تسعى جميع دول العالم التي تنشط فيها جماعات إرهابية، إلى القضاء المبرم على التطرف العنيف من منابعه، أو ما عُرف في الأدبيات السياسية خلال الأعوام الأخيرة باسم «تجفيف منابع الإرهاب»، وذلك من خلال ضمان إسهام مؤسسات التعليم الوطنية في خلق البيئة المناهضة للتطرف، عبر غرس وبناء الوعي الكافي لدى المتعلمين كافة، ما يمكنهم من مواجهة والتصدي للأفكار والآراء والمعتقدات المتطرفة بأنفسهم، ومن ثم محاربة التطرف «في مهده».

 

تساعد منظمة «اليونيسكو» الدولية صانعي السياسات المتعلقة بالتعليم، في تخطيط وتنفيذ أنشطة تعليمية فعالة وملائمة، الأمر الذي يسهم في الجهود الخاصة بمنع التطرف العنيف، وذلك في بيئات التعليم النظامي وغير النظامي على السواء، وعلى شتى المستويات (الثانوي، والتدريب التقني والمهني، والتعليم العالي). كما يشمل هذا العمل الذب تتولاه المنظمة دعم المعلمين في إدارة المناقشات التي تجري في قاعات الدرس، فيما يخص منع التطرف العنيف والتشدد وتهيئة مناخ عام فيها يكون شاملاً للجميع ويفضي إلى الحوار المحترم والنقاش المفتوح والتفكير النقدي.

إلى ذلك، أصدرت المنظمة الدولية تقريرا بعنوان «منع التطرف العنيف من خلال التعليم: دليل لصانعي السياسات»، قدمت فيه المنظمة توجيهات فنية إلى صانعي السياسات، والمعلّمين، ومختلف الجهات المعنية بالتعليم حول العالم، بشأن كيفية مواجهة التحديات الملموسة التي يطرحُها التطرّف العنيف ضمن كلّ مجتمع، تهدف إلى مساعدة صناع السياسات في وزارات التربية والتعليم، على تحديد أولويات الإجراءات الوقائية الفعّالة، والتخطيط لها، وتنفيذها، وتوفير الأدوات اللازمة لتطوير أنظمة تعليمية من شأنها أن تسهمَ في خلق مجتمعات سلمية، خالية من الإرهاب.

 

قدم دليل «اليونيسكو» الصادر استجابةً لقرار المجلس التنفيذي للمنظمة في خلال دورته المئة والسابعة والتسعين، عام 2015، والذي أقرّت الدول الأعضاء من خلاله بأهمية منع التطرّف العنيف من خلال التعليم، «مقترحات عملية» بشأن كيفية التعاون مع الشباب، سواء داخل المدرسة أو خارجها، في إطار الجهود الرامية إلى منع التطرّف العنيف. وتشمل الفئات المستهدفة الجهات الفاعلة والجهات المعنية العاملة في مجال التعليم ومنهم صانعو السياسات، والمخطّطون، ومطوّرو المناهج، ومدرّبو المعلّمين، ومديرو المدارس، والمعلّمون، والمستشارون، ومجالس إدارة المدارس، إضافة إلى المربّين العاملين في الرابطات الشبابية، والمراكز المجتمعية، والنوادي الرياضية، والمنظّمات غير الحكومية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني العاملة مع الشباب، والجهات المعنية العاملة في الوكالات.

قدمت المنظمة الدولية في تقريرها توجيهات فنية لتوفير الأدوات اللازمة لتطوير أنظمة تعليمية من شأنها أن تسهمَ في خلق مجتمعات سلمية، خالية من الإرهاب

وأكد الدليل أنه «لابد من النظر في الجهود الرامية إلى منع التطرف العنيف، ضمن إطار أعمّ وأشمل من مجرد المواجهات الأمنية والعسكرية، فلا شك في أن الاستجابات الأمنية مهمّة، إلا أنها غير كافية، ولن تعالج الظروف العديدة الكامنة التي تولّد التطرّف العنيف وتدفعُ الشباب إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرّفة العنيفة. إنّنا نحتاجُ إلى قوّة إقناع، كالتعليم. ونحتاجُ بصورٍة خاصّة إلى تعليمٍ جيّد مُجدٍ ودامج ومنصف، ومعالجة الظروف الكامنة التي تدفع الأفراد إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرفة».

وبحسب دليل «اليونيسكو»، فإنه «يمكن للسياسات التعليمية الوطنية أن تضمن إلى حد بعيد، عدم تحوّل أماكن التعلّم إلى أرض خصبة للتطرّف العنيف. كما يمكن لهذه السياسات أيضا أن تضمن مساهمة المحتويات التعليمية ومقاربات التعليم، في تطوير مناعة المتعلمين حيال التطرف العنيف».

تشمل تلك المعالجة، وفق التقرير، دعم «التعليم، وتطوير المهارات، وتيسير التوظيف» وضرورة دعم الاحترام للتنوّع البشري وتحضير الشباب للدخول إلى سوق العمل، والحاجة إلى الاستثمار في البرامج التي تروّج للمواطنة العالمية وتوفّر تعليماً شامـلاً من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى التعليم العالي، بما في ذلك التعليم التقني والمهني، فهذا هو الشرط اللازم للعمل الفعّال، ويقتضي ذلك من البلدان أن تنفّذ في الوقت نفسه استجاباتٍ قصيرة الأجل، ومتوسّطة الأجل، وطويلة الأجل.

العنف بدوافع أيديولوجية

تضمن القسم الأول من دليل المنظمة الدولية الأسس التي يستند إليها من قوانين وقرارات دولية، والهدف من هذا الدليل، والفئات المستهدفة من ذلك، وإطار العمل، بما يمثل الإطار المرجعي والمفاهيمي الذي تبناه الدليل، وهو المرجعيات الدولية الممثلة أهداف التنمية المستدامة وفقاً للخطة العالمية للتعليم.

 

فيما تناول القسم من الدليل مصطلحات مثل «التطرف»، و«التطرف العنيف»، و«الإرهاب»، و«الراديكالية» و«المناعة». وخلص هذا القسم إلى أنه «على الرغم من عدم وجود تعريف متّفق عليه دولياً للتطرّف العنيف، إلا أنه يمكن التعامل مع أكثر هذه المفاهيم شيوعاً وانتشاراً للمصطلح الذي يشير إلى معتقدات وأفعال الأشخاص الذين يدعمون أو يستخدمون العنف لتحقيق غايات أيديولوجية، أو دينية، أو سياسية، ويشمل ذلك الإرهاب وغيره من أشكال العنف الطائفي المرتبط بدوافع سياسية. والأساسُ المفاهيمي للتطرّف العنيف هو أنّه لجوءٌ إلى استخدام العنف بدوافع أيديولوجية».

ويقول د. خالد صلاح حنفي، أستاذ مساعد أصول التربية، كلية التربية – جامعة الإسكندرية، إن «من أبرز مزايا الدليل ما تضمنه من عرض وتحليل لبعض المبادرات والخبرات المحلية والعالمية في مجال استخدام التعليم في مواجهة الفكر المتطرف، ومنها على سبيل المثال مشروع «سفراء محادثات المقاهي» في تونس الذي يقوده الشباب، والذي يهدف إلى التأسيس لحوار مفتوح بين الشباب والشابات من جميع المستويات والفئات العمرية والاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق فرص التحاور وتبادل الآراء ووجهات النظر، وذلك من خلال تجميع الشابات والشبان معاً في المقاهي للمشاركة في مناقشات مفتوحة حول موضوعات تهمّهم. وقد ركّزت إحدى المحادثات على الفنّ كسلاحٍ ضدّ التطرّف العنيف. فأحدُ الدوافع الرئيسية للتطرّف هو عدم وجود فرصة للمشاركة في النشاطات الثقافية التي تعزّز وتعكس التاريخ الغني للوطن وحضارته. وهذه المحادثات أساسية في زيادة الوعي وتكوين حسّ الناس بالانتماء إلى جماعةٍ محلّية وإلى المجتمع التونسي».

د. خالد صلاح حنفي: من أبرز مزايا الدليل ما تضمنه من عرض وتحليل لبعض المبادرات والخبرات المحلية والعالمية في مجال استخدام التعليم في مواجهة الفكر المتطرف

ويضيف: «وهذه التجربة كفكرة في غاية الأهمية ونفتقدها في مجتمعاتنا العربية، التي تفتقد الحوار المفتوح بين طبقات المجتمع، وتبنِّي تقبل الرأي والرأي الآخر على أساس من الاحترام، والتعايش ووضع مصلحة المجتمع كغاية من تلك الحوارات».

من أبرز مزايا الدليل أنه يراعي اختلاف السياقات الثقافية واختلاف المجتمعات، وحاول التعامل مع المفاهيم من منظور عالمي يراعي التنوع والاختلاف، ويحاول العمل من خلال العناصر المتشابهة، كما أنه قدم توصيات وإجراءات واقعية وقابلة للتطبيق على أرض الواقع، ويمكن للمجتمعات العربية أن تتبنى تطبيق آليات مماثلة كفكرة الشرطة المجتمعية وإمكان مشاركة المواطنين أنفسهم في تطبيق القانون ومعاونة الجهات المنفذة للقانون والحامية له، واستخدام مقاهي الحوار لنشر فكرة الحوار بين فئات الشباب على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم وتوجهاتهم، ونشر ثقافة التعايش وتقبُّل واحترام الآخر، وهنا يجب التفكير في تبنّي الضوابط والمقوّمات المناسبة التي تراعي سياق وخصوصية مجتمعاتنا العربية.

رغم ذلك، يخلص الدليل – في الختام- إلى أنه «لا يمكن للتعليم بمفرده أن يمنع فردا من ارتكاب فعل عنيف باسم أيديولوجيا متطرفة، غير أن توفير تعليم بنوعية جيدة، قد يساعدُ على خلق الظروف التي تصعّبُ تكاثر الأيديولوجيات والأفعال المتطرفة العنيفة».

ــــــــــــــــــــــــــ

المصادر