“جائع.. ولا طعام في الثلاجة”.. خمسة كلمات فقط اكتفى طفل إيطالي بتوجيهها للشرطة المحلية في إقليم لومبادريا، الحاضن الأساسي لإصابات كورونا، ويظهر نقصًا غير معتاد في السلع الغذائية بالدول الغربية، وتذوقًا مستجدًا لطعم الجوع الذي ظل ملازمًا للمجتمعات الإفريقية الفقيرة.

sss

لا يمثل كورونا مجرد وباء يهدد صحة مليارات البشر ويتصيد الفرصة المواتية لاختراق أجسادهم، لكنه مرض اقتصادي يستهدف الأنشطة الإنتاجية والمواد الغذائية بالمقام الأول، سواء في حصادها أو زيادة الفاقد منها أو حتى تبادلها.

عادت المدن المُسوّرة  التي سادت العصور الرومانية للحياة مجددًا لكن دون جدران ضخمة تتحكم في الدخول والخروج، يعيش نصف سكان العالم حاليًا محجوزون في منازلهم دون مزولة أنشطة اقتصادية أو إنتاجية، وفقدوا حتى حق تحريك أقدامهم في شوارع طالما مشوا فيها في أي وقت وبأي طريقة.

تتكرر رسالة الطفل الإيطالي في كثير من دول العالم حاليًا، لا تختلف في مضمونها عن مقطع فيديو لكهل أردني يعول خمس بنات ويعمل بائعًا جائلاً للترمس عالقًا في شقته بسبب حظر التجوال ولا يجد خبزًا جافًا لإطعامهن ويطالبه صاحب البيت بالإيجار المتأخر منذ شهرين.

مصائب كورونا لا تأتي فرادي.. وموجات جفاف وغزو للجراد تزيد مخاوف المجاعة.. تتواتر تلك العبارات على ألسنة رؤساء المنظمات التابعة للأمم المتحدة بقسوة شديدة واتفاق فريد بينها في المخاوف التي تدور في طريق أزمة غذاء عالمية، ليجتمع رؤساء منظمة “الفاو” الصيني جو دونجيو، و”الصحة” الإثيوبي تيدروس جبريسوس، و”التجارة العالمية” البرازيلي روبارتو أزافيدو، على أن حدوث مجاعة ناجمة عن تفشي “كورونا” غير مستبعد.

ضرب الفيروس جهود علماء اقتصاد استمرت على مدار قرون في تطوير نظريات حول حركة التجارة العالمية، وأسقط معه أطروحات راسخة حول “قروية” الكون وحرية التبادل التجاري، وأعاد مخاوف سادت القرون الوسطى من اقتران الأوبئة بالمجاعات، في زواج كاثوليكي لا يمكن الفكاك منه إلا نادرًا، ليصبح: ما يحتاجه شعبك مُحرّم على الآخرين.. شعار جديد لمنتجي عصر “كورونا”.

أحدث الفيروس اضطرابات على مستوى خطوط التموين الدولي، مع غلق الدول حدودها وتوقف حركة الطيران ومنع تحرك العمال والمزارعين من التجوال وفرض قيودًا على دخول السلع الأسواق لدواعي التعقيم، ما دمر العديد من حاويات المواد الغذائية بعد تركها بالموانئ لأيام خوفًا من نقلها الوباء أو عجز أجهزة الجمارك على فحصها أو معرفة كيفية تعقيمها.

تتلاحق تقارير المنظمات الاقتصادية والإنسانية باستمرار لتثير أجواء من الكآبة، وآخرها تقرير بمنظمة “أوكسفام” (اتحاد دولي لـلمنظمات الخيرية التي تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم)، يقول إن 6 و8% من سكّان العالم قد ينضمون للفئات التي تعيش تحت خط الفقر، بعدما أوقفت الحكومات حركة الإنتاج من أجل احتواء تفشي الفيروس.

تقول المنظمة، التي تنشط في أفقر الدول الإفريقية، إنّ نحو 3.9 مليار إنسان مهدّدون بالهبوط تحت خط الفقر (دخل 1.90 دولار يوميًا) عند انتهاء وباء كورونا، التي يمكن أن تعيد مكافحة الفقر على مستوى العالم عشر سنوات إلى الوراء في بعض المناطق ونحو ثلاثين سنة بمناطق جنوب الصحراء والشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

يتخوف الجميع حاليًا من سيكولوجيا الوباء التي تعتبر أخطر من الوباء ذاته، وتسقط معها العقلانية التي تغلف سلوك البشر، وتدفعهم إلى عشوائية السلوك كتكديس البضائع في منازلهم ما يهدد فرصة الغير في الحصول عليها وربما الاقتتال علي دخول المحال التجارية كما حدث في تركيا قبل ساعات، وتسرب الأمر إلى الحكومات ذاتها التي رفعت مبدأ اقتصادي مستجد “إنتاجنا لنا فقط”.

تخلت الدول عن سياسة الاعتماد على الغير في توفير الغذاء، وأصبح العالم يعيد التفكير في سياسات الاكتفاء الذاتي والعودة إلى “المربع صفر” بسبب كورونا، مع منح جهود استصلاح الأراضي الزراعية والاستثمار لدي الغير الأولوية في الإنفاق المالي، بما يعيد مكانة الزراعة المصنفة في كتب الاقتصاد حاليًا ضمن الأنشطة الاقتصادية البدائية التالية للرعي، خاصة في الدول العربية التي تصل الفجوات الغذائية لديها لمستويات مفزعة، كالكويت وقطر التي تستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية من الخارج.

يفكر العالم المشغول حاليا في كورونا فيما هو قادم، فمجرد فيروس صغير عطل اقتصاديات كاملة وأجبر الحياة على التوقف، والتزام البشر منازلهم، فماذا إذا لم تعد هناك بيوت من الأساس؟، بدأ الجميع في التفكير في التغيرات المناخية وذوبات الجليد وتأثيراتها، وربما يجعل الوباء قضية تغير الطقس محور تحركات المستقبل لدولة كمصر بعدما ظهر تأثيراته مبكرًا على ارتفاع نسبة الملوحة بتربتها، وتدمير الكثير من المحاصيل الإستراتيجية بسبب ارتفاع وهيوط الحرارة المفاجئ ليصبح “كورونا” بالونة اختبار لأزمات المستقبل.. هل استعدت مصر للتغيرات المناخية؟..

ربما يكون الفلاح المصري المستفيد الوحيد من كورونا بعد زوال غمتها، بعدما عرف الجميع  فضل جلبابه الأبيض الذي تحول إلى البني الفاتح تحت وقع العرق وغبار الأتربة القافزة من الأرض، وظل على مدار سنوات صامتا يتابع دون أن يتدخل أحد لينقذه، فمنذ التعويم ارتفعت تكاليف الحرث والري والحصاد والأسمدة والمبيدات والأعلاف، وظل دخل المزارع ثابتًا كما هو، فهل تصدق التوقعات.. فهل يرفع كورونا الضنك عن الفلاح المصري ؟