قضى عمال الحديد والصلب سنوات طويلة أمام أفران الصهر، يطوعون الحديد بأيديهم، ليتحول إلى ذهب يساهم في الدخل القومي، والمشروعات العملاقة في السلم والحرب، مثل مشروع السد العالي وحائط الصواريخ، أبان حرب أكتوبر، واليوم تحول المصنع لأكوام من التراب والخردة، وأفران الصهر المعطلة، بفعل الخسائر والمتكررة وعدم تطوير الشركة، ليطارد شبخ التصفية عمال الشركة.
يقضي العمال ساعات طويلة في أحاديث جانبية في محاولة لمعرفة مصيرهم، بعد أن تردد بقوة قرب صدور قرار حكومي بتصفية الشركة، لترتجف قلوبهم وترتعش أيديهم ويجف عرقهم، ويدخلون في حالة قلق وتفكير مستمر، ليتحول حلم عبد الناصر لكابوس يطاردهم ويقلق منامهم.
كان هذا ملخص حالة عمال شركة الحديد والصلب، الذي يبلغ عددهم 7 ألاف عامل، يكلفون 50 مليار جنيه سنويًا كمرتبات تتحملها الدولة، بالإضافة للخسائر التي تتكبدها الشركة سنويًا، بسبب عدم التطوير وتوقف الإنتاج.
القرار النهائي بشأن الشركة، في انتظار انعقاد الجمعية العمومية للشركة لاتخاذ القرار المناسب
ففي الوقت الذي نفى فيه مدحت نافع رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية، بشأن اتخاذ قرارًا بتصفية الشركة، أكدت مصادر حكومية أن قرار التصفية سيصدر قريبًا، بعد فشل اللجان التي شكلتها الحكومة في إعادة هيكلة الشركة لتعود لسابق عدها.
فيما أكد خالد الفقي عضو مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية رئيس النقابة العامة للصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية في تصريحات خاصة لـ ” مصر 360 ” إن القرار النهائي بشأن الشركة، في انتظار انعقاد الجمعية العمومية للشركة لاتخاذ القرار المناسب.
العمال: “نفسيتنا تعبت وعايشين في قلق”
وبعيدًا عنما يدور في كواليس الحكومية وأروقة السياسة، لاتخاذ قرار نهائي بشأن الشركة، تحدثت ” مصر 360 “، مع عددًا من عمال الشركة والقيادات النقابية، الذي رفضوا ذكر أسماؤهم، بعد أن صدرت لهم قرارات داخلية بعدم التحدث في الأمر نهائيًا لعدم أثارت البلبلة، وحصولهم على تطمينات بعدم صدور القرار حتى الآن بشكل رسمي.
“نفسيتنا تعبنا في تطوير مفيش، الناس مش عارفه مصيرها، عايشين في قلق مستمر، الموضع كله في الحكومة”، بهذه الجملة المقتضبة لخص أحد العمال يدعى “عبد الرحمن. ن” حالة عمال شركة الحديد والصلب، الذين يقضون ساعات من القلق والتفكير، في محاولة لتبديد الصورة الضبابية وتضارب المعلومات عن مصير الشركة.
قضى “عبد الرحمن” 30 عامًا بالشركة، يحفط عنابرها وجدرانها عن ظهر قلب، عاش أيام أمجاد هذه الشركة العملاقة، يقول:” بنشتغل على فرن واحد فقط الأن، أما باقي الأفران معطلة بسبب عدم توافر فحم الكوك، وتوجد أعطال متكررة في المعدات والمكن ولا توجد قطع غيار، وبنشتغل وننفذ التعليمات ومحدش عارف حاجة ومصيرنا في يد الدول.
مرت الشركة بعدة مراحل عبر تاريخها الكبير، منذ أن اتخذ قرار بتأسيسها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، خلال فترة الخمسينات، لتساهم في بناء السد العالي وحائط الصواريخ أبان حرب أكتوبر، واستمرت متماسكة حتى نهاية عام 2008، بعدها بدأت الشركة تعاني بسبب عدم التطوير.
لأرزاق بيد الله سبحانه وتعالي، مصير الشركة ومصائرنا بيد الشركة القابضة والحكومة، نحن في انتظار مصير مجهول لا يعرفه أحد
أكد “عبد الرحمن” أن المعاناة الحقيقة للشركة بدأت عقب ثورة 25 يناير، لتدخل الشركة في حالة من الفوضى ونفق مظلم من الخسائر، وزادت مديونيات الشركة وأعباءها، بعد قرار التعويم وانخفاض قيمة الجنية، وزيادة أسعار الطاقة والغاز والخامات، في مقابل حالة الركود التي شهدها السوق أبان هذا الفترة.
ويشير الرجل إلى الإجراءات التي تم اتخاذها لتقليل عدد العمالة بالشركة خلال الفترة الأخيرة، بوقف التعينات وتشجيع الخروج معاش، أدت لتخفيض عدد العمال من 10 آلاف عامل إلى 7 آلاف عامل فقط، وهو ما تسبب في خروج كوادر أساسية في الشركة، يمتلكون خبرات كبيرة دون تعويضها، لافتًا إلا أنه حتى لو تم التطوير فالمصير واحد تقريبًا، لأنه في حالة التطوير سيتم الاستعانة بماكينات حديثة ومتطورة تدار بالكمبيوتر، ولن تصبح هناك حاجة لكل العمال المتواجدين بالشركة حاليًا.
ينهي الرجل كلامة بنبرة يائسة قائلًا:” الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالي، مصير الشركة ومصائرنا بيد الشركة القابضة والحكومة، نحن في انتظار مصير مجهول لا يعرفه أحد”.
انقسام واستسلام في أوساط العمال
عامل أخر بالشركة يدعى “محمد. ا” يبلغ من السن 40 سنة، يعمل في الشركة منذ 15 عامًا فقط، طلب عدم ذكر اسمه بالكامل أو الأشارة إلية، أكد أن العمال يقضون ساعات طويلة في أحاديث جانبية، بعد أن أصابتهم حالة من اليأس بسبب القارات المتضاربة والخسائر التي تتكبدها الشركة.
وأوضح “محمد” أن هناك حالة من الانقسام في أوساط العمال، الذين أصبحوا في حالة استسلام لأي قرار يتخذ، بعد أن نفذ صبرهم بسبب ما يتم تداوله عن الشركة، مؤكدًا أن ما يريده العمال هو الحصول على تعويضات مناسبة دون انتظار.
عضو نقابة: قرار تصفية الشركة تم اتخاذه
لم يختلف ما قاله العمال، عن ما قاله عضو نقابة سابق بالشركة، طلب عدم ذكر أسمه أيضًا، والذي أكد أن الشركة تمر بظروف صعبة للغاية، والقرار بتصفية الشركة قريب جدًا، ويتم دراسة التعويضات التي سيحصل عليها العمال، وكيفية التعامل مع مديونية الشركة وأصولها.
وأضاف عضو النقابة السابق، إن كل ما تحتاجه الشركة هو 250 مليون دولار فقط، لعودة الشركة للإنتاج، مطالبًا المسؤولين في الشركة القابضة بإعادة دراسة قراراتهم جيدًا، لأن قرار التصفية بعيدًا عن حقوق العمال، سيؤدي لضياع صرح صناعي يصعب تعويضة.
كل ما تحتاجه الشركة هو 250 مليون دولار فقط، لعودة الشركة للإنتاج
ولفت إلي أن الشركة تنتج منتجات من الصعب أن يتم إنتاجها في أي مصنع أخر بمصر، مثل الكمر، ومربعات حديد التسليح في أنواع، الصاج المجلفن محتاج درجة حرارة معينة، خسارة كبيرة للدولة، أزاي يتم تصفية المصنع، والمصنع قابل للتشغيل في أي وقت.
وطالب عضو النقابة السابق، في حالة اتخاذ قرارًا نهائيًا بالتصفية، بالأخذ بعين الاعتبار ضرورة صرف تعويضات العمال، لاسيما أن العمال يمثلون 7 آلاف أسرة مصرية، ستتأثر بتصفية الشركة بشكل مباشر، مشيرًا أن هناك حالة كبيرة من القلق والتخوف في أوساط العمال، لأن الوضع ضبابي والشركة بتخسر بالفعل، ولكن لو وجدت إرادة حقيقة لأنفاذها سيتم ذلك.
اختتم الراجل حدثه قائلًا:” الأمر كله الأن بيد الشركة القابضة والحكومة المصرية، ونحن في انتظار ما سيحدث، لأننا الأن نواجه المجهول”.
محاولات الانقاذ
كانت زيارة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم محلب للمصنع في عام 2014، الأمل الأخير الذي تعلق به العامل لاستمرار شركتهم، فقد كانت الحكومة المصرية عازمة على تطوير الشركة ودفعها للأمام، لاسيما أن رئيس الوزراء أكد وقتها أن الدولة تنتوي علي عدم بيع الشركة أو تصفيتها.
بعدها تم تشكيل لجنة برئاسة المهندس شريف إسماعيل، بعضوية أعضاء من كلية الفنين العسكريين، أكدت اللجنة بعد دراسة وضع الشركة استحالة تطويرها، أو وقف نزيف الخسائر الذي يتزايد عامًا بعد أخر.
أكد الجهاز المركز للمحاسبات، عدم قدرة الشركة في الاستمرار، واستند في هذا علي عدة أسباب
وخلال العام الماضي 2019 دعت الشركة القابضة للصناعات المعدنية، التي تتبعها شركة الحديد والصلب، شركات عالمية لإعادة تطوير وتأهيل الشركة العريقة، وضخ استثمارات بها لإعادتها لسابق عهدها، لم تتلق الشركة القابضة سوى رد واحد من شركة “ميت بروم” الروسية، وهو الرد الذي لم يلق قبول الشركة القابضة للصناعات المعدنية، لأن العرض بعد دراسته غير مناسب.
فيما أكد الجهاز المركز للمحاسبات، عدم قدرة الشركة في الاستمرار، واستند في هذا علي عدة أسباب، مثل عدم قدرة الشركة سداد التزاماتها المالية، والتي وصلت قيمتها للموردين الرئيسيين، خلال عام 2019 لـ 5.4 مليار جنيه تقدر بحوالي 33 مليون دولار، منها 3.5 مليار جنيه شركة الغاز، 1.2 مليار جنيه لشركة الكهرباء، 462 مليون جنيه لشركة الكوك، و126 لصالح سكك حديد مصر.
القرار الصعب
بعد نزيف الخسائر الذي لا يتوقف، ومحاولات الانقاذ التي أكدت عدم جدوى التطوير، فإن كل المؤشرات تشير لقرب اتخاذ قرارًا بتصفية الشركة، لوقف الخسائر الذي قدرها البعض بـ 4 ملايين جنيه يوميًا خلال 3 سنوات الأخيرة، بحسب تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، إلا أن رئيس الشركة القابضة نفى في تصريحات صحفية، اتخاذ قرار بتصفية الشركة حتى الأن، في انتظار انعقاد الجمعية العمومية للشركة لمناقشة الوضع المالي.
تمتلك الشركة أراضي ضخمة ومساحات شاسعة بمنطقة التبين بحلوان، بالإضافة لـ 654 فدانًا بالواحات البحرية، إضافة إلى 54 فداناً مشتراه من الشركة القومية للأسمنت منذ عام 1979، وقطعة أرض بمساحة 45 ألف متر مربع بأسوان، تسوية نزاعها مع شركة الصناعات الكيماوية “كيما”.
بالإضافة إلى كميات ضخمة من الخردة تصل إلى 600 ألف طن، بالإضافة إلى جبل التراب الذي يحتوي على خردة تقدر بـ700 ألف طن، تقدر بحوالي 5 مليارات جنيه (310 ملايين دولار).