في فيلمه الروائي «أبناء الدنمارك»، يصور علاوي سليم، المخرج الدنماركي من أصول عراقية، ما سيحدث في البلاد بعد ثلاث سنوات من الآن، وبالتحديد عام 2025، عبر قصة سينمائية من نحو ساعتين، يتقصى فيها معركة التطرف والكراهية من خلال الصراع المباشر بين المتطرفين والقوى الأمنية والسياسية والمهاجرين، ليصبح العنف في النهاية المأساوية نوعًا ما، هو اليقين الوحيد الذي تصل إليه كل الأطراف، منتهيا إلى أن «العنف يولد العنف».

يبني المخرج حبكة فيلمه على قصة مفادها أن العاصمة كوبنهاجن ستتعرض عام 2025، لهجوم إرهابي ضخم، ضمن مخطط يتورط فيه ثلاث مهاجرين من أصول عربية، عراقي ومصري وفلسطيني، لاغتيال أحد نشطاء اليمين الدنماركي المتطرف، يدعى مارتن نوردال، لكنه ينجو من محاولة الاغتيال، ويؤسس بعد ذلك جماعة يمينية متطرفة تسمى «أبناء الدنمارك»، ويتبنى مع أعضاء جماعته الدعوة إلى طرد المهاجرين الذين «سرقوا منا بلدنا».

 

تبدأ أحداث الفيلم بمشهد نرى فيه انفجارًا إرهابيًا يقع في إحدى محطات المترو، دون أن نعرف على وجه التحديد من الجاني، لينقلنا الفيلم مُباشرة إلى أحد طرفي الصراع، وهو مارتن نوردال، زعيم حزب «الحركة القومية»، وهو يتحدث بغطرسة إلى إحدى القنوات التلفزيونية في ذكرى الحادث الإرهابي عن ضرورة طرد جميع المهاجرين حفاظًا على البلاد من خطر الإرهاب الداهم.

ويتضح أن منفذ عملية المترو هو الشاب المهاجر «زكريا» بتكليف من جماعة «جهادية» متطرفة انضم إليها، وبمساعدة من «مالك» الذي يتبين بعد ذلك أنه عميل متخفٍ لجهاز الاستخبارات الدنماركي، وأنه هو الذي وشى بصاحبه «زكريا» للجهات الأمنية، لكي يحول دون اغتيال «نوردال».  

ونرى دوافع «زكريا» الذي يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا لارتكاب الواقعة، فهو من دون عمل، وحتى دراسته لا يُعول عليها أدنى اهتمام، وهو في نفس الوقت يخشى على أسرته من صعود جماعات اليمين المتطرف، وبالتالي يتبدل مصيره إلى النقيض بعد وقوعه في براثن زعيم الجماعة الإرهابية، ويسهل تطويعه وتشكيله. وفي هذا الجزء من السرد نرى الأحداث بعين «زكريا»، وكأنه يُمثل حيرة العرب في الغربة، وكيفية سقوط بعضهم في فخ الإرهاب، لمواجهة فيض الكراهية المُنبعث تجاههم من اليمين المتطرف.

ينجح المخرج في تحويل العمل بذكاء، لينحاز لوجهة نظر أن الخطر الأكبر من اليمين المتطرف والنازيين الجدد، وليس من المهاجرين

على الرغم من البداية النمطية للفيلم عن العرب الإرهابيين، إلا أن المخرج «سليم» ينجح في تحويل العمل بذكاء، لينحاز لوجهة نظر أن الخطر الأكبر من اليمين المتطرف والنازيين الجدد، وليس من المهاجرين الذين أصبحوا مواطنين، مثل كل الدنماركيين.

ويؤدي التفجير الإرهابي إلى هجوم شرس على المهاجرين المسلمين، الذين عاشوا في هذا البلد منذ سنوات طويلة ويعتبرون أنفسهم مواطنين، إلا أنهم يتحملون نتائج الإرهاب لمجرد أنهم مسلمين، ويستغله «نوردال» في استقطاب المزيد من الأتباع لحزبه السياسي الصاعد، فيما يستمر الصراع في نفس «مالك» بطل الفيلم، الذي يمزقه خوفه على أسرته وواجبه نحو عمله وإحساسه بالذنب بعد الزج بـ «زكريا» في السجن.

الدائرة الجهنمية

يستقطب «نوردال» مؤيدين جدد إلى حزبه اليميني الذي يرفع شعار «الدنمارك للدنماركيين»، ويعد أنصاره بأنه حين يصل إلى الحكم فلن يسمح لأحد بتهديد الحضارة الغربية، وأن يسحب الجنسية الدنماركية من المسلمين ويعيدهم إلى بلادهم.

ومع توالي الأحداث، يقوم أعضاء مسلحون من جماعة «أبناء الدنمارك» بالهجوم على بيت «مالك»، وهم لا يعلمون أنه هو الذي أنقذ زعيم الجماعة من الاغتيال، ويشوّهون وجه زوجة «مالك» بمادة حارقة ويقتلون ابنه، في جريمة بشعة تهز المجتمع الدنماركي.

ويكتشف «مالك» تورط الرجل الذي أنقذه من الموت «نوردال» مع الجماعة المتطرفة «أبناء الدنمارك”، فيقرر ممارسة عنف مضاد انتقاما لزوجته وابنه، وخوفًا على الأمن القومي من وصول هذا القيادي المتطرف للسلطة، فيقتل «نوردال»، ليدخل الجميع في دائرة جهنمية من العنف والانتقام.

التصعيد المتبادل كما يصوره الفيلم، لن يردع أحدًا من الطرفين سواء المهاجرين العرب، أو أنصار اليمين الدنماركي المتطرف

إن هذا التصعيد المتبادل كما يصوره الفيلم، لن يردع أحدًا من الطرفين سواء المهاجرين العرب، أو أنصار اليمين الدنماركي المتطرف، عن الإصرار على بلوغ غايته، فهناك مهاجرون قضوا عشرين عامًا في الدنمارك، ويرون أنهم يُعاملون بازدراء، ويواجهون التعصب اليميني بتطرف ينتقم من مجتمع يغلي بصراعات كامنة، وليس كتلة متجانسة، ففيه من يقبلونهم ولكن الصوت العنصري بات الآن أعلى من كل الأصوات في جميع أنحاء أوروبا، وليس في الدنمارك وحدها.

ينجح المخرج علاوي سليم، الذي ولد ونشأ في الدنماركية «كوبنهاجن» لأبوين عراقيين، في رسم ملامح هذا الكابوس، خصوصًا في ظل تصاعد الجرائم الإرهابية التي يرتكبها اليمين المتطرف في الدنمارك، والفيلم يعد بمثابة «نبوءة سينمائية» بكارثة لن ينجو منها أي طرف، ولن تنجح القوة في ردع المستضعف عن انتزاع حقه أو ما يراه حقًا له في البقاء، مثل مواطني الدنمارك. يطلق المخرج صيحته بعيدًا عن الهتاف، عبر دراما يجسدها بشر ينتمون إلى عدة بلدان عربية، وينأى بهم عن المباريات اللفظية، فهم – وأعداؤهم أيضًا- بشر من لحم ودم في نهاية المطاف.

 

يطرح «أبناء الدنمارك» تساؤلات مصيرية عن المستقبل الغامض، ماذا سيفعل المهاجرون المسلمون؟ وكيف ستكون نهاية هذا اليميني العنصري؟ وهل سينتهي التيار اليميني بمصرع أبرز رموزه على يد مواطن دنماركي؟ وهذا ما كان يشغل المخرج، وهو يزيح طبقة براقة لبيئة يعيش فيها، ويعرف ثقافتها المؤسسة والحاكمة، ويناقش أوجه الشبه بين تطرف الإسلاميين وعنصرية اليمين، ومدى قدرة المنتسبين إلى الثقافتين على اللقاء، أو ميولهم إلى الفراق والصراع مجددًا.

المخرج علاوي سليم: هذا فيلم عن الأصوات المتطرفة من كلا الطرفين.. الطرف العربي متمثل بالإسلام الراديكالي، والطرف الدنماركي باليمين المتطرف

ويقول المخرج عن فيلمه في حوار صحفي: «هذا فيلم عن الأصوات المتطرفة من كلا الطرفين. الطرف العربي متمثل بالإسلام الراديكالي، والطرف الدنماركي باليمين المتطرف. لم أُرِد فيلمًا سياسيًا تقليديًا عن اليمين واليسار، بل عن المجتمع، وعن كيف أن التطرف بات شيئًا «طبيعيًا»، يُمكن قبوله والسماح به. طبعًا، هناك من لا يزال يتصدى لهذه الظاهرة، لكني أؤمن فعلًا أن بعضًا مما يُصرح به على المنابر لم يكن مقبولًا قبل 10 أعوام. هذا الخطاب المتطرف يأتي على لسان بعضٍ ممن يُمكن اعتبارهم كبار القوم في المجتمع الدنماركي. إذا استمرت الحال على هذا النحو، من الآن إلى 10 أعوام، ستتكرس هذه الظاهرة أكثر فأكثر».

ويضيف: «العربي المولود في الدنمارك دنماركي أيضًا، ويحق له ما يحق للدنماركي أبًا عن جد. جميعنا أولاد هذا المجتمع. من أنت كي تقول إني لا أستحق الحياة في هذا المكان؟ والشخصية الرئيسية في الفيلم نصفها دنماركي ونصفها عربي. مولود في الدنمارك، ومُقيم فيها طول حياته. أنجزت هذا الفيلم وأنا أعي تمامًا أنْ لا مكان للطوباوية. حتى الوطنيون المتعصبون لديهم وجهة نظر ربما نتفهمها، فهم يقولون إنه لا يُمكن استقبال الجميع في بلدهم. لا يكفي أن نقول «دعونا نعيش معًا».

ــــــــــــــــــــــ