يشهد العالم الآن تحولات وجودية بسبب تداعيات انتشار فيروس «كورونا المستجد»، الذي يمكن اعتباره في عداد الأزمات العالمية الكبرى، وهي التحولات الجيوسياسية التي يرى المراقبون أن من شأنها إعادة تشكيل النظام العالمي لمصلحة الصين، ما سيؤدي في النهاية إلى إنشاء نظام دولي ثنائي القطبية، وانتهاء عصر «القطب الواحد» الذي تسيّدته الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
sss
في مقابل الفشل الأمريكي في التعاطي مع الجائحة العالمية، بينما كان العالم أجمع ينتظر من الولايات المتحدة الكثير، بحكم كونها الدولة الكبرى الأولى عالميا، هيمنت الصين على الساحة الدولية بشكل غير مسبوق، حيث أعلنت أمس الأول، الخميس، أنها قدمت حتى الآن مساعدات طبية ولوجيستية «عاجلة» إلى 89 دولة و4 منظمات دولية لمكافحة فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19).
قالت مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية في تقرير نُشر مؤخرا إن «وباء كورونا قد يؤدى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، حيث تناور الصين من أجل قيادة العالم في الوقت الذي يتداعى فيه دور الولايات المتحدة على المستوى الدولي».
مجلة «فورين أفيرز»: وباء كورونا قد يؤدى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي
وأضافت المجلة أن «التداعيات الجيوسياسية» لانتشار وباء كورونا على المدى الطويل مترابطة، لاسيما ما يتعلق بالوضع العالمي للولايات المتحدة، و الأنظمة العالمية تتغير بشكل تدريجي في البداية، ثم مرة واحدة يتغير الوضع الدولي برمته.
ففي عام 1956، كشفت «حرب السويس» في مصر، عن تراجع دور الإمبراطورية البريطانية، ونهايتها كقوة عظمى. ويجب على صناع السياسة الأمريكية أن يدركوا أنه لم تُحسن الولايات المتحدة مواجهة هذه اللحظة التاريخية، فإن وباء كورونا قد يمثل لحظة مماثلة لما حدث في «حرب السويس» تماما.
وليس ثمة مقارنة بين استجابة الولايات المتحدة لأزمة «كورونا المستجد»، واستجابة الصين التي نجحت بإجراءات شبه عسكرية في السيطرة على الفيروس، وقوضت المؤسسات الحكومية الأمريكية الأساسية، مثل البيت الأبيض ووزارة الأمن الداخلي، ثقة العالم في قدرة وكفاءة «العولمة” الأمريكية. كما أن تصريحات الرئيس دونالد ترامب وتغريداته، أثارت الشكوك، وأدت إلى «حالة عالمية من الارتياب».
«أوراق اعتماد» الصين
تحركت بكين بسرعة لاستغلال هفوات واشنطن. فالصين تعمل على ملء الفراغ لكي تتموضع كـ «قائد للعالم» على مستوى الاستجابة للوباء، حيث أدركت بكين أنّه إذا نُظر إليها عالميا على أنّها قائدة، وإذا نُظر إلى واشنطن على أنّها عاجزة أو غير راغبة في لعب هذا الدور، فيمكن لهذا التصوّر أن يغيّر بشكل أساسي موقع الولايات المتحدة في المشهد السياسي العالمي من جهة، والسباق على القيادة في القرن الحادي والعشرين من جهة ثانية. الفيروس، إذاً، يقدم «أوراق اعتماد» قيادة الصين الصاعدة للعالم.
في تقرير حاد اللهجة، يقطر مرارة ضد الإدارة الأمريكية، قال صوت الإذاعة الألمانية (دويتشه فيله): «على الرغم من أن انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19) قد بدأ من الصين، وبرغم الانتقادات المتكررة بشأن محاولاتها في البداية للتغطية على أخبار انتشار الفيروس في «ووهان» وفشلها في السيطرة على الأمر، إلا أنها حاليا تواجه الأمرين في الوقت الحالي باستراتيجية مبتكرة وهي التوسع في عمليات تسليم المساعدات إلى جميع أنحاء العالم، في الوقت الذين ينشغل فيه سيد البيت الأبيض بانتقاد الصحفيين وتوزيع الاتهامات على الجميع دون أن ينشغل حتى بعرض المساعدة على الآخرين».
في هذه اللحظات تنتظر عدة دول أوروبية دورها في الحصول على الملايين من الأقنعة التنفسية «الكمامات» القادمة من الصين، فيما يسافر أطباء وخبراء صينيون أيضاً حول العالم لتقديم المساعدة في محاربة الفيروس التاجي الجديد. لكن خبراء ومراقبون سياسيون أن حملة المساعدات الطبية الصينية ربما يكون لها دوافع «سياسية خفية».
ولم تكتف الصين بتقديم المساعدات لدول أوروبا وحسب، ففي الأسابيع الأخيرة من بدء انتشار الوباء عالميا، تبرعت بكين بمئات الآلاف من أجهزة التنفس واختبارات الفيروسات لكل من الفلبين وباكستان، كما أرسلت فرقاً طبية إلى إيران والعراق، وقدمت قرضًا بقيمة 500 مليون دولار لمساعدة سريلانكا في مكافحة الوباء. كما تلقت العديد من البلدان الأفريقية أيضا الدعم الصيني، فضلا عن تلقي «منظمة الوحدة الأفريقية» مساعدات طبية ضخمة من بكين.
من جهة ثانية، يرى البعض أن فيروس كورونا المستجد يهدد أيضاً استمرارية كيان سياسي بحجم «الاتحاد الأوروبي»، ذلك أن عدداً من الممارسات والقرارات التي اتخذتها عدة دول ألقت بظلالٍ من الشك على مدى جدوى استمرار هذا التكتل. ففي سابقة خطيرة صادرت جمهورية التشيك شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا. تقول حكومة التشيك إن الأمر وقع بالخطأ، وتعهدت برد الشحنة لإيطاليا، وهو ما لم يحدث!
ويتساءل المراقبون السياسيون: هل فشل الاتحاد الأوروبي عند أول اختبار له منذ نشأته؟ وهو سؤال يتردد حالياً على إثر انتشار كورونا في أوروبا وما نجم عن ذلك من انكفأ داخلي للدول الأعضاء في «الاتحاد الأوروبي»، وانحسار روح التضامن فيما بينها. باستثناء ألمانيا التي أبلت بلاء حسنا في مكافحة الوباء أوروبياً، ولم تنكفئ على نفسها كما فعلت معظم دول الاتحاد.
ك
ما فتح السباق الدولي لإيجاد علاج فعال ضد الفيروس، آفاقا أخرى لتغيير النظام العالمي، وعلى منوال التجارب الأمريكية والصينية والروسية، دخلت أوروبا بقوة على خط البحث عن لقاح للفيروس، حيث بدأت تجارب سريرية في 7 دول أوروبية على الأقل لاختبار 4 علاجات محتملة، وهي بلجيكا وبريطانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وإسبانيا وهولندا وألمانيا. وهو ما دفع الكثيرين للتساؤل: هل الهدف من سباق علاج كورونا هو البحث عن لقاح، أم أنه صراع سياسي بين الكبار؟
تغيير مسار «العولمة»
على المستوى الاقتصادي، بعد استعراض أوجه التغيير الدولي «الجيوسياسية»، وخلال بضعة أسابيع من ظهور «كورونا المستجد» في الصين خسرت الأسهم والسندات المدرجة في البورصات العالمية أكثر من 17 تريليون دولار، من بينها 7.2 تريليونات دولار خسائر الأسهم المدرجة في الولايات المتحدة وحدها. فهل كان الفيروس هو «المسؤول» عن كل هذه الخسائر الاقتصادية؟
يرى د. حسن أبو طالب، الباحث بـ «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية» في القاهرة، أن تمدد فيروس «كورونا» سوف يصاحبه نتائج اقتصادية كبرى على مسار «العولمة» الراهن، فحركة السياحة العالمية مرشحة للانكماش بنسبة لن تقل عن 8 إلى 12 في المائة، ومرشحة للزيادة إذا طالت الأزمة أكثر من ستة أشهر. ويعود التأثير الهبوطي إلى احتمال خروج حركة السياحة والسفر الصينية إلى مقاصد السياحة العالمية المختلفة، والتي وصلت إلى 277 مليار دولار عام 2018 من إجمالي إنفاق عالمي 1.7 تريليون دولار، بنسبة 16 في المائة. وهي نسبة كبيرة بكل المقاييس، ناهيك عن انخفاض نسبة السياحة الداخلية الصينية إلى أكثر من 50 في المائة حتى اللحظة.
د. حسن أبو طالب: تمدد فيروس «كورونا» سوف يصاحبه نتائج اقتصادية كبرى على مسار «العولمة» الراهن
ويمتد الأمر على المستوى الاقتصادي، أيضا، إلى الدور الذي تلعبه الصين في مجال استيراد النفط، والطلب العالمي مرشح للانخفاض، وبالتالي انخفاض الأسعار نتيجة قلة الطلب الصيني، وما يصاحبه من قلة الطلب العالمي الذي سوف يتأثر بانخفاض التصنيع المعتمد على قطع غيار مصنعة في الصين، وهكذا سوف تتأثر الاقتصادات المعتمدة على تصدير النفط، كما ستتأثر الاقتصادات المتداخلة بشدة مع الاقتصاد الصيني، صناعة أو تجارة، كالاقتصاد الروسي الذي بدأ يعاني بالفعل، في صورة انخفاض متوقع للنمو في حدود نصف إلى واحد في المائة.
أخيرا، يقول الكاتب والباحث عمر نجيب إن «من الصعب إيجاد تصور موضوعي عن الأبعاد العالمية أو الإقليمية والمحلية الكاملة لجانحة كوفيد 19، لأنه من أجل إنجاز ذلك يجب أن يكون قد تم حصر الوباء أو وقفه سواء بإيجاد دواء أو لقاح، ولكن الأمر المؤكد هو أن الأزمة ستترك بصماتها على العالم اقتصاديا وسياسيا وحتى عسكريا وستساهم في المساعدة على تشكيل نظام عالمي جديد يجرى الصراع من أجل تكوينه منذ سنة 2000، بعدما أعاد الرئيس فلاديمير بوتين روسيا إلى ساحة الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عمل في مراحل لاحقة بالتعاون مع الصين على الاطاحة بنظام القطب الواحد».