أمراض مزمنة أصابتها، كشفت عن حجم المعاناة والقسوة، التي تعرضت لها خلال مشوار حياتها، في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان في بلدها تونس، لتكون بمثابة قنديل نور للحريات، ومدافعة قوية عن القابعين في غياهب سجون الاستبداد.

sss

إنها المناضلة التونيسية “راضية النصراوي” المحامية والناشطة في حقوق الإنسان، والتي تترأس الجمعية التونيسية لمناهضة التعذيب، الذي ذاقت ألامه في غياهب سجون الاستبداد لسنوات طويلة قبل ثورة الياسمين.

اقترنت حياة المحامية بالسياسة والنضال، عندما تزوجت” حمة الهمامي”، وهو واحد من أشد المعارضين لنظام الحبيب بورقيبة، ولنظام زين العابدين بن علي من بعده.

مازالت المحامية التونيسية تدور في ذاكرتها صورًا سريعة ليوم “الخميس الأسود” عندما خرجت للشارع في عام 1976، للمشاركة في المظاهرات الطلابية والعمالية، التي تصدى لها نظام الرئيس “بورقيبة” وخلاف عشرات القتلى والجرجى.

هذه الأحداث الدامية، وما رأته” النصراوي”، من جرحى وقتلي، أحدث شرخًا في نفسية الفتاة التونيسية، التي كانت تتحسس طريقها في سبعينات القرن الماضي، جعلها تهب حياتها للدفاع عن المظلومين، والمعذبين في الأرض على يد المستبدين، ولاسيما في بلدها تونس.

تمثل البطلة التونيسية مثالًا حي، للممارسات القمعية لقوى الاستبداد في عالمنا، ضد النشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين لم يتعرضوا للسجن والقهر فقط، ولكن للترويع والتهديد الذي نال منهم ومن أسرهم، والتشهير بحياتهم والعائلية.

مُعذبة تناهض التعذيب

بالرغم من الممارسات القمعية، التي مارست ضدها وضد أسرتها، بالمنع من العمل والتشهير، وهو تعذيب من نوع خاص، فقد قضت حياتها تدافع عن حقوق الإنسان، وتقف ضد جلادي التعذيب، اللذين عملوا بشكل ممنهج، منذ أن تولى السلطة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في 1987.

وصل الأمر للاعتداء البدني والقمع الوحشي، وهذا ما رصدته اللجنة المعنية بالقضاء عل التمييز ضد المرأة، التابعة للأمم المتحدة، في تقريرها الذي جاء فيه:” أنه في فبراير 1998 تعرضت راضية النصراوي، للسطو علي مكتبها وسرقة أغلب ملفاتها، كما أن منزلها تحت المراقبة، بعد قطع وسائل الاتصال”.

وفي واقعة أخرى خلال عودتها من باريس في مايو 2001، تم إيقافها في مطار تونس، ومصادرة جميع ما تحمله من وثائق، ومقالات عن القمع الذي يحدث في بلدها، وفي أغسطس تمّ تخريب سيارتها وتعرضت هي وبناتها لمضايقات مستمرة.

وعندما ترأست منظمة مناهضة التعذيب في تونس، التي بدأت عملها في يونيو 2003، تحدثت بلا مواربة عن ممارسات التعذيب الممنهج، التي يمارسها النظام ضد معارضيه، في أقسام الشرطة والسجون، نهيك عن اقتحام الحياة الشخصية، ومطاردة المعارضين والتجسس عليهم.

وهو ما جعلها عرضة لسهام النظام القمعي في تونس، لتتعرض لتضيقات لا مثيل لها هي وأسرتها الصغيرة، ما دفعها للدخول في إضراب عن الطعام، استمر لمدة تزيد عن 20 يومًا، انهته في يوم الاحتفال بالذكري 55 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 2003.

وبالرغم من كونها تنتمي للتيار اليساري، إلا أنها لم تضع هذا الاعتبار، خلال دفاعها عن حقوق الإنسان، فكانت تناضل وتدافع عن المختلفين معاها فكريًا وإيدلوجيًا.

وعندما تعرض “الإسلامين” لحملات قمع النظام في تونس، لم تتخل عنهم إيمانًا منها بحق المتهم في الدفاع، وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان والمحاماة.

كانت المحامية الحقوقية، تدافع عن فكرة أكبر وأعمق من الخلاف الإيدلوجي والسياسي، وتحلم بعالم يسوده العدل والديمقراطية، بعيدًا عن الخلافات الفكرية والعقائدية.
زوجة ومناضلة

كانت حياة المحامية التونيسية، مقترنة بالسياسة في المنزل وخارجه، فهي متزوجة من السياسي التونسي “حمة الهمامي”، وهو واحد من أشد المعارضين لنظام الحبيب بورقيبة ولنظام زين العابدين بن علي.

قضى الكثير من سنوات عمره، داخل السجون والمعتقلات، بسبب أرائه السياسية، تاركًا زوجته المثابرة مع بنتين بمفردهم، يواجهون عصا القهر والعنف.

وفي هذه الظروف الصعبة، لعبت “النصراوي” كل الأدوار ببراعة، فهي الأم والمحامية التي تدافع عن زوجها، وتتخذ كل الإجراءات القانونية والقضائية لتحسين ظروف اعتقاله.

وتواجه” النصراوي”، لمواقف الصعبة بتحد وصلابه، عندما يتم اقتحام منزلها وتفتيشه عنوة وترويعها هي وأبنتيها، حتى اعتادت علي هذه المواقف، وكيفة التعامل معها.

ثورة الياسمين 2011

كانت راضية النصراوي من القلائل، الذين ناهضوا نظام بن علي، وتحملوا بسبب أرائهم ومواقفهم، ما لا يتحمله بشر من قهر وظلم وتضيق، حتى اندلعت ثورة “الياسمين” في 2011، لتشاهد بعينها ثمار جهودها المضنية عن الحرية.

لتبدأ “النصراوي” مرحلة جديدة من حياتها، وتفتح خزائنها المغلقة عما ارتكبه النظام في حقها، وعرفت خلال هذا الفترة كمحامية وناشطة وأشهر زعيمة رأي تونسية خلال الربيع العربي، واستمرت في عملها بعد الثورة في الدفاع عن السجناء ومناهضة التعذيب.

ولأنها مناضلة وحقوقية من نوع خاص، فلم تطلب أو تنتظر ثمن أو شكر لجهودها، بل انتقدت مطالب بعض السجناء السياسيين، بالحصول علي مقابل عن سنوات سجنهم.

لتردد جملتها الشهيرة :” نيلسون مانديلا قضى 28 عامًا في السجن ولم يطلب يومًا بتعويض عن سنوات نضاله”، لتكشف جزء مضئ من شخصيتها المتصالحة مع الذات، التي ترفض أخذ الثمن مقابل نضالها وأسرتها وزوجها.

وبسبب جهودها جرى اختيارها ضمن اللائحة القصيرة للمرشحين لجائزة نوبل للسلام في 2011، وحصلت علي جائزة “أولوف بالم” لحقوق الإنسان في 2013، وجائزة “رولون بوفر” وجائزة كمال جمبلاط في لبنان، وجائزة خوزنبينينج الهولندية، بالإضافة لدكتوراه فخرية.

ولجهودها في مناهضة التعذيب وجرى اختيارها في 2014 عضوا في لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، بعدد أصوات 62 صوتًا من مجموع 70 صوتًا.

ومازالت “النصراوي” بصورتها المضيئة، ملهمة للكثير من النساء والمناضلين والحقوقين في تونس الوطن العربي، رغم مرضها ورحلات علاجها للخارج بين الحين والأخر.

لتضرب مثالاً حياً للمناضلة والحقوقية والزوجة المثابرة، التي تحملت الكثير طول حياتها، دون انتظار ثمن إسقاطها القهر والظلم والاستبداد.