وسط مشاهد القبور يسود صمت مطبق، تتخلله همسات خفية، تدل علي حياة تختبئ خلف جدران، يتسلل منها رائحة الفقر والجوع، لناس بسطاء تركوا الدنيا ليعيشوا مع الأموات، في وضع يخالف المواثيق الدولية، والإعلان الدولي لحقوق الإنسان بالحق في السكن.

يعيش وسط القبور ناس بسيطة، أجبرتهم الظروف الاقتصادية الصعبة، وعدم وجود مكان يأويهم، لترك الدنيا بما فيها والذهاب للدار الأخرة، الذي يستوي فيها الأحياء والأموات؛ أسر كاملة تعيش في صمت، دون أن يشعر بها أحد، تحكمهم نظم وقوانين غير التي نعيش بها في عالمنا.

ناس بسيطاء ولدوا من رحم الموت، ويعيشون في صمت، اعتادوا على مراسم الموت، على مناظر الورود والدموع والصوات والنواح، علي اتشاح السيدات باللون الأسود، لتصبح مراسم الحزن والدفن تقليد يومي لديهم.

الحق في السكن 

أكدت المادة رقم 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على أن الحق في السكن وجاء فيها ” لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة”.

كما تضمنت المادة 11 بند 1 من العهد الدولي، الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الحق في السكن كجزء من الحق في مستوى معيشة كاف وجاء فيها ” تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية، وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لانفاذ هذا الحق، معترفة في هذا الصدد بالأهمية الأساسية للتعاون الدولي القائم على الارتضاء الحر”.

أكدت المادة رقم 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على الحق في السكن

وفي القانون الدولي لحقوق الإنسان اعتبر الحق في السكن حقًا قائمًا بذاته، وقد تم توضيح ذلك في الحاشية العامة رقم 4 لعام 1991 بواسطة لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث قدمت الحاشية العامة تفسيراً جازماً لا يحتمل الالتباس بخصوص الحق في السكن بمصطلحات قانونية تحت مظلة القانون الدولي.

كما تم تضمين الحق في السكن في المادة 28 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وفي المادة 16 من الميثاق الاجتماعي الأوربي.

ولأن الحق في السكن جزء أساسي من حقوق الإنسان، فقد اهتمت الدولة المصرية، بتحسين أوضاع مواطنيها والقضاء علي العشوائيات، وتوفير سكن ملائم، تنفيذًا لما جاء في الدستور المصري عام 2014 المادة 78 التي تصت “تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية”. 

وخلال السنوات الأخيرة، أطلقت وزارة الإسكان عدة مشروعات للإسكان الاجتماعي، وقضت على عدة مناطق عشوائية، وأنشأت مجتمعات سكنية متكاملة بالمدن الجديدة ومنطقة الأسمرات، وقضت على عدة مناطق عشوائية، ما دعا وفد من البنك الدولي لتثمين هذه الجهود خلال زيارته الأخيرة لمصر وشقق الإسكان الاجتماعي. 

عدد سكان المقابر

وفقًا لنتائج التعداد السكاني، الذي أجراه الجهاز المركزي لتعبئة والإحصاء عام 2017، فإن عدد سكان المقابر والأحواش في مصر يصل لـ 2360 مواطنًا، في حين قدرت تقارير أخرى عدد سكان المقابر في مصر بحوالي 5 مليون نسمه.

ووفقا لتعداد الذي أجراه الجهاز في 2008، فإن هناك 1.5 مليون مصري يعيشون في المقابر بالقاهرة فقط، بخلاف الذين يعيشون في المقابر بالمحافظات.

تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية

 

 ووفقًا لتعداد الجهاز في 1947 بلغ عدد سكان المقابر نحو 69 ألفًا، وفى عام 1966 وصل عددهم إلى 97 ألفاً، وفى عام 1986 زاد عددهم 82 ألفاً، ليصبح 180 ألف مواطن مصري يعيشون مع الأموات.

أرجع البعض سبب تضارب الأعداد وتراجعها، لجهود الدولة المصرية في محاصرة مشكلة سكان المقابر، بتوفير مساكن بديلة، ولكن تظل المشكلة قائمة، لاسيما أنه مازال هناك الألاف من السكان في المقابر. 

خريطة المقابر

توجد المقابر في نطاق القاهرة الكبرى، في السيدة نفيسة، ومقابر النصر والبساتين والتونسي والإمام الشافعي، وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثي، وجبانات عين شمس ومدينة نصر، وهي مقابر قديمة جدًا، وبها مقابر أثرية للصحابة الذين حضروا لمصر وعاشوا وماتوا فيها، بالإضافة لمقابر أل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

 ومقابر المشاهير في البساتين مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش، وغيرهم من القيادات السياسية والفكرية بمصر، الذين دفنوا في هذه المنطقة.  

ومع أزدياد أسعار المقابر بهذه المناطق، والزحف العمراني عليها، وهدم أجزاء منها لفتح الشوارع وتطوير الميادين مثلما حدث في بمقابر السيدة عائشة، بدأت تظهر مقابر أخري للدفن في نطاق القاهرة بأكتوبر والعبور وغيرها من التجمعات السكنية الجديدة.

بدأت تظهر مقابر أخري للدفن في نطاق القاهرة بأكتوبر والعبور وغيرها من التجمعات السكنية الجديدة

هذا بخلاف مقابر “الأقباط “والتي يوجد لها نظام خاص، وتتواجد داخل بعض الكنائس أو بالقرب منها وفي الأديرة، ومقابر اليهود الأثرية في البساتين، بمنطقة عرفت باسم “مقابر اليهود”، وهي من أقدم المقابر في العالم ويرقد فيها حاخامات وشخصيات يهودية بارزة، عاشت ومات في مصر.

 سكان المقابر

يعيش سكان المقابر في ظل قوانين محددة، يعرفون بعضهم البعض جيدًا، يشتمون رائحة الغريب ويعرفونه بسهولة، كما يعرفون رائحة الأموات التي تعشش في كل مكان حولهم، فطبقًا لمقابلات متعددة أجرتها “مصر 360″، فإن سكان المقابر ينقسمون لثلاث فئات.

رابطة ” التُّرَبية”

وسط مقابر منطقة البساتين، وسط المشاهد والقبور، يقع مقر رابطة “التُّرَبية”، مكان بسيط جدرانه قديمة مهدمة، يتولى التربي مهام عمله بقرار من الحي، ويكون مسئول عن منطقة أو عدة مناطق، يتولى حراستها وتعيين ما يراه مناسبًا لذلك.

يعرف “التُّرَبي” كل صغير وكبيرة، في نطاق المنطقة التي يتواجد بها، ويعرف أصحاب المقابر ومكان تواجد كل مقبرة، ومن دفن فيها سابقًا، وينسق مع رجال الأمن في هذا الشأن، بمجرد حدوث حالة وفاة يأمر التربي رجاله بفتح الجبانة وتجهيزها، لاستقبال المتوفي الجديد، ولا يسمح بدفن أحد إلا بعد إلا بعد الاطلاع على شهادة الوفاة، كما يتولى تنظيف المقابر وحمايتها من اللصوص، وزراعة الصبار، ويتحصل في نظير ذلك على مبلغ مالي من أصحاب الجبانة.

ومهنة ” التُّرَبي” مهنة قديمة جدًا لها أصول وتقاليد، كان الحاج صالح هو أول رئيس لطائفة التُّرَبِيَّة قبل 100 عام، ومن بعده تولى نجله الحاج أحمد صالح رئاسة الطائفة، ثم تولى من بعده نجله الحاج عبد العزيز أحمد صالح، وتم تغيير اسم الطائفة إلى رابطة الترَبية، وبعد أن توفي الحاج عبد العزيز لم تخرج رئاسة الرابطة من عائلة صالح.

“الترَبي” ليس شخص فقير أو كادح كما يعتقد البعض، ولكن بعضهم ينتمي لعائلات كبيرة

و”الترَبي” ليس شخص فقير أو كادح كما يعتقد البعض، ولكن بعضهم ينتمي لعائلات كبيرة، ويمتلكون ثروات وسيارات فارهة، ويوجد منهم وزراء وشخصيات سياسية بارزة.

ويعمل التربي بالإضافة لمهام عمله الأساسية، في بناء وبيع المقابر وتجديدها، ويحصل على مبالغ شهرية نظير الحراسة والنظافة من أصحاب الجبانات.

“اللحاد”

اللحاد أو صنيعي الدفن، هو الشخص الذي يتولى فتح المقبرة، والدخول مع المتوفي، لإيصاله للعالم الأخر، وهي مهنة حساسة جدًا وبها الكثير من الأسرار، التي لا يعرفها إلا “اللحاد” كما يطلقون عليه.

بمجرد وصول الجنازة، يتسلم “اللحاد” المتوفي لتوصيله للعالم الأخر

يعيش “اللحاد” في المقابر أو بالقرب منها، وبمجرد حدوث حالة وفاة، يتواصل معه التربي، لفتح الجبانة وتنظيفها وتجهيزها لاستقبال المتوفي الجديد، وبمجرد وصول الجنازة، يتسلم “اللحاد” المتوفي لتوصيله للعالم الأخر، ويتحصل في نظير ذلك على مبلغ مالي من “التربي” ومن أهل المتوفي بالتراضي.

الأحياء الأموات

يأتي سكان المقابر في ذيل التركيبة السكانية، وهم أناس اضطرتهم الظروف الصعبة للهروب من الحياة والعيش مع الأموات، وساعد على ذلك نظام بناء المقابر في مصر، والتي تنقسم إلي نظام “اللحد” الشرعي، ويتم الدفن حسب الشريعة الإسلامية، أما النظام الأخر هو نظام الجبانات، وفي هذا النظام يتم تقسيم المقبرة لغرفتين للدفن، واحدة للرجال وآخري للسيدات، بالإضافة لمكان لاستقبال العزاء وأهل المتوفي عند زيارته، وهو نظام أشبه بغرف الدفن لدى الفراعنة القدماء.

مع ازدياد أعداد السكان، اضطر بعض المصريون للسكان في أحواش مقابرهم، وربما يكون فيلم “كراكون في الشارع” بطولة الفنان عادل إمام ويسرا، مثال حي لمن دفعتهم الظروف للحياة في أحواش مقابرهم الخاصة، بعد سقوط منازلهم وعدم قدرتهم على توفير سكن بديل.

النوع الثاني من سكان المقابر، هو الناس البسطاء الذين لا يمتلكون مكان للعيش فيه، فدفعتهم  الظروف للعيش في المقابر، ويكون ذلك بالتنسيق مع صاحب الحوش والتربي، ويتولى هؤلاء السكان حماية المقابر وحراستها من اللصوص وتنظيفها.

يعش معظم سكان المقابر في فقر مدقع، وبمجرد حضور جنازة ترى على وجوههم كل المتناقضات، لأنه بالنسبة لهم كلمت ميت جديد تعني رزق جديد، يتحصلون عليه من أهله نظير خدمتهم وإحضار كراسي ليستريحوا خلال فترة الدفن ومياه نظيفة للشرب وتجهيز بعض المشروبات الساخنة إذا اقتضي الأمر.

كلمت ميت جديد تعني رزق جديد، يتحصلون عليه من أهله نظير خدمتهم

 يعاني هؤلاء السكان من القفر والجوع والمرض، قضى معظمهم عمره كله بين الأموات، وجسد فيلم الفنان أحمد زكي “أنا لا أكذب ولكن اتجمل”، الحياة القاسية التي يعيشها هؤلاء والأمراض النفسية التي تصيبهم، وعدم قدرتهم علي مواجهة المجتمع، الذي يتنصل ويبتعد عنهم ويخاف الاقتراب منهم.

يخرج سكان المقابر في الصباح، وبعضهم يخاف من الخروج عند حلول الظلام، يعاني الأطفال من أمراض نفسية، أما الكبار فقد اعتدوا على هذه الحياة، يعرفون بعضهم جيدًا، يحفظون الطرق بين المقابر عن ظهر قلب، ويحضر إليهم الباعة الجائلين لتوفير احتياجاتهم، أو يذهبون للأسواق القريبة منهم، ليعش الجميع في مجتمع متكامل تحكمه قوانينه وشروطه.

جرائم المقابر

تقع الكثير من الجرائم داخل المقابر، مثل الخطف والاغتصاب أو السرقة، ولذا فإن رجال الأمن يستغلون سكان المقابر للحفاظ على الأمن، ومنع وقوع حوادث بين شواهد المقابر، وبالرغم من ذلك تنشر تجارة المخدرات، وتم ضبط بعض قضايا الدعارة، التي يتم ممارستها داخل أحواش المقابر بشكل منظم.

رجال الأمن يستغلون سكان المقابر للحفاظ على الأمن، ومنع وقوع حوادث بين شواهد المقابر

كما يتم استغلال المقابر المهجورة في إخفاء الخارجين عن القانون، وتقع مسؤولية الحفاظ علي الأمن والإبلاغ الفوري عن أي جريمة على عاتق “التربي”، الذي يعرف جميع سكان المقابر في نطاق اختصاصه، ويكون مسؤولًا عن أي خروج عن القانون يحدث فيها أمام رجال الأمن.