إشارة بالتليفون لعمدة كفر في قرية مصرية في أربعينيات القرن الماضى تعلن، ” نظرا لانتشار حمى الملاريا، أيوة يعني الرعاش ياجهلة، يتنبه على جميع الأهالي التوجه للمركز للتطعيم”، ثم يعقبه صوت أحد شيوخ القرية المتواجد مع العمدة :” البركة في العطارة والشافي هو الله “.
sss
المشهد السابق هو جزء من فيلم “الزوجة الثانية”، الذي أخرجه صلاح أبو سيف، ويعد مروراً وحيداً عابراً على مرض “الملاريا”، في السينما المصرية.
وأعاد انتشار وتفشي فيروس كورونا في دول كثيرة من العالم، وتسجيل حالات إصابة ووفاة داخل مصر الحديث مجددا عن كيفية تناول السينما المصرية للأزمات والخيال العلمى.
وانتشر مقطع فيديو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كجزء من مسلسل أجنبي تحت عنوان” my secret terrius” ، جرى انتاجه في عام 2018 يتنبأ بفيروس كورونا وما سيخلفه من ضحايا بصورة بدت قريبة من الواقع الذي يحدث الان.
وأصاب فيروس “كورونا”، الذي ظهر في الصين منتصف نوفمبر الماضي، نحو 316 ألفا 221 شخصا حول العالم على الأقل، توفى منهم 13ألف و599 شخصا، وتماثل للشفاء 95ألفا و922 حالة.
وتلك المشاهد البسيطة في السينما المصرية، التى توالت في فيلم “الزوجة الثانية”، وظهر سلكًا شائكًا ثم خيم من القماش بداخلها مصابين، ثم يمد بعض المصابون أذرعتهم لأخذ جرعات من العلاج عن طريق الحقن، وينادي بعدها أحد الأطباء فى الريف فى جمع من الناس ” ياناس البلد مهددة بوباء خطير إذا أسرعنا بمعرفته هاننقذ ألاف الأرواح”، ويأتي مشهد آخر” دى الكوليرا أنا عارف أعراضها تفضل مرمي لوحدك وترجع بعد 6 أيام “.
بهذه الطريقة البسيطة والمعبرة قدمت السينما المصرية عددا من الأفلام التي تناولت واقع عاشه المصريون من قبل، لكنها نأت بنفسها عن أفلام الخيال العلمي واحتمالات ظهور أوبئة ووضع سيناريو للتعامل معها، على غرار الأفلام فى السينما العالمية، والتي تنبأت بأحداث حالية.
عدد بسيط من الأفلام المصرية لا يتجاوز الخمس أفلام تناول الأوبئة التي مرت مرورا كبيرا على الحياة المصرية كما مرت مرور الكرام على الشاشة، وجاء تناولها مغلفا بالصبغة الاجتماعية لأبطال الوباء، سواء عن تعايشهم الأساسي وعلى هامشه، الوباء يأخذ دورا ثانويا في تلك الأعمال ويقتصر على ” الكوليرا والملاريا “
ضربت “الكوليرا”، مصر ثلاث مرات على مراحل مختلفة كانت الأولى في 1883 وأطلق البعض عليها الشوطة – نسبة الى الأعداد الكبيرة التي كان يشوطها المرض- وأما المرة الثانية في 1902 في التل الكبير بالشرقية، و في 1947 وانعزلت وقتها مصر عن العالم لارتفاع عدد الإصابات، ووصل عدد الوفيات الى أكثر من 10 آلاف شخص، فى حين غاب الطاعون الذى مر أيضا مرورا لا يمكن تجاهله بمصر، ولقي 200 ألف مصري لقى حتفهم عن طريق القوافل التي ربطت بين مصر وبلبيس في الشرقية، وقيل في بعض الكتب التاريخية أن الطاعون حصد أعداد كانت تتناثر على أرصفة الطرقات بمصر، وكان يخرج عددا مهولا يوميا من الجثث في القاهرة، كما عاد في عهد محمد على باشا بالإسكندرية وظهر مرة أخري في دمياط في1831 عن طريق سفينة آتية من بيروت، ومرة أخيرة في بور سعيد عام 1905.
التناول الإنساني للوباء كان على قمة تلك الأعمال، ولكن لم يتطرق إلى هويه المرض نفسه أو تاريخ ظهوره، أو أسبابه، أوعلاجه، اكتفى بالبشر المعايشيين للحدث.
نقاد: لا نجيد سينما الأزمة والواقع أهم من الخيال لدى صناع الفيلم
وفيلم اليوم السادس، كان أكثر الأفلام التي جعلت أحد الأمراض الصعبة التي مرت على حياة المصريين بطلا يحرك الأحداث، ويتداعي على ألسنة الأبطال بكل المعتقدات تجاهه، وكان بطولة داليدا وحمدى أحمد ومحسن محى الدين ويروي قصة ” صديقة” التي تسببت الكوليرا في وفاة كثير من أفراد أسرتها، وتحاول إنقاذ حفيدها الذى تمني رؤية البحر فتهرب به بمساعدة أحد جيرانها الذى يحبها رغم فارق السن بينهما ويمثل لها الحماس والحياة والأمل.
فيلم ” صراع الأبطال” هو الأخر تناول “الكوليرا”، وأسماها دون تجهيلها، من خلال طبيب يصل إحدى القري التي تعاني الفقر والجهل والمرض ولا يعرف الجميع ما السبب في وفاة ومرض عددا من سكانها، إلا أن هناك سببا اقتصاديا مرتبط بسيدة أرستقراطية تحاول استغلال الفلاحين بكل الطرق الممكنة ومحاربة طبيب القرية الذى ينبه لتفشى مرض ما.
أيضا فيلم ” عاصفة في الريف” الذى كان عملا مسرحيا قبل أن يتحول إلى فيلم سينمائى لبطل واحد هو يوسف وهبي، ويروى أيضا إصابات الكوليرا في أحدى القري المصرية، في حين اكتفى فيلم ” شفيقة ومتولي ” بجملة على لسان بطلته “سعاد حسني” وهى تتساءل عن كيفية الموت بالكوليرا في إشارة لمعاناة المصريين أمام استغلال وقمع وسرقة الأمراء والحكام لمصر في بدايات القرن التاسع عشر
اختلفت بالطبع تلك الأفلام في تناولها عن طبيعة التناول المرتبط بالفيروسات في العالم وكان التناول الإنساني الاجتماعي هو البطل.
ويقول الناقد الفني محمود عبد الشكور في تصريحات لـ”مصر 360″ أن السينما المصرية لم يكن بها أفلام تتحدث عن الأوبئة كالخيال العلمي، لكنها حللت العلاقات الاجتماعية والخرافات التي تؤدى إلى انهيار المجتمع من خلال تلك الأوبئة، كما حدث في فيلم “صراع الأبطال” لتوفيق صالح.
ويتابع “عبد الشكور”،”فيلم ” اليوم السادس” المأخوذ عن قصة حقيقية لانتشار الكوليرا في مصر في عام 1946 والذي بدأ من معسكرات الكامب الإنجليزي بالشرقية، لم يتحدث عن الوباء قدر حديثه عن فكرة الخرافات والجهل، وصراع السيدة الأرستقراطية التي تحاول إخفاء الحقيقة، ويواجهها الطبيب المعالج بحقيقة مرضها.
الصراع هنا-حسب تحليل الناقد- بعيدا عن الوباء وإن كان في “قلب الحدوتة”، و” اليوم السادس” وانتشار الكوليرا، قد يكون الهدف منه إظهار الصراع بين الحياة والموت من خلال بطلة الفيلم”صدّيقة” التي تمثل الموت و”أوكا” الذى يمثل الحياة وينتصر في الفيلم يوسف شاهين في النهاية للحياة ورغم موت الحفيد إلا أنه يجعل الحياة تستمر.
يوضح ” عبد الشكور” أيضا أن السينما العربية والمصرية على الخصوص لا تحبذ منطق الفيلم الأمريكي القائم على بالخيال العلمي والكوارث وإذا اقتربت من فكرة الوباء يصبح وسيلة لعرض أفكار مثل الجهل أو الفقر أو الصراع المجتمعي، فصناع الأفلام المصرية ليس لديهم الجرأة للعمل على تلك النوعية من الأفلام، وكان التناول الإنساني هو البطل في كل تلك الأعمال على أقليتها، وجميعها أحداث واقعية عاشها المصريون.
وكتب طه حسين في ” الأيام” التي تحولت الى عمل درامي عن الكوليرا وروي وفاة شقيقه في الواقع بنفس المرض والذى كان يعمل طبيبا، وهو ما يفسره ” عبد الشكور” أن الفن المصري يفضل الواقع على الخيال العلمي.
عدم إنتاج هذه النوعية من اﻷفلام في مصر راجع لتكلفتها العالية التي لا يستطيع أي منتج أن يغامر ويتحملها.
” أفلام الازمات” هكذا أطلقت عليها الناقدة ماجدة خير الله واعبترتها غير مفضلة في مصر، قائلة” الجمهور ينزل ليه يتفرج على كوليرا أو طاعون”؟ وهو ما يجعل الجمهور العربي والمصري تحديدأً مختلف عن نوعية الجمهور في الخارج، فخيال المواطن الغربي مختلف وقبوله مختلف، فالمشاهد العربي كما ثبت يتعامل أحيانا مع الشاشة على أنها واقع، فما كان من صناع الأفلام إلا أن ينقلوا له واقعا حقيقيا معاش قبل ذلك”.
ورأت “خير الله” أنه اذا عبرت السينما عن حادث أو انتشار وباء بعينه يحتاج هذا إلى توضيح لأبعاده بشكل جيد لأنه يعد توثيقا.
وأردفت الناقدة الشابة ، “أروى تاج الدين”: لم يتم تناول اﻷوبئة في السينما المصرية سوى في فيلم واحد تقريبا وهو فيلم اليوم السادس، للمخرج يوسف شاهين، الذي كانت تدور أحداثه في وقت اجتياح وباء الكوليرا لمصر، وأصيب حفيد البطلة بالمرض وكان عليها أن ترعاه لستة أيام حتى يشفى من المرض، ولكنه يموت في النهاية.
واستطاع الفيلم، حسب رؤية الناقدة، أن يرسم لنا صورة لحالة الفزع والرعب التي أصابت الناس بسبب هذا المرض الذي لم يكن له علاج في ذلك الحين، خاصة وأن المرضى كان يجري إلقائهم في معسكرات معزولة حتى موتهم.
“كما جسد الفيلم أيضا الفئة التي كانت تتكسب من هذا الوباء عن طريق اﻹبلاغ عن المرضى للفوز بالمكافأة التي تمنحها الحكومة لهم”.
واختتمت الناقدة حديثها بأن”عدم تناول اﻷوبئة كبطل رئيسي مثل اﻷفلام اﻷجنبية يعود لغياب هذا النوع الفيلمي عن السينما المصرية فغالبية هذه الأفلام تندرج تحت نوع الخيال العلمي، وأعتقد أنه عدم إنتاج هذه النوعية من اﻷفلام في مصر راجع لتكلفتها العالية التي لا يستطيع أي منتج أن يغامر ويتحملها”.