أطلق عدد من دول العالم خلال الأعوام الأخيرة، برامج لإعادة تأهيل «العائدين من الإرهاب»، بهدف وضعهم على أول الطريق السوي من جديد، تمهيدا لدمجهم مرة أخرى في مجتمعاتهم.
أبرزت وسائل الإعلام العالمية، قبل فترة، قصة السعودي «أبو سليمان» الذي كان ضمن المقربين من أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، وقاتل معه في أفغانستان، وتم أسره هناك عام 2001 ونُقل إلى معتقل «غوانتانامو» في كوبا، حيث قضى أربع سنوات هناك قبل أن يجري تسليمه للسلطات السعودية. وبعد أن أتم دورة إعادة التأهيل التي التحق بها في الرياض، أعرب «أبو سليمان» عن أسفه لتورطه في الماضي بالنشاطات الإرهابية، وتم الإفراج عنه وحصل على وظيفة كمحلل لسوق الأسهم في البورصة.
في كتابهما «منع الراديكالية وإعادة تأهيل الإرهابيين: إطار للتطبيق وصنع السياسات»؛ يحذر الباحثان روهان غونارتنا وصبرية حسين، من أن «تعزيز الحكومات لقدراتها الهجومية الخشنة على الإرهاب لا يكفي؛ بل لابد من مزجها بالأساليب الناعمة، من خلال مبادرات لبرامج مكافحة التطرف وإعادة تأهيل الإرهابيين؛ لأن كل إرهابي، سواء كان داخل السجن أو خارجه، يمكن أن يكون أداة لتجنيد إرهابيين جدد، وحتى الإرهابيين الموتى، يمكن أن يكونوا أداة تجنيد ودعاية للإرهابيين الجدد».
«مؤمن بالحياة»
أطلقت لبنان، العام الماضي، التقرير الوطني الأول عن نتائج التجربة اللبنانية لإعادة تأهيل المحكوم عليهم بتهم تتعلق بالتطرف العنيف أو الإرهاب، بعنوان «من متهم بالإرهاب… إلى مؤمن بالحياة».
كشف التقرير عن عملية إعادة إدماج المحكومين في قضايا لإرهابية في المجتمع اللبناني، ضمن إطار برنامج «المصالحة مع الحياة»، وذلك باعتماد إجراءات فعالة للتأهيل من خلال تنفيذ أنشطة وبرامج وآليات محدّدة للدمج، استهدفت إعادة تأهيل 778 محكوما بالسجن في قضايا تتعلق بالإرهاب، معظمهم من الأحداث المحتجزين في سجن «رومية».
مُنح السجناء، من خلال أنشطة مثل التدريب المهني والدعم النفسي والاجتماعي والأنشطة المدرة للدخل، الفرصة للإصلاح والتأهيل، مع الهدف النهائي المتمثل في تسهيل إدماجهم في المجتمع والبدء من جديد. ويشمل برنامج إعادة التأهيل مراحل التدخل التي تعكس واقع الحدث في السجن، من الملاحظة المتخصصة إلى التوجيه المنتج والمشاركة الإيجابية، في سياق استخدام الموارد مع مراعاة الأسرة والمجتمع، لضمان إعادة إدماج السجين في السياق الموافق لبيئته.
وفي عام 2014، اقترح الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، تشريعاً كان من شأنه أن يمنح بعض «العائدين من الإرهاب» وعددهم نحو 800 شخص، مساراً للانخراط من جديد في المجتمع. ولكن تحت تأثير الضغوط الاجتماعية الشديدة، لم تحظَ هذه المقاربة بقدر كافٍ من الاستحسان، وجرى تهميشها لصالح سياسات ساهمت في تعزيز التفويض الممنوح إلى الأجهزة المسؤولة عن إنفاذ القوانين لتوقيف المعتقلين وملاحقتهم قضائياً.
أطلق عدد من الدول الأفريقية، من بينها نيجيريا والصومال وكينيا، برامج مخصصة لإعادة تأهيل المقاتلين السابقين في التنظيمات المسلحة، لكن هذه البرامج لا تزال تواجه تحديات حقيقية؛ بسبب رفض عناصر من أجهزة الأمن في تلك الدول لفكرة إعادة الدمج، وتفضيلهم «القضاء» على المقاتلين السابقين وسحقهم، باعتبار أنهم «إرهابيون محتملون».
في أغسطس 2019، أصدر معهد الدراسات الأمنية «iss»، المعني بشؤون الإرهاب في أفريقيا، ومقره دولة جنوب أفريقيا، تقييما لبرامج «إعادة تأهيل ودمج المقاتلين المنشقين عن جماعات العنف المسلح» في القارة.
وأشار المعهد في تقييمه إلى أن «عودة المقاتلين السابقين إلى مجتمعاتهم بعد إعادة تأهيلهم مازال محفوفًا بالمخاطر»، وأن «استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، وانعدام الشفافية، يعيق برامج إعادة التأهيل التي أطلقها عدد من الدول الأفريقية»، محذرا من «غياب الشفافية، وضعف الرقابة على برامج إعادة تأهيل التائبين عن العنف».
معهد الدراسات الأمنية «iss»: عودة المقاتلين السابقين إلى مجتمعاتهم بعد إعادة تأهيلهم مازال محفوفًا بالمخاطر
وأوضح تقييم «معهد الدراسات الأمنية» أن «برامج إعادة التأهيل، واجهت سلسلة من الأخطاء والقصور في كينيا، فقد أعطت الحكومة أولوية خاصة لتوظيف المنشقين عن الجماعات الإرهابية، وإلحاقهم بوظائف مختلفة في البلاد، وهو ما سبب أزمة داخلية، إذ رفض عدد من السكان المحليين إجراءات الحكومة، معتبرين أن المقاتلين السابقين ينبغي أن يتم محاسبتهم على جرائمهم، التي لا تسقط وفق القانون الكيني بالتقادم».
ووفق التقييم، تعرض 1600 من المشتبه بانتمائهم سابقا لجماعة «بوكو حرام» الإرهابية في نيجيريا، بعد القبض عليهم، لانتهاكات واعتداءات خلال عمليات التحقيق، وأثناء فترة احتجازهم في السجون، ويقضي أغلبهم فترات طويلة داخل مجمعات الاعتقال دون توجيه تهم محددة لهم؛ بسبب افتقار مؤسسات الاحتجاز والعقاب النيجيرية للشفافية.
ودشن الجيش النيجيري العام الماضي برنامج إعادة تأهيل للإرهابيين العائدين من «بوكو حرام» تحت اسم «الممر الآمن». واستهدف البرنامج إعادة تأهيل 4500 من مقاتلي الجماعة المنشقين، أو الذين استسلموا للجيش خلال الأعمال القتالية ضد التنظيم، وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم كمواطنين منتجين يحترمون القانون، وإقناع المقاتلين الذين مازالوا مرابطين في الأحراش والأدغال، بأن هناك طريقاً حقيقياً للمصالحة وإعادة الدمج المجتمعي مفتوحة أمامهم.
دشن الجيش النيجيري برنامج إعادة تأهيل للإرهابيين العائدين من «بوكو حرام» تحت اسم «الممر الآمن»
كما افتتح الجيش النيجيري في العام نفسه، برنامجا آخر لإعادة تأهيل المقاتلين المرتبطين بتنظيم «داعش في أفريقيا». وأعد هذا البرنامج مكتب مستشار الأمن القومي، كجزء من استراتيجية مكافحة الإرهاب بكافة فصائله في البلاد.
عائدون إلى الإرهاب
في المقابل، أثيرت علامات تساؤل كبيرة حول برامج إعادة تأهيل الإرهابيين، التي يجري العمل بها في عدد من الدول، ضمن برامج واسعة مخصصة لمكافحة التطرف والأصولية، من بينها البرامج المعمول بها في البلدان العربية بالذات، بعد الكشف عن أن أحد معتقلي معسكر «غوانتانامو» سعيد الشهري، الذي أفرج عنه عام 2007 وتم تسليمه للسعودية، حيث التحق ببرنامج إعادة تأهيل خاص بالإرهابيين، عاد ليصبح إرهابياً، بل نائباً لزعيم تنظيم «القاعدة» في اليمن.
في ديسمبر الماضي، شكك تقرير لصحيفة «التايمز» في فاعلية برامج إعادة تأهيل الإرهابيين المحتجزين في سجون بريطانيا، والتي تهدف لمكافحة التطرف، وذلك عقب حادث طعن وقع على جسر لندن، وقتها، وأودى بحياة شخصين، نفذه سجين سابق في قضية تتعلق بالإرهاب «مُعاد تأهيله».
وحذر تقرير «التايمز» من خطورة فاعلية برامج إعادة التأهيل، خاصة أن عثمان خان، منفذ هجوم جسر لندن، الذي تبنى تنظيم «داعش» الإرهابي مسؤوليته، رفض في البداية المشاركة في أي برنامج لإعادة التأهيل، لكنه فعل ذلك في نهاية المطاف مرغماً أثناء وجوده في سجن شديد الحراسة.
وذكرت الصحيفة أن واحداً من كل 10 إرهابيين أطلقوا من معتقل «غوانتانامو»، وسُلموا إلى حكومات بلادهم عادوا وانضموا إلى نشاطات إرهابية. ونقلت عن الناطق باسم «البنتاغون» جيف موريل، أن 62 معتقلاً سابقاً تورطوا مجدداً بأعمال إرهابية، ويُشكل هذا الرقم نحو 11% من مجموع الذين أُطلقوا من السجن الشهير على مدى السنوات الثماني الماضية.
«التايمز»: واحداً من كل 10 إرهابيين أطلقوا من معتقل «غوانتانامو»، وسُلموا إلى حكومات بلادهم عادوا وانضموا إلى نشاطات إرهابية
ويرى ماثيو ليفيت، الأكاديمي الأمريكي المتخصص في شؤون الإرهاب، أنه «لا يمكن إعادة دمج كل مقاتل أجنبي عائد أو عنصر منشق عن تنظيم إرهابي في المجتمع، ولكن هذا الأمر ممكن مع البعض. وحتى في صفوف أولئك الذين يمكن محاكمتهم وإدانتهم، سيتم في النهاية إطلاق سراح الغالبية الكبرى منهم. لذلك فإن التحدث عن كيفية إعادة تأهيلهم داخل السجون أمر بالغ الصعوبة، خاصة أن السجون لا تزال تشكل جامعات للإرهاب».
ويضيف «ليفيت» أن «الدرس الرئيس الذي يمكن استخلاصه هو أنه يجب إرساء نوع من الرابط بين برامج إعادة تأهيل العائدين من الإرهاب، وإعادة الدمج وبين خدمات إنفاذ القانون والاستخبارات، من أجل تقليص الخطر الناشئ عن محاولة إعادة دمج أشخاصٍ متعنتين ومصممين على إلحاق الأذى. ويشكل مثل هذا التقييم للمخاطر أمراً ضرورياً، ليس في مرحلة استقبال الأشخاص فحسب بل في المراحل اللاحقة أيضاً، وذلك من أجل أن يؤخذ في الاعتبار إمكانية عودة الشخص ذات الصلة إلى درب التطرف أو قد يصبح أكثر تطرفاً».