والسلوكيات التي لم يعتدها البعض من أصحاب السلطة، فالسلطات التركية متهمة باعتقال المئات بسبب منشورات عن كورونا يتم نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما أن إحدى الوزيرات فى العالم فتحت تحقيقا مع نائب مستشفي تحدث عن نسبة الإصابات رغم أنه من أن الطبيعي أن يتحدث طبيب عن “كورونا” لا العضوية في الاتحاد الأوروبي.

صلاة وزينة واحتفال بالشرفات.. أمهات يروين تجربتهن مع “عيد كورونا”

كوفيد 19 الذى وضع الجميع فى نصب جديد وغير الخطط والخرائط وعلق كل شىء، وهو الآن بصدد ضرب الاقتصاد فى العالم كله، على الرغم من حالة التعايش التي يعلن عنها المسئولون لكنه يؤثر فى مزاج الرؤساء وتصريحاتهم ويربك خططهم وحتى ألسنتهم .

تشرح “اليسون هولمان” الاستاذ فى جامعة كاليفورنيا وخبيرة علم النفس الصحي أن الإنسان يتفاعل بدافع العواطف القوية ويتخذ إجراءات غير عقلانية، وهناك أشخاص متحيرون بالفعل، فعلى سبيل المثال بعد أن ضرب زلزالكبيرتركيا عام 1999 وأسفر عن مقتل 17123 شخصا وإصابة أكثر من أربعة آلاف، رفض الناجون العودة إلى منازلهم واختاروا العيش في مخيمات في الهواء الطلق، لعدة أشهر.

وصف العلماء ذلك أنه إجهاد ما بعد الصدمة، وهو ما ينطبق على الأوبئة التي لا يمكن السيطرة عليها، وهناك قاعدة في علم النفس تقول: “لا يمكنك التحكم في كل مخاطر الحياة، والعيش حياة هادفة ومعقولة ومنتجة في نفس الوقت، ففكرة التجنب لا تتفق مع البقاء على قيد الحياة”.

 

الإفراط  في عرض المعلومات يزيد قلق الشخص، وبالتالي الثمن الذى قد تدفعه فى تلك الحالة أكبر بكثير من التهديد الذى يشكله الفيروس عليك.

 

لا ننسي تأثير السوشيال ميديا وهو ما جاء فى أحد المقالات بمجلة التايم بعنوان “وسائل الإعلام الاجتماعية كيف تعمل على تشكيل خوفنا واستجابتنا لكورونا”؟، يؤكد المقال أنه حين تتعامل بمجهول مع فيروس كافة معلوماتك تأتيك من السوشيال ميديا، أنت أمام رهان، والمحادثات على فيسبوك هي  مجرد استجابات جماعية من الناس حول الفيروسوهي المنصات التي لم تكن موجودة خلال أمراض كبرى تفشت فى فترات سابقة من حياة الناس، الآن يسهل المحادثات بين الناس حول المرض، وانتشار المعلومات التي قد تكون خاطئة، وهو ما يجعلنا أكثر قلقًا بشأن ما سيأتي، فلا أحد يدري كيف سيكون المشهد في حالات تفشي أمراض سابقة لو كان لديهم صفحات تواصل اجتماعي تأتيهم عليها أخبار رفيق مريض  بالكوليرا مات فى الصين أقصي الأرض، وتفاصيل حياته وقرب المشاهد من حياة القارىء، قطعا كانوا ذو حظ أفضل أنهم لا يعرفون تلك التفاصيل وقتها.

يقول الدكتور سعيد عبد العظيم أستاذ الطب النفسي بقصر العيني، في تصريحات خاصة “لمصر 360”  إن الإحساس بالخطر يولد القلق، وخلال الفترة الحالية هناك حالة من عدم التأكد مما يحدث، وكل يوم نقرأ احصائيات بأعداد وفيات ومصابين فى مصر والعالم كله، والخوف من المرض والموت يتزايد داخل الأشخاص، وأيضًا الخوف من العزلة، وجميعها أعباء كبيرة على النفس وتولد إحساسًا بالأزمة، كما أن ردود الفعل قد تختلف من شخص الى أخر.

ويقسم “عبد العظيم” ردود أفعال النفس البشرية إلى ثلاثة، الأول شخص ذو ثبات انفعالي كبير ولديه توازن نفسي يتعامل مع الخطر بشكل عقلاني ويلتزم بالتعليمات وهو قد يعمل على بث الطمأنينة فيمن حوله، أيًا كانت الظروف، النوع الثاني توازنه النفسي ضعيف، وقدرته على تحمل الضغط قليلة ويشعر بالهلع، وتصرفاته غير سوية، فى هذا الوقت تفرز غدد تسمي الغدد الكظرية هرمونات لحظة الإحساس بالخطر وتجعل ضربات القلب في زيادة والتنفس أيضًا وتزيد نسبة الجلوكوز فى الجسم لإنتاج طاقة تساعد الجسم على مواجهة الاحساس بالخطر، اما النوع الثالث من التفاعل هو شخص لا يجيد أيشىء سوى السكون، فيتجمد مكانه ويحدث شلل فى التفكير.

فراق بدون وداع.. رسائل ضحايا كورونا لأحبائهم!

وفى تلك الفترات تقل معدلات الجريمة فى المجتمع كما يرى “سعيد” حيث يتوحد الجميع على الأزمة كما حدث خلال حرب أكتوبر 1973 وسجلت وقتها الأبحاث أقل معدلات للجريمة.

يستطرد أستاذ الطب النفسي ليؤكد أنه فى تلك الظروف يحتاج الشخص إلى طمأنينة، وعبارات آمنة لا العكس، ويعاني الكثيرون فى تلك المراحل من قلة النوم والإحساس بالأرق والإرهاق خاصة إذا كان لديهم استعداد جيني للخوف، وقد يفقد الشخص وزنه، ويرتفع ضغط الدم أو يقل دون سبب وهو لا يدري سبب تلك الأعراض.

وتقول الدكتورة سامية قدري أستاذ علم الاجتماع أن فكرة عدم الخروج من المنزل أزمة أكثر مما يتصور البعض، خاصة أننا في فترة عصرية بها الكثير من التفاصيل التي يتأقلم عليها البعضوالشعور بالسعادة من خروج وتنقل ورؤية للأصدقاء أو قضاء الوقت معهم وكلها تفاصيل أصبحت غائبة عن الناس رغما عنهم، وأردفت ” قدري” أن تحليل المنشورات اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد الشعور العام بالضجر والملل والروتين وهو ما يجعل الانسان مهيأ لتصرفات تستجد عليه تضعه في مزاج خطر لكنها تستبعد أن تكون الجريمة ضمن ردود الأفعال ، لكنها لا تستطيع توقع ما يحدث في حالة طول فترة العزل الاجتماعي مع سوء الأحوال الاقتصادية.