أحدث اليمين المتطرف اختراقا في المشهد السياسي الإسباني، بعد أن حقق حزب «فوكس» اليميني المتشدد تقدما كبيرا في الانتخابات الأخيرة، التي أجريت في نوفمبر 2019، وتمكن هذا الحزب العنصري من مضاعفة عدد مقاعده، ليصبح ثالث أقوى حزب داخل برلمان البلاد.

اعتبر المراقبون أن «الزلزال السياسي» الذي ضرب إسبانيا يوم 10 نوفمبر 2019 والمتمثل في احتلال حزب «فوكس» اليميني المتطرف للمركز الثالث في البرلمان، بـ 52 مقعدا وأكثر من 3.6 ملايين صوت، والتشرذم الذي تعيشه قوى اليسار؛ ليست كلها سوى نتائج لتصدعات خطيرة لحقت بنيان القوى السياسية الكبرى في البلاد.

وبصعود حزب «فوكس» الشعبوي اليميني، المتحالف سياسيا مع الانفصاليين في إقليم كتالونيا، سقط «الاستثناء الإسباني»، حيث كانت مدريد – من قبل- آخر محطة أوروبية توقع المراقبون وصول قطار اليمين إليها، واقترابه الحثيث من سدة الحكم عاما بعد عام. 

 

«دون كيشوت» يحارب المسلمين

قبل هذا التقدم النيابي اليميني، كانت هذه الأحزاب المتطرفة بمنأى عن الساحة السياسية في إسبانيا، وأجمع مراقبو المشهد الداخلي الإسباني، السياسي والاجتماعي والثقافي، وقتها، أن غياب تيارات اليمين المتطرف والعنصري والفاشي كان مصدر فخر للأمّة، التي ذاقت من ويلات الفاشية، حتى سقوط حكم الدكتاتور الجنرال فرانكو في أواسط السبعينيات من القرن الماضي.

واكتسب حزب «فوكس» أو «الصوت» بالإسبانية، الذي أسسه سنتياغو أباسكال عام 2013، زخمًا كبيرا خلال السنوات القليلة الماضية، حيث تسببت حالة من عدم اليقين الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع مستويات الهجرة في قلق العديد من المواطنين الإسبان، وأضفت مزيدًا من الحماسة القومية تغذيها الأزمة الكتالونية.

 

استهل «أباسكال» وهو محام سابق لرئيس وزراء إسبانيا الأسبق خوسيه ماريا أثنار، نشاطه السياسي بحملة استلهم فيها «دون كيشوت»، الشخصية الشهيرة في الأدب الإسباني الكلاسيكي، وامتطى حصانا بالفعل، ودشّن مسيرة «فتح إسبانيا» مجدداً، وتحريرها من «الكفار الأغراب»، والمسلمون منهم بصفة خاصة، وذلك في ظل وجود أكثر من مليوني مسلم في إسبانيا.

استهل «أباسكال» نشاطه السياسي بحملة استلهم فيها «دون كيشوت»، ودشّن مسيرة «فتح إسبانيا» مجدداً، وتحريرها من «الكفار الأغراب»

وبدأ حزب «فوكس» الذي يستمد خطابه ومرجعتيه وفلسفته وشعاراته من حروب الإبادة ضد الإسبان المسلمين في القرون الوسطى، مسار صعود السياسي منذ انتخابات عام 2015، حتى الوصول إلى البرلمان في نهاية العام الماضي.

غير أن المحطة الفارقة في مسيرة الحزب كانت قضية كتالونيا والدعوات الانفصالية، والاستفتاء على الاستقلال، الأمر الذي أشعل مشاعر الانتماء القومي لدى شرائح غير قليلة في صفوف اليمين التقليدي، الذي عمد إلى النفخ في الذات القومية، وتضخيم الهوية «الهسبانية»، والاعتزاز بعناصرها المتمثلة في الحضارة القشتالية والديانة المسيحية، وهو ما أعطى هذه الأحزاب البعد الديني الذي تتميز به معظم جماعات اليمين المتطرف في أوروبا.

واستطاعت الأحزاب اليمينية استغلال الأزمة السياسية في إقليم كتالونيا، وما شهده من أعمال عنف غير مسبوقة، إثر الحكم على قادة الانفصاليين في أكتوبر 2019 بأحكام قضائية ثقيلة، وحولت تلك الأحزاب ساحة المعركة الانتخابية إلى فخ سقطت فيه كل الأحزاب السياسية، وخاصة الحزب الاشتراكي.

المحطة الفارقة في مسيرة حزب «فوكس» كانت قضية كتالونيا والدعوات الانفصالية، والاستفتاء على الاستقلال

وقال زعيم الحزب في تصريحات بعد ظهرة نتيجة الانتخابات، إن «استراتيجية التواصل المباشر عبر الشبكات الاجتماعية، شكّلت مفتاح النجاح بالنسبة لنا، كما حدث في أماكن أخرى، خصوصا أن وسائل الإعلام التقليدية في إسبانيا طالما قامت بتحريف رؤيتنا في الماضي، ونقلتها إلى الجماهير بطريقة سيئة».

وأحسن «أباسكال» الاستفادة من عامل آخر بدا استثنائياً، بدوره، على صعيد إسبانيا، إذ كانت غالبية أحزاب اليمين الأوروبي ترفض التعاطي مع التيارات ذات الهوية الفاشية المعلنة؛ باعتبارها إرثا عنصريا ثقيلا، ثم أخذ التحريم ينحسر تدريجياً وتحت أقنعة عديدة، وبضغط من الموجات الشعبوية داخل هذه الأحزاب. وجاء صعود «فوكس» أواخر العام الماضي، متوافقا مع خيارات الناخب الأوروبي الذي بات يقصد صندوق الاقتراع، وهو يتحسس محفظته أوّلًا؛ أو تستفيق في دواخله أحاسيس الانعزال، والإسلاموفوبيا «رهاب الإسلام»، والعنصرية.

وتدفع شعبية «فوكس» المتنامية، وخطابه العلني المتطرف، باقي أحزاب اليمين في البلاد إلى الخروج عن نبرة الاعتدال، والانسياق وراء الحلول التصعيدية من أجل تفادي فقدان أصوات الناخبين، فلم يعد غريبًا العثور في إسبانيا حاليا على مدافعين أشداء من اليمين عن الإرث الدموي للديكتاتور فرانكو.

«أباسكال»: استراتيجية التواصل المباشر عبر الشبكات الاجتماعية، شكّلت مفتاح النجاح بالنسبة لنا

واتهمت دراسة أجراها «معهد الأبحاث» الإسباني «Ortega y Gasset»، وسائل الإعلام المحلي في البلاد بأنها ساهمت في توجيه الرأي العام وتشديد مواقفه حيال المهاجرين، وبالتالي صعود قوى اليمن التطرف في البلاد، وذلك باستخدامها لغة خالية من المهنية عبر عناوين تتحدث عن «موجات مهاجرين» و«غزو جماعي»، الأمر الذي أدى إلى تنامي النزعات اليمينية في إسبانيا يوما بعد يوم.

ويستحوذ صعود «فوكس» المستمر على قلق متزايد في أوساط المثقفين الإسبان، وذلك بعد لجوء الحزب إلى الخطاب القومي المتطرف، حيث يدعى أعضاؤه أن الهوية الثقافية واللغوية والدينية لإسبانيا مهددة بسبب «هجرة المسلمين»، كما قال خافيير أورتيغا سميث الكاتب العام للحزب، والرجل الثاني بعد أباسكال: «عدونا المشترك، عدو أوروبا، عدو التقدم، عدو الديمقراطية، عدو الأسرة، عدو الحياة، عدو المستقبل هو الغزو الإسلامي».