فرضت الدول الغنية سياسات لمكافحة فيروس كورونا ، وحققت نجاحات لديها ، ولكن تطبيق تلك السياسات قد تأتي بنتائج عكسية في الدول الفقيرة وذات الدخل المنخفض ، والتي يرجح أن تعرض حياة مزيد من سكانها للخطر بدلا من أن تحافظ عليها ، مما يثير عديدا من علامات الاستفهام لا سيما عندما يكون الحل جزء من المشكلة أو عندما يكون العلاج أسوأ من المرض .

sss

وجرى تطبيق مستويات مختلفة من التباعد الاجتماعي في التعامل مع وباء كورونا  في جميع دول العالم من بينها الصين وأوروبا والولايات المتحدة، بينما تلقى  مئات الملايين من الأشخاص ما طرأ من تغيرات مدمرة على حياتهم اليومية و الخسائر الاقتصادية الجسيمة  والتي تأسست على تبرير إبطاء انتشار الفيروس، والحفاظ على أنظمة الرعاية الصحية والحيلولة دون إرهاقها .

فقراء “التباعد”

الدول الفقيرة تحتاج إلى التفكير مرتين بشأن التباعد الاجتماعي ، هو عنوان التحليل  المطول الذي نشرته “مجلة فورين ” بوليسي الأمريكية والذي أكدت فيه أن  نماذج الأمراض الوبائية لها تكلفة باهظة تنعكس في موت مئات الآلآف وصولا إلى  الملايين ، وهي نتيجة أسوأ بكثير من أشد كساد اقتصادي يمكن تخيله .

لابد من ابتكار حلول لتأمين  الفئات الأكثر تعرضا  للجوع والحرمان، وهو ما يشكل تحديا في الدول التي تفتقر إلى ضمان اجتماعي 

كتب المقال التحليلي كل من أستاذ الاقتصاد بجامعة “يل” الأمريكية والذي يدير مبادرة الأبحاث بالجامعة الخاصة بالابتكار والقياس ، و الأستاذ بالجامعة بارنيت هويل، والمشارك بالمبادرة .

اقرأ أيضا :مؤسسة حقوقية  تطالب بإنشاء صندوق تكافل لتعويض الفلاحين عن خسائر “كورونا “

وبالرغم من التكاليف الاقتصادية المرتبطة بالتباعد الاجتماعي، إلا أنه يلقي تبريرا كبيرا في المجتمعات ذات الدخل المرتفع ، لكن منطق هذه الاستجابة مبني على سمات المجتمعات الصناعية الغنية نسبيا ، التي نشأت فيها  هذه السياسة ، بينما تختلف مجتمعات ذات دخل منخفض ومتوسط مثل بنجلاديش و نيجيريا ، وتثير أسئلة أخرى مثل هل فوائد الإغلاق في جميع أنحاء البلاد تفوق التكاليف في الدول الفقيرة .

“نرى مبررات عديدة تشمل التركيبة السكانية ، ومصدر أرزاق الناس و القدرة المؤسسية ، وكلها مبررات توحي بأن الإجابة قد تكون مختلفة مما هي عليه في الولايات المتحدة أو أوروبا، والحقيقة أن فرض تدابير إغلاق صارمة في الدول الفقيرة التي يعتمد فيها الناس في غالب الأحوال على أعمالهم اليدوية اليومية لكسب ما يسد رمق أسرهم ، قد يؤدي إلى عدد مماثل من الوفيات الناجمة عن الحرمان والإمراض التي يمكن الوقاية منها ، كالوفيات التي تنجم عن الإصابة بـ”كوفيد -19 “

تأثير مختلف

ونصح المقال التحليلي بضرورة النظر أولا إلى التأثير المحتمل للمرض على الدول المختلفة ، فبينما لا تكون الفئات الصغيرة آمنة ، فإن فيروس كورونا يصيب بشدة الفئات الأكبر عمرا ، بمعدل وفيات يقدر بـ6.4 % عند من تزيد أعمارهم على 60 عاما ، وتزيد النسبة إلى 13.4 % عند من هم أكبر من الـ80 عاما .

تدابير الإغلاق الصارمة قد تعني للفئات الفقيرة والعمالة غير الرسمية  وضعا لا يقل خطورة عن الإصابة بالوباء ذاته 

ونبه إلى أن  الدول ذات الدخل المنخفض ، والتي يقل دخل الفرد فيها عن ألف دولار في العام ، لديها نسب أصغر من السكان التي تزيد أعمارهم على 65 عاما بواقع 3% مقارنة بالدول الغنية التي ينفخض فيها مستوى الخصوبة ليصل إلى 17.4% ، وفقا للبنك الدولي ، مضيفا أنه نتيجة لذلك فإن النموذج الوبائي المؤثر التابع لفريق الاستجابة لكوفيد -19 بالكلية الملكية ، يقدر أن انتشار فيروس كورونا المستجد المستمر  قد يقتل 0.39 % من سكان بنجلاديش و 0.21% من سكان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، و هو أقل من نصف معدل الوفيات البلغ 0.8% الذي جرى تقديره للولايات المتحدة وغيرها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية .

وقال الباحثان إنه لكي تحسب الفوائد المقارنة جراء فرض إرشادات التباعد الاجتماعي في الدول الغنية مقارنة بالدول الفقيرة ، قمنا بضم تقديرات التكاليف الخاصة بالدولة  مع التنبؤات بالوفيات جراء الوباء وانتشار الفيروس وذلك لوضع تقديرات لنطاق من الدول ، مضيفين أنهما توصلا في  البحث ،  الذي يخضع حاليا للمراجعة ، إلى اختلافات هائلة في قيمة التباعد الاجتماعي عبر الدول المتخلفة .

اقرأ أيضا : ” التبرع” لمواجهة حرب كورونا.. جدل المسئولية المجتمعية والتعارض الدستوري

وأكد المقال المشترك أن هناك سياسة “تباعد اجتماعي ” مؤثرة على قدم المساواة ، والتي تحاط بتكهنات بشأن خفض الوفيات المرتبطة بفيروس كورونا بـ1.3 مليون شخص في الولايات المتحدة و 426 ألف شخص في ألمانيا ، مشيرا إلى أن مثل هذه السياسة من شأنها أن تنقذ فقط  182 ألف شخص في باكستان و 102 في نيجيريا ، ولكن السؤال هو : كم حياة تعرضها مثل هذه السياسية للخطر في هذه الدول الفقيرة ؟

سقطوا من السجلات

بالنسبة لعامل يومية في مدينة مومباي بالهند ، يعني البقاء في المنزل موت أطفاله وزوجته من الجوع .

ويقوم مئات الآلاف من الأشخاص ، مع فرض إجراءات الإغلاق في الهند ، برفع القمامة و النفايات الطبية و نزح مياه الصرف حتى بدون أية معدات وقائية .

وأكد المقال التحليلي أن الفوائد الجمة الناتجة عن التباعد الاجتماعي التي تقدر في الولايات المتحدة وغرب أوروبا لا تترك مجالا للجدل بشأن قيمة انتشار إجراءات الإغلاق الصحية و أوامر البقاء في المنزل في هذه المناطق ، وهذا ما يفسر السبب في دعاوى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و غيره، ألا  يتحول العلاج إلى ما هو أسوأ من المرض ليس لها معنى في دول كالولايات المتحدة .

اقرأ أيضا يراقب ” التباعد” وبؤر الإصابة…”فيسبوك” يحارب كورونا على طريقته

وأضاف أن الصورة الكمية، أقل وضوحا في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ، كما أن مواطنيها يريدون أيضا أن يكونوا في مأمن من المرض ، ولكنهم لا يريدون الموت جوعا.

اجراءات التباعد الاجتماعي تعتمد في أمريكا وأووبا على الدعم أما فقراء الدول النامية فقد سقطوا من السجلات الحكومية 

وتعتمد إجراءات التباعد الاجتماعي التي سادت في وهان بالصين، و يجري تطبيقها حاليا في جميع أنحاء أوروبا و أجزاء من الولايات المتحدة ، على أنظمة دعم حكومية ، فكثير من العمل في جميع أنحاء أوروبا لا يزالوا يتلقون رواتبهم ، كما يتسلم دافعو الضرائب في الولايات المتحدة صكوك تحفيز ، وبالعكس فإن العمالة غير الرسمية في الدول النامية لا تظهر دائما في السجلات الحكومية والسجلات البيروقراطية .

اقرأ أيضا : بين اليأس والأمل ..آلام العمالة المؤقتة في زمن الأوبئة

اقرأ أيضا : ” رئيس نساء مصر”:على الدول الكبرى تحويل المليارات من ” السلاح” إلى “الصحة”

وإذا كان لابد من إتباع التباعد الاجتماعي على نطاق واسع، فإنه يجب بذل جهود هائلة وابتكارية للحصول على الغذاء والوقود والمال وأن يتوافر في أيدي الفئات الأكثر تعرضا  للجوع والحرمان وهو أمر يشكل تحديا ، بشكل خاص ، في الدول التي تفتقر إلى  شبكات ضمان اجتماعي متطورة.

ويجب على الحكومات والقطاع الخاص و جماعات المساعدات الإنسانية و شركات  المحمول و شركات التكنولوجيا بتطبيق حلول ابتكارية مثل إرسال تحويلات نقدية عبر التطبيقات الإلكترونية.