شغلت مشاهد عقوبة الإعدام حيزا كبيرا من اهتمام السنيما العالمية التي تجسد واحدة من أعتى أسلحة القوة الناعمة التي تسعى إلى تحقيق التغيير والتأثير على الرأي العام ، بينما يعد فيلم “لا يوجد شر ” there is no evil للمخرج الإيراني محمد رسولوف الفائزبجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي ، أحدث الأفلام التي استحوذت على العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام كافة، ليكمل بذلك مشوارا طويلا من الأعمال الدرامية التي تناولت عقوبة جنائية “خلافية ” لا تزال موضع جدل كبير بين مؤيد ومعارض.
ويشكل فيلم “لا يوجد شر ” ، الذي تم تصويره سرا ، تحديا لرقابة الحكومة الإيرانية، ويجسد قصة أربعة أشخاص تم اختيارهم لتنفيذ عقوبة الإعدام والورطة الأخلاقية التي تعرض لها كل منهم وتداعيات ما سيظهرونه من تحد عليهم وعلى المحيطين بهم.
لم يسمح لرسولوف بمغادرة البلاد لتسلم الجائزة وتسلمت ابنته باران التي تمثل في هذا الفيلم الجائزة بدلا منه ، قائلة : “إنني مرتبكة وسعيدة جدا بهذه الجائزة ولكن في نفس الوقت فإنني حزينة لأنها لمخرج لم يستطع الحضور هنا الليلة .
وقال رئيس لجنة التحكيم جيريمي أيرونز وهو يصف الفيلم إنه يحكي “أربع قصص تظهر كيف يلقي نظام مستبد بشباكه على المواطنين العاديين بغرض جرهم نحو الوحشية ، مضيفا أن الفيلم “يطرح أسئلة عن مسؤولياتنا وخياراتنا التي نقوم بها في الحياة”.
بينما أكد رسولوف “أنه أراد التحدث عن الناس الذين ينأون بأنفسهم عن ويقولون إن القرار اتخذته قوة عليا”، مستطردا “لكنهم يستطيعون في الواقع أن يرفضوا، وهذه قوتهم”.
“لايوجد شر” تم تصويره في السر تحديا لرقابة الحكومة الإيرانية وحصل على الدب الذهبي في العلن .
وروى رسولوف كيف استوحى أحد أجزاء الفيلم الأربعة بعد رؤيته رجلاً، أجرىت معه تحقيقات خلال فترة سجنه، خارجاً من مصرف ، مشيرا إلى إنه تابع الرجل لبعض الوقت، مضيفا “أدركت كم هو شخص طبيعي وكم يشبه الآخرين جميعا ، أدركت عدم وجود وحش، لم يكن هناك شر أمامي، وإنما مجرد شخص لا يشك في تصرفاته”.
وتشير تقارير صادرة عن منظمات حقوقية عالمية إلى أن إيران تنفذ عقوبة الإعدام بحق المئات كل عام.
ونشأ جيل جديد بالخارج من المخرجين الإيرانيين ومنهم رامين بحراني ، وشيرين نشاط ، ممن يأخذون السينما الإيرانية لآفاق لم تعهدها من قبل.
ودائما ما تخطت السينما الإيرانية حدودها المحلية منذ فيلم “فتاة لُر” عام 1932 – وهو أول فيلم إيراني ناطق – والذي حمل أيضا اسم “إيران الأمس وإيران اليوم.
نوعان من الأفلام
ظهرت صناعة الأفلام والسينما بوجه عام منذ أواخر عقد 1890 ، ولكن عقوبة الإعدام كانت تطبق منذ زمن أطول بكثير ، حتى جاء عام 1976 لتصبح فيه هذه العقوبة من القضايا مثار الجدل ، ولم يكن عالم السنيما بمعزل عن ذلك النقاش المحتدم ، نتيجة لذلك اندمج عالمان أحدهما يجسد دراما الواقع التي تجري أحداثها في ساحات المحاكم ، والثاني عالم الكاميرات والأضواء التي تركز على “دراما العقوبة ” وما يحيط بها من جوانب عميقة سواء قبل أو بعد التنفيذ .
تنافس صناع الأفلام السينمائية في معالجة هذه القضية المعقدة ، لتبسيطها وتفكيكها ، غير أن تنوع تقنيات صناعة الأفلام أدت إلى تقديم قضايا الإعدام بأساليب شتى ، فبعضها يلجأ إلى الفيلم الوثائقي ، مثل فيلم ” الخط الأزرق الرفيع ” الذي يوحي عنوانه إلى تنفيذ القانون والفصل بين النظام والفوضى ، وفيلم “بروتوكول الإعدام ” الذي يصف كيفية استعراض جوانب قضايا عقوبة الإعدام في قالب وثائقي .
لم تكن السنيما بمعزل عن النقاش المحتدم حول الإعدام ، ولكنها ركزت على دراما العقوبة
وهناك نموذج سينمائي آخر يعتمد على أساليب العرض الدرامي ، ويمكن تقسيم هذا الأسلوب إلى فئتين ، حيث يتم إنتاج الأولى منهما للعرض في التلفزيون والسينما ، مثل فيلم “الضوء الأخير ” ، ومن أمثلة ذلك فيلم ” الميت الذي يمشى ” ، والذي نفهم من خلاله كيف يمكن نقل قضايا عقوبة الإعدام من خلال تقنيات انتاج الشاشة الكبيرة .
لعل غزارة الإنتاج الذي حفلت به السينما العالمية يجسد مدى احتدام الجدل ما بين مؤيد ومعارض لتطبيق عقوبة الإعدام .
وكشفت إحدى التجارب “المعملية ” التي أجريت عام 1995 في هذا الصدد ، أن عرض مشاهد الإعدام يؤدي إلى الحد من تأييد تطبيق العقوبة على المدانين .
وفي دراسة أخرى أجريت عام 2012 تحت عنوان ” عقوبة الإعدام في الأفلام : تأثير مشاهد العقوبة على مزاج وموقف المشاهدين من الإعدام ” ، حيث كشفت الدراسة عن تزايد مشاعر الحزن والأسى لدى الجمهور لدى مشاهدة إعدام “بطل ” العمل ، وهو ما دعى الدراسة بأن تصدر توصيتها بضرورة حماية المشاهد خاصة في الدراما التلفزيونية من الآثار الضارة التي تصيبه جراء رؤيته “تطبيق العقوبة ” دراميا .
أداة توعية
تساهم الأفلام السينمائية كأداة قوية في رفع مستوى الوعي بشأن قضية “عقوبة الإعدام ” ، وقد تلهم الناس باتخاذ تدابير ضدها ، مما دعا منظمة العفو الدولية إلى القول :” حاولنا تعزيز الأفلام التي نعتقد أنها تحقق هذا الهدف ، وذلك في إطار عملنا الرامي إلى إلغاء عقوبة الإعدام ”
بينما دعت المنظمة على صفحتها التي أنشأتها على “فسبوك ” إلى انتقاء أفضل أفلام الإعدام في تاريخ السينما العالمية والتي تصنفها ما بين أفلام درامية ، و أفلام وثائقية.
ودعت المتصفحين للتعبير عن رأيهم بشأن أفضل الأفلام قائلة :” نحن لا نفرق بشكل تعسفي بين الأفلام الوثائقية ، والأعمال الدرامية الواقعية ، و بين ما تم إنتاجه للتمثيل في المسرح أو التلفزيون ، فقط أخبرنا بما تعتقد أنه الأفضل “
انتقت المنظمة أفلام عالمية مشهورة لعل أبرزها “الميل الأخضر ” وفيلم “بدم بارد ” و”البرئ ” ، و”الغاضبون الـ12 “
الإعدام “دراميا ”
هناك أفلام عالمية شهيرة تتناول عقوبة الإعدام ، وأثارت رد فعل واسع النطاق بين جمهور المشاهدين والنقاد والقائمين على صناعة السنيما و الأوساط القانونية والقضائية ، غير أن معظم هذا الإنتاج الدرامي كان يركز في المقام الأول على الجانب الإنساني في حياة المدانين بعقوبة الإعدام ، بينما يجد بعضها ، خاصة الوثائقي منها ، منطلقا لمناقشة نصوص القانون و الخطأ الذي قد يقع في عند النطق ببعض أحكام الإعدام ، لعل أبرز الأمثلة على ذلك فيلم ” بعد البراءة ” After Innocence ، وهو فيلم وثائقي يجسد الحياة الحقيقة للمحكوم عليهم بالإعدام ، ويختبر المحاكمات ، كما يبحث في القانون الأميركي والنصوص التي أودت بالمحكمة للحكم الخاطئ بحقهم .
أما براءة المتهم أو إدانته في الدول التي تأخذ بنظام هيئة المحلفين مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، فهو رهن رأي جمهور لا يعرفون نصوص القانون بل يحكمون بعواطفهم وينطقون الحكم بقلوبهم سواء أكان بالبراءة أو الإدانة ، مما يتنافى مع الدقة والموضوعية وحرفية تطبيق النصوص .
“الغاضبون الـ12 ” ، وهو فيلم أمريكي يحاول مخرجه سيدني لوميت إلقاء الثغرات الصادرة في أحكام الإعدام ، فبعد المرافعة الختامية في محاكمة قتل، ينتظر القاضي سماع رأي هيئة المحلفين المكونة من 12 رجلًا في ما إن كان الفتى المراهق المتهم بالجريمة مذنبًا أم لا.
و يحاول الرجال التوصل لقرار بالإجماع ويتم عزلهم في غرفة لأخذ القرار المصيري، محلف واحد فقط وهو “هنري ” يعتقد بأن الشاب قد يكون بريئًا، على عكس باقي الهيئة المقتنعة بإدانته ، بالرغم من أن الأدلة لا تثبت هذه الإدانة . ما إن تبدأ الهيئة في مراجعة التفاصيل، تظهر على السطح المشاكل الشخصية، ونرى كم يتأثر المحلفون بخلفياتهم الشخصية في تقرير مصير هذا الفتى.
الأفلام تساهم في رفع مستوى الوعي بشأن قضية “عقوبة الإعدام ” وقد تلهم الناس باتخاذ تدابير ضدها
في حين أن الفيلم الوثائقي “الموعد النهائي ، Deadline ، يتناول حدثين في بالغ الأهمية ، لم يتم اختبارهما في قانون الإعدام الأميركي ، يتمثل الأول في إلغاء عقوبة الإعدام عام 1972 ، أما الثاني فيتناول نقاش ولاية ألينوي عام 2002 حول العفو عن كل الصادر بحقهم أحكام بالإعدام ، كما يعالج الفيلم الوثائقي الأسئلة العميقة التي تتعلق بنظرة الأميركيين للجريمة والعقاب.
وقامت جمعية دينية أمريكية في 2002 بمناهضة عقوبة الإعدام من خلال فيلم وثائقي يضم عددا من المقابلات والأحاديث مع رؤساء طوائف وديانات ، تحدثوا خلاله عن رأيهم في تلك العقوبة .
أما فيلم ” عِرق للإعدام ” Race to execution للمخرجة راشيل ليون ، فهو يروي قصة محكوم عليهم بالإعدام ، ويفضح مدى تأثير العرق في قانون الإعدام الأميركي.
وتتطور صورة البطل لتأخذ منحى آخر في فيلم “أسطورة الإغلاق ” Closure myth حيث تتوصل البطلة التي ثكلت ابنها “قتلا ” إلى نتيجة مؤداها أن التسامح وحده هو الذي يغلق باب المأساة التي تعيشها ، فقد تحول شعورها من رغبة في الانتقام من قاتل ولدها ورؤيته محكوم عليه بالإعدام ، إلى العفو عنه .
ويستمر الطابع الإنساني متدفقا ولكنه يتحول هذه المرة إلى المشاعر الروحية في فيلم Dead man walking “ميت يمشى ” ، وذلك على خلفية العلاقة بين محكوم عليه بالإعدام وراهبة يقابلها بحثا عن هذه المشاعر التي يريد أن يتزود بها في أيامه السابقة على تنفيذ الحكم .
كما تبرز المشاعر الرقيقة رغم الألم القاسي في فيلم “المقعد الشاغر” The Empty Chairأربع قصص حول عائلات ضحايا الجريمة وصعوبة فقد الأحباب ، حيث تتفاوت ردود الفعل بين مطالب بالثأر وإنزال العقوبة وصولاً إلى التسامح .
ويتسع نطاق النقد الدرامي لظواهر اجتماعية على خليفة إعدام “واندا جين” في الفيلم الذي يحمل اسمها ، والذي يبحث في قضايا الفقر والعرق والجنس داخل العدل والجريمة ، ف واندا جين امرأة شابة وتتمتع بالجاذبية ، كما كانت من أصل إفريقي ، لديها نسبة ذكاء منخفضة ، اتهمت بارتكاب جريمة القتل مرتين ، وتحولت إلى أشهر مقيمة في سجن المحكوم عليهم بالإعدام .
الأفلام السينمائية أداة قوية لرفع مستوى الوعي بشأن “عقوبة الإعدام ” أو حتى إلهام الناس باتخاذ تدابير ضدها.
فيلم البرئthe Exonerated، وهو مقتبس من عمل مسرحي ، ويتناول قصة حقيقية لستة اشخاص تم إدانتهم ظلما و صدرت في حقهم أحكام بالإعدام بموجب اتهامات بالقتل وغيرها من الجرائم ، وقضوا سنوات في السجن ، ثم حصلوا على حكم بالإفراج والبراءة .
وتستمر الأفلام سواء أكانت درامية أو وثائقية في تأكيد احتمال براءة بعض المحكوم عليهم بالإعدام ، ففي الفيلم الوثائقي “حوار مع جلاد ” Interview with an Executioner تتجسد “دراما البراءة ” في شخصية إدوارد إيرل جونسون الذي ظل يؤكد أنه برئ حتى أخر لحظة في عمره عندما قال كلماته الأخيرة : “أريدكم أن تعلموا جيداً ما أنتم على وشك القيام به عندما تعدموني. أريدكم أن تتذكروا أصغر التفاصيل، لأني بريء”.
أما فيلم “الميل الأخضر ” The green mile ، فأحداثه تدور حول “بول ” قائد حرس أشهر سجن لتنفيذ حكم الإعدام والذي يبدأ بسرد قصته الغريبة على إحدى نزيلات دار المسنين التي يقضى بها ما تبقى من عمره ، ففى عام 1935 أحضر إلى السجن أحد المحكوم عليهم بالإعدام “جون كوفى” ذا البشرة السوداء المتهم باغتصاب وقتل فتاتين صغيرتين والذي بدت عليه علامات الوداعة وكان دائم البكاء، تبدأ الإثارة في الفيلم عندما يقوم “جون” بمساعدة “بول” في التخلص من ألمه الذي عاناه بوجود حصوة في المسالك البولية بمجرد لمسه وإخراج هذا الشيء كرماد من فمه ، وتستمر الأحداث المثيرة للدهشة ، حيث يلازم البطل دار المسنين منتظرا الموت الذي تأخر عليه كثيراً .
فيلم حياة ديفيد جيل The life of David Gale يجسد بدوره قصة رجل محترم يناهض عقوبة الإعدام ، ولكنه يجد نفسه وقد صدرت ضده عقوبة بالإعدام بتهمة اغتصاب وقتل رفيقة دربه .
فيلم الوحش Monster ، وتقوم فيه الممثلة تشارليز ثيرون بتجسيد دور البطولة ضمن شخصية قاتلة محترفة لجرائم “القتل المتسلسل ” ، والتي أعدمت في فلوريدا ع– يروي الفيلم قصّة الحب التي جمعت سيلبي وول ، وورون ، قبل أن تتحول الأخيرة من بائعة هوى إلى ضحيّة، مروراً بمحاولة الإنتحار وصولاً إلى تحولها لقاتلة باردة الأعصاب .
“الإعدام شنقا ” Death by hanging ، وهو من انتاج 1968 و يحكي قصة شاب كوري يعيش في اليابان ، صدر ضده حكم بالإعدام ، لاتهامه باغتصاب وقتل فتاتين ولكن بعد تنفيذ الحكم لا ينجح الشنق ، ويفقد البطل ذاكرته جزئيا ، ويصاب مأمور السجن ورئيس الحرس بالذهول إزاء ما حدث ويقررون تذكير القاتل بجريمته ولماذا يسلبونه حياته ، إذا أرادوا إعادة تنفيذ عملية الإعدام، مفارقات عديدة يجري معالجتها برمزية عالية إلى جانب تحليل شخصية القاتل بعد أن يضع الحراس أنفسهم في مكانه مما يجعل الأمور أكثر تعقيدا .
قدمت الدراما العالمية العديد من الأعمال الفنية التي تدور حول عقوبة الإعدام وتصويرها بأشكال مختلفة ، وحاول مخرجو أغلب الأعمال أثناء تصوير تلك الحالة أن ينقلوا إلى المشاهد ، كلما كان ممكنا ، ما يجول بخاطر المحكوم عليهم حتى لحظة تنفيذ العقوبة ، وكثيرا ما يؤكد المشهد على تأثير التصاعد الدرامي في حياة المحكوم عليه وصولا إلى اللحظات القصيرة التي تسبق تنفيذ الحكم .
مشاهد تجعلك تطرح عديدا من التساؤلات عن مدى براءة بعض المحكوم عليهم بهذه العقوبة ومدى تحري الدقة في جمع أدلة الإدانة التي أفضت إلى صدور الحكم ضدهم .