جنوب السودان ،” الدولة الأصغر” عمرا في العالم كله ، أصيبت بشيخوخة مبكرة، وهي في ريعان شبابها ، كسرت ظهرها و أصاب شرايين الحياة بجلطة قاتلة ، بينما تعاني أطرافها من شلل شبه تام إنعكس في المرافق العامة والخدمات والبنية الأساسية ، جراء سنوات مريرة من الحرب الدامية والصراعات التي استهلكتها طوال السنوات التسع العجاف الماضية هي كل عمرها .
تعاني جنوب السودان أوضاعا معيشية “متردية ” وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان و تشرد مئات الآلاف من المواطنين ونزوحهم داخليا إضافة إلي طلبات اللجوء لدور مجاورة ، جراء انهيار البنية الأساسية و تدني المستوى الاقتصادي ، في وقت يتكبد أكثر من نصف سكان البلاد انعدام الأمن الغذائي.
ومن المقرر أن يتلقى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في في 9 مارس الجاري تقريراعن أوضاع حقوق الإنسان في جنوب السودان ، والذي كشف خلاله محققون عينهم المجلس عن انتهاكات “رهيبة ” تتمثل في “تجويع متعمد ” في عدة مناطق بالبلاد ، ويقوم على أسباب عرقية وسياسية ، حيث رصد التقرير استخدام العنف الجنسي ضد النساء والرجال كسلاح في الحرب.
ذكرت الأمم المتحدة في تقريرها أن ما يزيد على 55 % من الشعب يواجه “انعدام للأمن الغذائي ” بشكل حاد ، مرجعا السبب إلى قيام الفصائل المتناحرة بتطبيق سياسة عمدية ترمي إلى منع وصول المعونة الإنسانية للمدنيين .
ونبهت مؤسسة “كارنيجي ” للسلام الدولي إلى أن جنوب السودان يواجه أزمة إنسانية شديدة ، فالصراع أودى بحياة ما يقرب من 400 ألف شخص و نزوح أكثر من 4 ملايين من منازلهم ، كما تفاقمت الأوضاع الإنسانية بسبب الاستراتيجيات العسكرية لدى الطرفين مما أدى إلى حرمان السكان من الغذاء .
خطوةجديدة في مسار مزعزع بدأت بتنصيب زعيم المعارضة رياك مشار في حكومة الوحدة جنبا إلى جنب مع منافسه “اللدود” الرئيس سيلفا كير
وتقع جنوب السودان ، وهي دولة غير ساحلية في شمال شرق أفريقيا ، وحصلت على استقلالها من السودان في عام 2011. عاصمتها الحالية جوبا ، والتي تعد أكبر مدنها ، بينما كان مخططا أن يتم تغيير العاصمة إلى رامشيل التي تقع في مكان أكثر مركزية وذلك قبل اندلاع الحرب الأهلية.
ويحدها السودان في الشمال وإثيوبيا من الشرق، وكينيا من الجنوب الشرقي، وأوغندا جنوبا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى الجنوب الغربي، وجمهورية أفريقيا الوسطى غربا . ويشمل منطقة مستنقعات شاسعة من السد، التي شكلها النيل الأبيض والمعروف محليا باسم بحر الجبل.
خطوة في مسار مضطرب
وجنوب السودان، الدولة الأحدث استقلالا في العالم، غرقت في توترات غير مسبوقة وصراعات دموية على السلطة ، خلفت أوضاعا إنسانية “مرعبة ” ، ولكن هناك بارقة أمل ظهرت في نهاية النفق المظلم بدخان كثيف تصاعد بضرواة من نيران الحرب الشرسة هناك ، وذلك مع إعلان حكومة الوحدة بين الأطراف المتناحرة ، بعد عديد من العراقيل التي حالت دون الاستقرار وإحلال السلام .
وهناك آمال كبيرة في أن تضع حكومة الوحدة الجديدة حدا للنزاع الذي أودى بحياة ما لايقل عن 400 ألف شخص ، وأدى إلى نزوح وتشريد ملايين آخرين.
ويقدم تشكيل الحكومة الجديدة بجنوب السودان أفضل فرصة لإقامة السلام ، والتي لم تتح لها قبل سنوات ، ولكن على هذه الحكومة أن تناهض الفساد المتفشي و الأزمة الإنسانية الشديدة .
وسلك جنوب السودان خطوات جديدة في مساره المزعزع نحو السلام بتنصيب زعيم المعارضة رياك مشار الذي يقوم بمهام منصبه في حكومة الوحدة جنبا إلى جنب مع منافسه “اللدود” الرئيس سيلفا كير ، وثلاثة من نواب الرئيس أقل رتبة .
وقالت مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في تقرير لها إن مشار أدى قسم توليه المنصب كنائب رئيس للمرة الثالثة منذ استقلال جنوب السودان ، بمقتضى اتفاق السلام الجاري ، والمرة الثانية منذ اندلاع الحرب الأهلية في 2013 ، بينما يأمل كثيرون في استمرار الاتفاق الأخير بين كير ومشار .
تدشين الحكومة الجديدة يعتبر علامة على إحراز تقدم ملموس جدا صوب السلام ، والذي صار ممكنا ، بعد تقديم تنازلات كبرى من الطرفين ، والذي تبلور قبل الموعد النهائي الحرج والذي جرى تمديده مائة يوم .
والأهم من ذلك أن كير وافق على إعادة هيكلة العشر ولايات الأصلية بالبلاد ، وليس لـ32 ولاية والتي كان ينظر إلي أنها تفيد جماعة الدنكا العرقية التي ينتمي إليها و سيطرتهم على الأرض وغيرها من الموارد الطبيعية .
وفي الوقت نفسه ، وافق مشار على العودة إلى جنوب السودان دون القوة الأمنية الخاصة به ، ليواجه بذلك مخاوف تكرار العنف الذي حول مسار اتفاق السلام الأخير و أجبر مشار على الفرار من البلاد .
بارقة أمل وسط ظلام الحرب
ورغم أن هذه أسباب تدعو إلى الأمل ، إلا أن كثيرا من التحديات لا تزال تعترض السلام ، ويأتي الفساد المنتشر من بينها ، حسبما ذكرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان .
ويواجه مسؤولو الحكومة اتهامات بالتربح في الصراع طويل الأمد ، وذلك بتحويل ملايين الدولارات من الأموال الحكومية ، من خلال التهرب الضريبي والرشوة وغسل الأموال و غيرها من الجرائم .
وقالت مؤسسة “كارنيجي ” إن مواجهة هذه التحديات يستلزم تعهدا مستمرا للوفاء ببنود اتفاق السلام و الاستثمار بشكل “مركز” في تحسين أوضاع الشعب المعيشية ، مشددة على ضرورة استئصال سلوك السرقة ، والذي كلف الحكومة أموالا كانت في أمس الحاجة إليها إلى جانب فقدها ثقة الشعب ، مضيفة أن جنوب السودان يستطيع من خلال هذه الفرصة أن يضع إطار عمل من أجل الإصلاح والمحاسبة و السلام.
واعتبرت “كارنيجي” توحيد القوات العسكرية المعارضة في جيش وطني واحد ، من أهم المهام العاجلة ،حيث فشلت الحكومة السابقة في تمويل ذلك الجهد بشكل كامل .
وعلى الرغم من أنه تم إحراز بعض التقدم ، إلا أن معظم مواقع الثكنات العكسرية مازلت تفتقر إلى الطعام والشراب الكافي أو الإمدادات الطبية كما أن الجنود ليس لديهم المعدات الأساسية .
وتسعى جوبا لتشكيل حكومة وحدة وطنية تقضي على الحرب الأهلية والنزاع المسلح ، في حين اعتبر مستشار رئيس جنوب السودان للشؤون الأمنية، توت قلواك، أن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وصل إلى محطته الأخيرة.
“كارنيجي ” : يجب تنفيذ بنود اتفاق السلام والاستثمار في تحسين أوضاع الشعب المعيشية .
وقال قلواك، في تصريحات صحفية من القصر الرئاسي بجوبا، إن اللقاء الذي عقده الرئيس سيلفا كير والفريق أول النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان محمد حمدان دقلو حميدتي، يهدف لاستكمال الجهود في ملف السلام، باعتباره السودان الوسيط والضامن للاتفاق بالجنوب.
وفيما يتعلق بالخلافات حول الحقائب الوزارية ، حيث انتقلت حقيبة المالية لسلفاكير، مقابل وزارة النفط إلى مشار ، حسب مصادر أكدت أن ودخل “حميدتي دخل في اجتماع مغلق استمر ساعات مع سلفاكير وانضم إليهم مشار وتم حسم الخلاف حول الحقائب الوزارية”
كما أقنع “حميدتي” سلفاكير بالتنازل عن النفط مقابل المالية كما اتفقا على أن تؤول حقيبة الدفاع للحكومة والداخلية للمعارضة”.
يذكر أن ريك مشار، أدى اليمين الدستورية نائباً أولاً لرئيس جمهورية جنوب السودان ، بينما أدى ثلاثة نواب آخرين كنواب لرئيس جنوب السودان، هم جيمس واني إيقا، تعبان دينق قاي وأرملة الدكتور جون قرنق، ربيكا نياندينق دمبيور إلى جانب حسين عبد الباقي .
ووفقًا القرارات، تم اعتماد تعيين توت قلواك مستشارًا للأمن القومي، ومييك دينق أيي وزيرًا بمكتب سلفاكير وهما الشخصان اللذان احتفظا بمنصبيهما بعد الاتفاق الأخير.
انتهاكات “رهيبة ” وتجويع متعمد
“جنوب السودان واحدة من بين الدول التي ترتكب انتهاكات خطيرة في مجال حقوق الإنسان ” وهو الاتهام الذي وجهه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ، والذي رفضه مدير عام شؤون العلاقات متعددة الأطراف في حكومة جنوب السودان، صامويل ليومنسوك، مؤكدا أن الجهود التي تبذلها بلاده من أجل تحسين سجل حقوق الإنسان.
وأوضح ليومنسوك أن الحكومة تود أن تؤكد “أننا نمتلك مجموعة من التقاليد والأعراف ذات الجذور العميقة والتي تلزمنا بالاحترام المتبادل لكل جوانب الحياة” ، متوعدا أي شخص يرتكب جريمة أو يمس كرامة المرأة في جنوب السودان يواجه بعقوبات قاسية.
ومن المقرر أن يتلقى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في 9 مارس الجاري تقريراعن أوضاع حقوق في البلاد ، والذي كشف خلاله محققون عينهم المجلس عن انتهاكات “رهيبة ” تتمثل في “تجويع متعمد ” في عدة مناطق ، ويقوم على أسباب عرقية وسياسية .
تهجير واعتداءات جنسية
كما أشار التقرير إلى تهجير المجتمعات بالقوة من أراضيهم الأصلية ، مؤكدا في الوقت نفسه أن هناك مأساة تتمثل في تشريد أكثر من 1.4 مليون مدني.
وقال إن هؤلاء المدنيين يقيمون في مخيمات غير صالحة لتلبية حاجاتهم الأساسية، ويعيشون على المساعدات الإنسانية المتناقصة ، كما وصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء من جنوب السودان إلى نحو 2.2 مليون شخص.
كذلك يصف المحققون كيف يُسمح للجنود وأعضاء الميليشيات بمكافأة أنفسهم وذلك بتهجير المجتمعات بالقوة من أراضيهم الأصلية، فلا يجد الناس في هذه المجتمعات خيارا سوى الانضمام إلى أي من الفصائل العديدة المشاركة في النزاع.
ورصد التقرير استخدام العنف الجنسي ضد النساء والرجال كسلاح في الحرب ، محذرا من العنف الجنسي المرتبط بالصراع ، قائلا إنه ما زال “واسع الانتشار ومتفش” ، و أن هذه الممارسة تتبع “نمطا معروفا من الإرهاب والقهر يستخدم كتكتيك للحرب” بحيث تصبح البيئة “غير آمنة ومميتة”.
بينما أكد التقرير أن آليات للعدالة والمساءلة عن الانتهاكات الجنسية ما زالت ضعيفة، لذا يظل إنكار الجناة لانتهاكاتهم، والوصم الذي يلحق بالضحايا، من التحديات الرئيسية التي تواجه تحقيق العدالة أو المساءلة في جنوب السودان.
انعدام حاد للأمن الغذائي
أكدت كل من منظمة الأغذية والزراعة ، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف ” ، وبرنامج الأغذية العالمي قد أكدت أن هناك 6.5 ملايين شخص في جنوب السودان سيعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد في ذروة موسم الجوع بين مايو ويوليو ، ووصفت الوضع بأنه مقلق بشكل خاص في المناطق الأكثر تضرراً من فيضانات عام 2019، حيث تدهور الأمن الغذائي بشكل كبير منذ يونيو الماضي.
الصراع أودى بحياة نحو 400 ألف شخص و نزوح أكثر من 4 ملايين وتدهولات الأوضاع الإنسانية بسبب الاستراتيجيات العسكرية لدى الطرفين
وأشارت تقديرات مبادرة التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي متعدد الشركاء ، إلى أن 5.29 مليون شخص (45.2 ٪ من السكان) في فترة الدراسة في يناير 2020 قد واجهوا أزمة (المرحلة 3) أو ما هو أسوأ من مراحل انعدام الأمن الغذائي الحاد، منهم 1.11 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في حالات الطوارئ (المرحلة 4).
وتم تصنيف حوالي 40 ألف شخص في (المرحلة 5) من انعدام الأمن الغذائي في مقاطعات ثلاث في ولاية جونقلي.
ومقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، تعكس مستويات انعدام الأمن الغذائي في يناير 2020 انخفاضًا بنسبة 4% في نسبة السكان الذين يواجهون الأزمات.
وأكد التصنيف إن هناك حاجة إلى زيادة فورية في المساعدات الغذائية الإنسانية لإنقاذ الأرواح وتجنب الانهيار التام لسبل المعيشة في الولايات المتضررة، ولا سيما تلك التي تضم السكان في المراحل 4 و5 “حالة الطوارئ” من انعدام الأمن الغذائي.
وقالت منظمة الهجرة الدولية، إن جنوب السودان يحتاج إلى حوالي 119 مليون دولار، لتلبية الاحتياجات الإنسانية للنازحين والعائدين، حيث تقدر وكالات الإغاثة بأن حوالي 7.5 مليون شخص في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية.
انتهاكات حقوق المدنيين تشمل التجويع المتعمد والتهجير والاعتداءات الجنسية وتجنيد الأطفال
ولا يزال هناك نحو 1.5 مليون شخص من النازحين، بينما يوجد 2.2 مليون في البلدان المجاورة نتيجة الحرب الأهلية ، كما تعرضت البلاد إلى غزو الجراد الصحراوي الذي يهدد الأمن الغذائي للملايين.
كما دعا رئيس بعثة المنظمة في جنوب السودان جان قليب تشوزي، مجتمع المانحين إلى مواصلة تقديم الدعم للشعب هناك ، حيث يعيد بناء الحياة نحو سلام دائم، مضيفا أن خطة المنظمة لهذا العام تتمثل في دعم التماسك الاجتماعي في البلاد والتأثير بشكل إيجابي على جهود حكومة الوحدة الوطنية، لزيادة معرفتها التقنية وتعزيز القدرات المؤسسية على الهجرة وإدارة الحدود.
ويظل الملف الانتهاكات مفتوحا إلى أجل غير مسمى ، ليشكل أحد أسوأ سجلات حقوق الإنسان في العالم وسط آمال كبيرة من نشطاء حقوق الإنسان والمنظمات الإغاثية وشعب جنوب السودان ، في أن تؤدي إعادة هيكلة النظام الحاكم في الحد من الانتهاكات الحقوقية وانهيار الأوضاع المعيشية .