تحولت بعض السجون داخل الولايات المتحدة إلى إحدى ساحات التجنيد الرئيسة لتنظيم «القاعدة»، وأصبحت بمثابة «حواضن» لصناعة التطرف، إذ يرى السجناء التابعين للتنظيم أن من «واجبهم الشرعي» نشر معتقدهم وأفكارهم، وبالتالي هم يحملون رسالة «متخيلة» لتحويل السجناء الجنائيين الآخرين لكي يصبحوا أتباع مخلصين للتنظيم.
من الحالات المسجلة في مجال صناعة التطرف داخل السجون، قصة البلجيكي بنيامين هيرمان، الذي دخل سجن «لانفين» بتهمة الاعتداء والسرقة عام 2003، وكان في ذلك الوقت مجرد مراهق جانح له سجل جنائي صغير.
في مايو 2018، وافقت السلطات البلجيكية على منح «هيرمان» خروجًا مؤقتًا من السجن لزيارة عائلته، لكنه حين خرج كان شخصية مختلفة تماما، حيث بات «إسلاميًا متشددًا»، وقام خلال غضون ساعات من إطلاق سراحه بقتل اثنين من ضابطات الشرطة في مدينة «لييج» البلجيكي، واستخدم مسدس إحداهن لقتل سائق سيارة تصادف وجوده بالمكان.
البلجيكي بنيامين هيرمان، دخل السجن بتهمة الاعتداء والسرقة، وقام خلال غضون ساعات من إطلاق سراحه بقتل اثنين من ضابطات الشرطة
هناك أيضا أنيس عامري، تونسي الجنسية؛ الذي دخل سجن «كاتانيا» الإيطالي، بتهمة الاختلاس، وقضى عقوبة لمدة 4 سنوات، إلا أنه بعد خروجه من السجن، التحق بشبكة من المتطرفين في ألمانيا، وفي 19 ديسمبر 2016، نفذ «عامري» عملية دهس في أحد أسواق برلين، في ذكرى عيد الميلاد، واعترفت وزارة العدل الألمانية أنه أصبح متطرفًا حينما كان داخل السجن.
في عام 2014، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقا استقصائيا بعنوان «كيف ساعدت الولايات المتحدة داعش؟». كشف التحقيق عن حقائق بالغة الخطورة، وكيف كانت عملية «صناعة الإرهاب داخل السجون التي أدارتها الولايات المتحدة داخل العراق عقب احتلاله عام 2003، مشيرا إلى أن الوجوه البارزة التي ظهرت في تنظيم «داعش»، وعلى رأسها زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، كانت قد أمضت سنوات في المعتقلات، لا سيما سجن معسكر «بوكا» الذي أدارته الولايات المتحدة في العراق، وقام هؤلاء المعتقلين بعمليات تجنيد لعناصر محتجزة معهم، ونشر الأفكار التي اعتمد عليها «داعش» فيما بعد.
أصبحت السجون داخل الولايات المتحدة بمثابة «حواضن» لصناعة التطرف
إلى ذلك، عمد سجناء تنظيم «القاعدة» بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى تجنيد النزلاء الجنائيين من ذوي الأصل الأفريقي على نطاق واسع، وغالبا ما يكون هؤلاء النزلاء السود منبوذين في المؤسسات العقابية الأمريكية، فتنتهز التنظيمات المتطرفة هذه الفرصة المواتية من أجل اكتساب أنصار جدد.
«تفريخ» المتطرفين
يفسر هارفي كوشنر، الخبير في علم الجريمة الأمريكي، تحول بعض السجون في الولايات المتحدة إلى مفارخ للمتطرفين، بأن «الكثير من عمليات التحول الفكري الراديكالي داخل السجون ترتبط بالنموذج الكامن للسجن باعتباره مكانا للضعف والانكشاف، يصور بشكل أو بآخر معاناة الأفراد الناجمة عن العزلة المجتمعية والأزمات الشخصية، فالشخص يتم إخراجه من وسطه المجتمعي المعتاد عليه، وسرعان ما يشعر بالخواء، والذي قد ينتقل في مرحلة ما، وفي ظل تجربة السجن الجديدة، إلى قابلية لتبني الأفكار المتطرفة والاستعداد للانخراط في الأنشطة الإرهابية».
يوضح «كوشنر» أن ثمة جانبا آخر متصلا بالتحول إلى التطرف داخل السجون الأمريكية، وهو ذلك المتعلق بالحاجة إلى الحماية، ففي بعض الحالات تتسم السجون بدرجة كبيرة من الفوضوية، وهو ما يؤدي إلى نشوء كيانات موازية لتوفير الأمن، وفي هذه الحالة قد يلجأ الفرد الذي لم يكن له تاريخ متطرف معروف إلى بعض الجماعات المتطرفة، لكي يضمن أمنه الشخصي، ومن ثم يعتنق أفكار هذه الجماعات.
«كوشنر»: في بعض الحالات تتسم السجون بدرجة كبيرة من الفوضوية، وهو ما يؤدي إلى نشوء كيانات موازية لتوفير الأمن
وأدى ذلك إلى ظهور ما يُعرف بـ«عصابات السجون المسلمة» في أمريكا، التي تقوم على أساس الانتماء الديني، وأحيانًا على أساس عرقي، وتزود الأعضاء بشعور قوي بالهوية والولاء، فضلًا عن حمايتهم من المجموعات الأخرى في السجن. صحيح أن هذه العصابات نادرًا ما تضم إرهابيين مدانين، ولا يبدو أن أعضاءها يتمتعون بفهم جيد للدين الإسلامي، إلا أنهم قد يشكلون بيئة محتملة لتطوير صيغ فردية أكثر تطرفًا.
ذكرت دراسة أجراها الدكتور مارك هام، الأستاذ في جامعة إنديانا الأمريكية، أن «تفريخ المتطرفين في السجون يحدث نتيجة التأثير المباشر لنزلاء آخرين، ولا يحدث بتأثيرات خارجية. أما أسباب تطرف نزلاء السجون، فهي الإجراءات الأمنية القصوى، وضعف العملية الإصلاحية، وزيادة العصابات والعنف، وازدحام السجون، وظروف الاحتجاز، إضافة إلى أن ساحات السجون تتحول إلى أماكن استقطاب سياسي وديني».
من الحالات المسجلة في مجال صناعة التطرف داخل السجون، قصة البلجيكي بنيامين هيرمان، الذي دخل سجن «لانفين» بتهمة الاعتداء والسرقة في 2003، وكان في ذلك الوقت مجرد مراهق جانح له سجل جنائي صغير.
ويعزز التداخل بين السجناء المتطرفين فكريًا وغيرهم من السجناء الجنائيين في السجون الأوروبية، الأكثر انفتاحا والأقل صرامة من نظيرتها الأمريكية، من احتمالية استقطاب هؤلاء السجناء إلى المنظومة الإرهابية، وذلك في ظل تراجع الوعي بمخاطر المزج بين السجناء من خلفيات مختلفة، ناهيك عن العقلية البراجماتية الحاكمة للكثير من التنظيمات الإرهابية، وما تقتضيه من توظيف السجون كأداة لاستقطاب عناصر إرهابية جديدة، ونشر أفكار التنظيم على أوسع نطاق ممكن.
وذكرت دراسة بعنوان «ماض إجرامي، مستقبل إرهابي: الجهاديون الأوربيون والروابط الجديدة للجريمة والإرهاب»، للمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي، أن هناك خمسة آلاف أوروبي اتجهوا إلى الشرق الأوسط للقتال في صفوف مختلف التنظيمات الإرهابية، و57% ممن شملتهم الدراسة كانوا مساجين جنائيين قبل أن يجنحوا إلى التطرف، بينما 27% منهم جنحوا إلى التطرف أثناء تواجدهم داخل السجن.
وقام باحثون من المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي، ومقره جامعة كينغز بلندن، بتحليل شخصيات 79 جهاديا أوروبيا لهم ماضٍ إجرامي، من بلجيكا وبريطانيا والدنمرك وفرنسا وألمانيا وهولندا، وجمعيهم إما سافر للقتال أو تورط في مخططات إرهابية بأوروبا.
وذكرت الدراسة التي درست شخصيات جهاديين أوروبيين تم تجنيدهم منذ 2011، أن نشوء تنظيم «داعش» ساهم في تقوية الرابط بين الجريمة والإرهاب.
خطاب «المحنة والمظلومية»
تقول الباحثة الأمريكية أماندا إريكسون إنه «على مدى تاريخ الحركة الإسلاموية الحديثة، كانت السجون في مختلف الدول عبارة عن حضانات للمجموعات الإرهابية. فالأشخاص المتطرفون، عندما تنقطع صلاتهم تمامًا بالأسرة والتأثيرات المعتدلة الأخرى داخل المجتمع، ويتعرضون لما يعتبرون أنه عقاب غير منصف ولا عادل، تتزايد حدة الغضب ومشاعر السخط داخل أنفسهم، ويتحولون إلى التطرف في محاولة للانتقام».
تضيف الباحثة «وفي داخل السجون، يجدون أنفسهم محاطين بالشباب المضطرب نفسيًا واجتماعيًا وفكريًا من الذي يبحثون جاهدين عن «هوية ما» تميزهم و«قضية ما» يعيشون حياتهم لأجلها. وبالنسبة إلى المتطرفين، تصبح السجون فرصة ذهبية سانحة لتعميق صلاتهم بعالم الالتزام الأيديولوجي، وفي الوقت نفسه يحاولون المساعدة في تجنيد وتدريب الجيل الجديد من المتطرفين الشبان».
يتكفل خطاب «المحنة والمظلومية» المؤسس للتنظيمات الإرهابية، بتحويل السجون من مجرد حالة عقابية للعزلة والانكسار، إلى حيز يمكن توظيفه لخدمة أهداف التنظيم وأفكاره، وفي الوقت ذاته إعطاء خطاب المحنة الزخم اللازم لاستمراريته، من ثم تصبح السجون «حواضن» لصناعة التطرف.
باحثة أمريكية: يتكفل خطاب «المحنة والمظلومية»، بتحويل السجون من مجرد حالة عقابية للعزلة والانكسار، إلى حيز لخدمة أهداف التنظيم
وقد تشكل السجون «نقطة تحول» مؤلمة في حياة السجين الجنائي، ربما تدفع الأفراد إلى الخروج من مسار حياتهم التقليدي، والبحث عن سياق جديد أكثر راديكالية. وفي هذا السياق قد يكون التماهي مع المنظومة الإرهابية المتطرفة ناتجًا عن رغبة في البحث عن المعنى والهوية التي تعطي لحياة الفرد قيمة مختلفة، من وجهة نظره، لا سيما إذا كانت هذه الهوية تنطوي على اعتراض وتحدٍ للسلطة والمجتمع، ومنح فرصة للتعبير عن المظالم المتصورة في مخيلة الفرد.
ويتقاطع في ظاهرة «تفريخ الإرهاب» داخل السجون ثنائية المسارات الداخلية والخارجية الدافعة للتطرف، وتنطوي المسارات الخارجية على عملية تسرب وتدفق مواد متطرفة من قبيل الكتب ومقاطع الفيديو إلى داخل السجن، فضلًا عن الزوار الخارجيين الذين قد يروجون لرسائل متطرفة. وترتبط المسارات الداخلية للتطرف بالسجناء ذوي التوجهات الإرهابية المتطرفة، والذين لم يتم فصلهم عن باقي السجناء. وتحدث الإشكالية حينما يسعى هؤلاء المتطرفون إلى الاقتراب من السجناء العاديين عبر تقديم خدمات لهم، والتكريس لأدوار قيادية ذات صبغة كاريزمية أو «روحية» داخل السجن.