تعاني  الكاميرون من أزمة هوية “طاحنة ” والتي تعرف حقوقيا وسياسيا بـ”أزمة الانجلوفون” وهي الأقلية الناطقة  باللغة الإنجليزية ،التي تصر على مطلبها  بالانفصال بدولة أمبازونيا والاستقلال عن مناطق “الفرانكوفون ” الأغلبية المسيطرة الناطقة باللغة الفرنسية والتي تتمتع بالمزايا والمكتسبات كافة ، ما أدى إلى استمرار  تصعيد الأوضاع المأسوية حتى باتت كارثة إفريقية معقدة قد تستعصى على حل للطرفين يعمل على رأب الصدع بينهما.

جمع المكان الطرفين المتنازعين، ولكن فرقهما اختلاف اللسان واللغة، وتشاركا معا في تلطيخ أيديهما بانتهاكات حقوق الإنسان التي نالت من السكان.

وتعرف الموجة الحالية من الصراع في الكاميرون، بأزمة “انجلوفون” أي الناطقين باللغة الإنجليزية والتي لها جذور مباشرة في الاحتجاجات الأنجلوفونية التي اندلعت في أواخر 2016 ، وشن نشطاء خلالها حملات من أجل استخدام اللغة الإنجليزية في القطاعات القانونية والتعليمية و الإدارة العامة ، كما طالب السكان بالمزيد من الحكم الذاتي من الحكومة التي تعتمد اللغة الفرنسية .

وبدأ النزاع على شكل تمرد صغير النطاق، سرعان ما امتد في غضون سنة إلى معظم المناطق الناطقة بالإنجليزية.

وردت قوات الأمن الحكومية بعنف على الاحتجاجات وقتلت كثيرين وسجنت المئات ، مما أدى إلى تصعيد مشاعر  “الأنجلوفون” ،والتي ظهرت بعد ذلك في تشكيل الجماعات الإنفصالية الرئيسية والتي تتمثل في الجبهة المتحدة لتجمع أمبازونيا ،معلنة  في أكتوبر 2017 عن استقلال “أمبازونيا ” الذي أخذت تدعمه بالقوة.

السكان مهددون ويشعرون بالخوف والهلع وتعرض بعضهم للتشريد والتعذيب على يد الجيش الكاميروني و المتمردين 

وتنعقد الآمال على إجراء حوار شامل ومفاوضات فاعلة  تجمع الأطراف المتناحرة لاستعادة حقوق الإنسان “المهدرة” التي تركت “معاناة قاسية” نالت من المدنيين بلا استثناء، وتسببت في فرار مئات الآلاف من منازلهم، و إغلاق المدارس، إلى جانب ارتكاب جرائم خطف وعنف وإراقة دماء،  وكلها نابعة من التمييز على أساس لغوي، تعود جذوره إلى الحقبة الإمبريالية ،التي شهدت طموحا استعماريا “فرنسيا – إنجليزيا  جاء في سياق سباق قد يشبه في ملامحه دون تفاصيله تركة  “سايكس – بيكو” بالمنطقة العربية ولكن  في نسخته الإفريقية .

حالة من عدم الاستقرار تسود في المناطق الناطقة بالإنجليزية منذ عام 2016 حينما تظاهر المعلمون والمحامون ضد سيطرة اللغة الفرنسية ضد  فرض اللغة الفرنسية في محاكم ومدارس المناطق الأنجلوفونية التي تعاني من التهميش وندرة الموارد .

بين القمع والتدمير

يعتبر تجاهل شكاوى المعارضة وحقوق الأقليات اللغوية والعرقية سمة رئيسية  لعديد من الدول الإفريقية التي تعاني حكما قمعيا يقوم على أساس التفرقة وهو ما ينطبق على الكاميرون، التي تعاني تمييزا “لغويا، جعلها تفتقر إلى الاندماج الاجتماعي ومبادئ المساواة و المشاركة في الحقوق.

السكان  مهددون ويشعرون بالخوف والهلع وتعرض بعضهم للتعذيب على يد الجيش الكاميروني و المتمردين ، وتهدمت  منازلهم حرقا ،  فضلا  عن قتل الأهل والأصدقاء على يد قوات الأمن و الانفصاليين “الانجلوفونيين” .

وتعاني مناطق نتوبمو و ياوندي بجنوب غرب الكاميرون من الاعتداءات والعنف على نحو مستمر  

وشهد الشهر الماضي أعمالا تدميرية صاحبت انتخابات المحليات و الانتخابات البرلمانية التي جرت  في 9 فبراير 2020 ، وحاول الانفصاليون  مقاطعة الانتخابات من خلال فرض إغلاق الأقاليم المتحدثة باللغة الإنجليزية وخطف ما يصل إلى مائة شخص، حسبما أفادت منظمة هيومان رايتس ووتش ، التي قالت  إن الانتهاكات الموثقة والتي ارتكبتها قوات الأمن تفوق تلك التي ارتكبها الانفصاليون المسلحون.

بينما أشارت منظمة العفو الدولية إلى زيادة أعمال القتل والحرق على يد الجيش في الأيام السابقة على الانتخابات، وتسبب هذا النشاط العدائي من الجانبين في فرار 8 آلاف شخص من الكاميرون إلى نيجيريا فقط  خلال النصف الأول من فبراير .

كما دقت الأمم المتحدة جرس الإنذار، الشهر الماضي، “عندما قتل مسلحون  نحو 21 شخصا في منطقة نجرابو، الواقعة في شمال غرب الكاميرون ، وكان من بينهم امرأة حامل، و سبعة أطفال، إضافة إلى التحركات العسكرية ضد المدنيين في هذه المنطقة، ما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاعتراف  بـ”الوضع المتدهور ” في المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية ، وذلك بعد الحادث بأيام .

80% من المدارس في المناطق الناطقة بالإنجليزية ستظل مغلقة ، مما يؤثر على أكثر من 600 ألف طفل وتدمير نحو 74 آخرين 

وباتت هذه الجرائم تشكل كابوسا مفزعا للناطقين بالإنجليزية والذين صار خيارهم الوحيد هو الفرار من الدوريات التي يقوم بها الجنود والانفصاليون .

وأكد السكان بالمنطقة الجنوبية الغربية أن قوات الأمن الكاميرونية تقوم بحرق أي منزل إذا وجدت  فيها شابا يهرب في المنطقة ، فالشباب مستهدفون لأن الانفصاليين يجندونهم للقتال ضد الجيش.

وسعت المنظمات الدولية وغير الحكومية إلى توصيل المساعدات للسكان الأنجلوفون الأكثر عرضة للاعتداءت ،و كانت هذه المنظمات تلجأ إلى المناورات والحيل كي تصل إلى مناطقهم .

وكانت المؤسسة التعليمية التذكارية المحلية ، في طليعة المنظمات ، عندما نشب القتال بين الجيش و أبناء أمبا في مدينة كومبا  ، وتكمن الصعوبة في اعتقاد كل من الحكومة و الانفصاليين  بأن المنظمات تساعد الطرف الأخر، بل تقوم يجري اتهام أعضائها بالتجسس .

تدهور إنساني

أجبر الصراع كثيرا من المدنيين المحليين على العيش في ظروف حياة  قاسية ، فقد فر ما يزيد على نصف مليون كاميروني ناطق باللغة اإنجليزية من منازلهم.

كما واجه التعليم “انتكاسات شديدة ” ، حيث أغلقت المدارس للمرة الرابعة على التوالي منذ سبتمبر 2019 .

وقالت منظمة “يونيسيف ” في تقرير لها إن 80% من المدارس في المناطق الناطقة بالإنجليزية ستظل مغلقة ، مما يؤثر على أكثر من 600 ألف طفل ، إلى جانب تدمير نحو 74 مدرسة في مناطق الاضطرابات ،  فوقف التعليم له تأثير شديد على معدلات الخطف و حمل المراهقات و تجنيد الأطفال .

ويصر الانفصاليون على استمرار إغلاق المدارس، عبر المدن والقرى في المناطق الشمالية الغربية والجنوبية الغربية  حتى توافق الحكومة على التفاوض لإنشاء دولة أمبازونيا، وهو ما ترفضه الحكومة، معتقدة أنها تستطيع هزيمة هؤلاء الانفصاليين الذين تصفهم بالارهابيين .

وتحدث زعيم حزب المعارضة ، بحركة نهضة الكاميرون ، موريس كانتو ، عن حوار شامل كخطوة نحو المصالحة بين الحكومة و الإنفصاليين وإنهاء  “الشتات ” الكاميروني الأوسع نطاقا .

الناطقون بالانجليزية يشتكون من التمييز و سوء المعاملة كأقلية لغوية ، فضلا عن محاباة المتحدثين بالفرنسية في التعليم 

وتحقق هذا الاقتراح بنحو ما في الحوار الوطني الكبير الذي عقد في سبتمبر العام الماضي، والذي جرى فيه مناقشة أفكار عن وضع خاص للمناطق المتحدثة باللغة الإنجليزية ، غير أن استمرار أعمال العنف أثناء فترة الحوار ، أحبطت  أي تقدم ممكن في هذا السبيل.

وفي الوقت الذي تصر المعارضة على موقفها الصارم الذي لا يقبل التفاوض بشأن الانفصال ، استمر الانفصاليون المتحدثون باللغة الإنجليزية يحتفلون بالاستقلال “الأمبازوني ” الذي تحقق في أول أكتوبر منذ عام 2017.

ويستمر الوضع الانساني في التدهور وبشكل رئيسي جراء النزوح الجماعي المتزايد  نتيجة للاعتداءات التي يتعرض لها المدنيون على حد قول رئيس مكتب الأمم المتحدة الإقليمي بمكتب الشؤون الإنسانية ، في جنوب غرب الكاميرون جميس نونان

وفي ذات السياق أعرب سكرتير عام الأمم المتحدة  أنطونيو غوتيرس عن قلقه من التوتر في المنطقة، داعيا الحكومة إلى معالجة مشاكل السكان الأنجلوفون واتخاذ خطوات من أجل المصالحة الوطنية.

 

بينما هاجمت الحكومة الكاميرونية هذا الإعلان مؤكدة أنه  يفتقر إلى “الثقل القانوني ” ، و ردت على الاحتجاجات الانفصالية  بقطع الإنترنت، واعتقال المتظاهرين ، و غيرها من الاعتداءات العنيفة.

وبدأ العنف في 2017 في كل من المناطق الواقعة في شمال غرب وجنوب غرب البلاد في أعقاب الاحتجاجات السلمية التي نظمها المعلمون والمحامون الأنجلوفون ، الذين هرعوا إلى الشوارع للتظاهر ضد التمييز والممارسات “غير النزيهة ” التي تمارسها الحكومة الفرانكوفونية المركزية .

وأخذت الحكومة منذ صيف العام الماضي تسيطرعلى المدن الرئيسية وأجزاء من الريف، بينما يفرض  الانفصاليون  هيمنتهم على جزء من الريف ويظهرون بانتظام في المدن الكبرى.

جذور الأزمة

كانت الكاميرون مستعمرة للإمبراطورية الألمانية بغرب أفريقيا في الفترة بين 1884-1916.

ويعود انقسام الكاميرون إلى نهاية الحرب العالمية الأولى عندما قسمت عصبة الأمم ، بين فرنسا وبريطانيا بعد انتصارهما في الحرب .

وكانت المنطقة الناطقة بالإنجليزية قد انضمت للكاميرون الفرنسي بعد استفتاء عام 1961.

وتعود جذور الشقاق والتوترات بين المناطق الناطقة باللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى التقسيمات الاستعمارية التي فرضتها القوى الإمبريالية البريطانية والفرنسية في مطلع القرن العشرين ، فقد تم تخصيص 80% من الكاميرون في 1919 للفرنسيين ، و 20% للبريطانيين .

و حصل الجزء الفرنسي  على الاستقلال عام 1960 و تبعا لذلك اندمج مع الجزء الجنوبي البريطاني ، في أعقاب إجراء استفتاء شعبي .

في حين انضم شمال الكاميرون البريطاني إلى نيجيريا ، وبالنظر إلى المواريث الاستعمارية المتباينة  لهاتين المنطقتين ، فإن العلاقات بين المجتمعات الناطقة بالفرنسية و الإنجليزية كانت “هشة “

بينما تتجسد “الأزمة الإنجليزية ” في الحرب الأهلية أو ما يعرف بـ”حرب أمبازونيا ” وهي صراع سياسي على الحكم بالجنوب .

وتصاعدت الأصوات في المناطق الناطقة بالإنجليزية المطالبة بالاستقلال تحت اسم أمبازونيا، منذ عام 2008 ،  وذلك في ظل ما وصفوه بالحرمان الاقتصادي والتهميش.

ارتفعت  الأصوات المطالبة بالاستقلال تحت اسم جمهورية أمبازونيا، في  ظل ما وصفوه بالحرمان الاقتصادي والتهميش.

كان الكاميرونيون الناطقين بالإنجليزية  يتحدثون صراحة عن تعرضهم للتمييز و سوء المعاملة كأقلية لغوية ، فضلا عن معاملة اللغة الفرنسية و المتحدثين بها في نظام التعليم على نحو من المحاباة  ، إلى جانب تكرار الجرائم  الوحشية البوليسية في المناطق المتحدثة بالإنجليزية .

 ويشعر ” الانجلوفونيون” أن الجيش لديه سلطة مطلقة ليفعل ما يشاء ، وفي الوقت نفسه يخشى القرويون من النوم في منازلهم التي يهجرونها ويعودون إليها عند حصاد محاصيلهم حتى يحصلوا على مأكلهم .

ووصل سوء المعاملة للناطقين بالإنجليزية من جانب الحكومة الكاميرونية إلى حد اعتبارهم “عبيدا ” وفقا لأحد المقاتلين الانفصاليين الذي شدد في حديثه  لمنظمة “نيو هيومانيتريان ” إنهم لا يريدوا أن يكونوا عبيدا بعد اليوم ” .

العودة من الأدغال

لايزال غالبية الأنجلوفون يعتقدون أن الحكومة تستطيع إنهاء هذا الوضع بمكالمة تليفونية واحدة من الرئيس بول بيا ، إلى جانب سحب الجيش من المنطقة والذي يضم 1300 عسكري وشرطي ممن تم جلبهم لتأمين انتخابات فبراير .

كما أصدر الرئيس  قرارا أعلن فيه  تاريخا جديدا حدده بيوم 22 مارس الجاري لإجراء  الانتخابات التشريعية التي ألغيت في منطقة الناطقين باللغة الإنجليزية المشوبة بالقلاقل .

ويبلغ  بيا من العمر 87 عاما وتولى السطة في عام 1982 ، لتصبح بذلك مدة حكمه الأطول في القارة ، وهو دائما ما يلقي بالمسئولية في تكبد الخسائر على يد  “مثيري الشغب ” داعيا إلى “كاميرون موحدة لاتقبل القسمة “

ودعا الرئيس في 11 فبراير الماضي ، الشباب الكاميروني إلى العودة من الأدغال ، وهي خطوة وصفها عضو مجلس الشيوخ بالمعارضة جورج كنيانج بأنها غير كافية ، قائلا :”من سيوظفهم وكيف يعودون من الأدغال بعدما حرقت بيوتهم في المناطق الجنوبية والشمالية الغربية ، كيف تطلب منهم العودة وهم يفتقرون إلى ضمانات الأمن وتوفير سبل الرزق  واحترام حقوق الإنسان ؟

سؤال يظل مفتوحا ينتظر الإجابة عمليا ربما من خلال  التطورات التي تشهدها الأيام المقبلة فعلى الرغم من أن سنة 2019 شهدت أول خطوة بناءة للحواربين الأطراف المتنازعة فضلا عن الحوار الوطني ، إلا أن الحرب لا تزال مشتعلة .