كان الطقس مفعما بالبرد القارس بينما تهب الرياح وهي تزمجر في مدينة “إنديانا بوليس ” وهي تحتفل بعيد رأس السنة عام 1978 ، وفي الوقت الذي كانت تستفيق فيه المدينة من بقايا ثمالتها بعد أن احتست الانخاب احتفالا بعامها الجديد ، كان مركز التدريس الإسلامي ، منهمكا في استقبال دعاة بارزين أتوا من منطقة الشرق الأوسط ، من بينهم عبد الله عزام ، البالغ من العمر 36 عاما والذي كان نجما صاعدا في جماعة الإخوان المسلمين فرع الأردن ، وفي مدينة إنديانا بوليس ، التقى عزام بشاب سعودي صغير ، و الذي يحمل اسما شهيرا الآن وهو أسامة بن لادن ، كانت لحظة تاريخية ، شهدت بدايات ظهور شبكة جهادية متشعبة في الولايات المتحدة الأمريكية .
نشرت مجلة “زي أتلانتك ” الأمريكية مقالا تحليليا مطولا للباحث البارز بمؤسسة الدفاع النرويجية توماس هيجغامر ، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة أوسلو والذي أكد أن لقاء عزام بابن لادن لم يكن مصادفة ، لقد أتيا إلى الولايات المتحدة ، لأنه بخلاف دول الشرق الأوسط ، سمحت لهم أمريكا وغيرهم من الإسلاميين بمباشرة الدعوة ، وجمع التبرعات و تجنيد الأتباع دون تدخل .
وقال هيجغامر وهو مؤلف كتاب “القافلة : عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي ” ، إن السيرة التي كتبتها عن عزام توضح أن الإسلاميين الراديكاليين استغلوا الأراضي الأمريكية في عقد الثمانينيات إلى درجة غير معهودة من قبل ، مؤكدا أنه وفي حقيقة الأمر كانت أمريكا من بين الأراضي الأكثر استضافة وترحيبا بتجنيد الجهاديين في العالم .”
بداية الحكاية
وأضاف :” لكي تفهم السبب ، علينا أن نعود إلى الحرب الأفغانية ، فبعد بضع سنوات من لقائها بمدينة إنديانا بوليس ، قام عزام و بن لادن معا بتأسيس مكتب خدمات ، وهو منظمة في بيشاور بباكستان ، والتي كانت تسعى إلى جلب مقاتلين مسلمين إلى أفغانستان ، وكان عزام ، بوصفه زعيم هذه المؤسسة ، يشطل رأس الحربة في قيادة جهد عالمي لجمع التبرعات وتجنيد الأفراد خاصة من دول الخليج والولايات المتحدة .”
شهدت صبيحة عيد الميلاد اللحظة التاريخية في لقاء عزام وبن لادن بأنديانا بوليس ، بداية شبكة جهادية متشعبة في الولايات المتحدة
وتابع :” على الرغم من أن مقر المنظمة كان في باكستان منذ 1981 ، فصاعدا ، إلا أن عزام أخذ يعبر المحيط الأطلنطي ، مرة واحدة على الأقل كل عام ، وبنهاية العقد كان قد زار نيويورك ، وتيكساس و كاليفورنيا و سياتيل و عديد من الولايات الأخرى بينها ، وكانت الرسالة واحدة دائما : وهي أنه يجب على المسلمين في أمريكا أن يقاتلوا في أفغانستان ، أو على الأقل يتبرعوا لصالح الجهاد ، لم يكن يتحدث في أقبية سرية تحت الأرض ، ولكن في أماكن مفتوحة وفسيحة ، مثل الرابطة الإسلامية للشاب العربي ، التي كانت عادة ما تضم مئات الأشخاص . “
وأردف الكاتب :” كان يقيم في شقق الأنصار المحليين من الشباب و كان يؤثرهم بطريقته الكاريزمية الخلابة ونمط حياته المتواضع ، ولكن السلطات الأمريكية صارت على وعي بهذه الأنشطة منذ أواخر الثمانينات ، بيد أنها لم تعتبر عزام بمثابة تهديد لها .”
المجلة و”الكفاح”
قام عزام قام في ديسمبر من عام 1984 ، بتدشين مجلة الجهاد ، والتي كانت تصدر شهريا باللغة العربية ، وذلك بهدف رفع الوعي بالقضية الأفغانية ، وفي غضون ثمانية أشهر ، تولى ناشر أمريكي ، يتمثل في المركز الإسلامي بتوكسون ، أريزونا، توزيعها و كان لها شبكة من المندوبين في جميع أنحاء البلاد ، كانوا يبيعون آلاف النسخ كل شهر وجعلوا من أمريكا واحدة من أهم الأسواق التي تنتشر فيها المجلة .
ولفت الكاتب إلى أن أنشطة عزام لم تتوقف عند هذا الحد ، ففي أواخر عام 1987 ، اقتربت جماعة من الناشطين في بروكلين من عزام باقتراح لتحويل منظمتهم التي جرى تأسيسها مؤخرا ، وهي مركز الكفاح لللاجئين ، كي تكون الفرع الأمريكي لمكتب الخدمات .
وشعر عزام بالسرور وكتب يقول في مجلة الجهاد :” شعرت بالسرور أن الأخوة فتحوا مكتب خدمات ، وعينوا محاميا ، وحصلوا له على رخصة حكومية و بدأ تنسيق رحلات إلى أفغانستان ، وقمت فتح حساب باسمي في بروكلين تحت رقم 016714446 ، ببنك “اندبندنس سيفنج ” فمن يرغب في إرسال شيك ، يمكن أن يرسله إلى مكتب الخدمات في بروكلين تليفون 7187979207 و أن يكتب اسمي ” دكتور عبد الله عزام “
وسرعان ما أقامت جماعة “الكفاح” فروعا إقليمية في أطلانطا و بوسطن و شيكاغو وتوسكون ، وكان لديها خط ساخن يعمل من شيكاغو والذي كان بوسع الناس الاتصال به كي يسمعوا نشرات إخبارية مسجلة عن الجهاد الأفغاني .
الجهاد الأفغاني
وأكد الكاتب أن هذه الجهود أتت ثمارها ، فمئات من المسلمين بجميع أنحاء أمريكا انضموا للجهاد الأفغاني ، حتى أن بعضهم أصبح شخصيات بارزة في الحركة الجهادية الوليدة ، وكان وائل جوليدان جامع التبرعات الرئيسي لصالح “مكتب الخدمات ” في بيشاور ، ومحمد بايزيد أصبح شريكا في تأسيس تنظيم القاعدة ، ووضيح الحاج ، انضم أيضا للقاعدة ، والذي واجه في وقت لاحق ادانة بتورطه في تفجيرات السفارة الأمريكية في تنزانيا عام 1998 ، لافتا إلى إن الأمريكان كانو يشكلون أقلية وسط الجالية العربية الأفغاينة ، ولكن مهاراتهم اللغوية و مستوى تعليمهم العالي أضفى إليهم أهمية تفوق حجمهم .
وتساءل الكاتب :” لكن كيف كان ممكنا أن تصبح أمريكا أرض مواتية للتجنيد “عناصر جهادية ” في صف صالح عزام ؟ ورد على السؤال بأن السبب الرئيسسي هو أن أمريكا وفرت حريات سياسية لا تضاهي ، فقد كان عزام و معاونوه يعتبرون نشطاء دينيين ، وهو ما كان يلقى مستوى عاليا من التسامح في الولايات المتحدة ، كما أن الحكومة لم تكن تعتبرهم تهديدا أمنيا ، لأن الإسلاميين السنيين ، لم يرتكبوا في ذلك الوقت أي هجمات إرهابية في الغرب .
وأضاف أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة ، إلى جانب باكستان ، التي تمكن فيها عزام من تأسيس فرع رسمي لمكتب الخدمات ، حتى المملكة العربية السعودية التي ، واقفت بشكل عام على جهوده ، لم تسمح له على الإطلاق بفتح مكتب بها ،بل و قامت في بعض الأحيان بإلغاء لقاءاته .
وأكد أن هناك دولا شرق أوسطية كانت أكثر عدائية ، فهو لم يتمكن إلا من زيارة السعودية والإمارات العربية والكويت والبحرين والأردن فقط في عقد الثمانينيات ، بينما رفضت الدول الأخرى دخوله إليها ، وأغلقت الأردن الباب في وجهه بعد عام 1984
بين أوروبا وأمريكا
ولفت إلى أن أمريكا كانت مقصده الملائم ، فبتأشيرة واحدة تستطيع دخول مجتمع كبير وثري و يتحدث لغة واحدة ، ولكن أوروبا على النقيض من ذلك كانت أكثر إرهاقا ، حيث تحتاج تأشيرة جديدة و لغة جديدة لكل دولة ، فقد زار عزام عدة دول أوروبية من بينها المملكة البريطانية و ألمانيا و إسبانيا و إيطاليا ، ولكنه لم يحاول على الإطلاق إقامة بنية تحتية أوروبية للتجنيد داخلها ، مثل تلك التي أسسها في أمريكا ،والتي ساعدت جماعة الإخوان المسلمين في أن تتمتع بحضور قوي في الولايات المتحدة ،خاصة في الجمعيات الطلابية الإسلامية .
واستشهد الكاتب على ذلك بأن الضيوف في الاجتماع الذي عقد في 1978 كانوا من الإخوان المسلمين ، و بحلول الثمانينيات ، تطورت الجماعة وتحولت إلى حركة لا تنتهج العنف ، ولكنها لا تتبع سياسة التهدئة ، وكانت تهتم وعلى نحو عميق بالمقاومة التي تساند تحرير المسلمين مثل تلك التي كانت تعمل في فلسطين وأفغانستان .
كان الجهاد الأفغاني في الثمانينيات “مشروعا ” فلم يستشعر أحد الخطر بشأن الأفغان العرب و الأمريكان الذين انضموا إليهم
وأكد أن خلفية عزام الإخوانية سمحت له بالاتصال بسهولة بالنشطاء عبر أمريكا خلال ذلك العقد ، قائلا :” نعلم من الوثائق المسربة أن عزام استحوذ على اهتمام مكتب التحقيقات الفيدرالي في عام 1989 ، لعلاقته بقضية طالب المدرسة العليا ذي الـ17 عاما في دالاس والذي ذهب إلى أفغانستان ، وفي آخر مايو 1989 ، قالت برقية سرية من مقر مكتب التحقيقات مرسلة إلى دالاس ، :” عمليات بحث مؤشرات المكتب لم تكشف عن معلومات تفيد بأنعزام و الجهاد الإسلامي أو المجاهدين حتى ، قد تورطو في تجنيد مرتزقة للقتال في أفغانستان ” ، وكان من المهم أن تضع الولايات المتحدة ثقلها في اهتمامها بأفغانستان على نفس الجانب كعزام ، فكل طرف وضع الجائزة نصب عينيه ، والتي كانت تتمثل في انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان ، فلما الاكتراث بمجموعة صغيرة من المتعصبين ممن ينضمون لحرب يدعمها الأمريكان أنفسهم ؟
نهاية الملاذ
وقال الكاتب لم يكن مقدرا أن يستمر ملاذ الجهاديين طويلا في أمريكا ، لأنه جلب معه العنف ، موضحا أن مصريا متطرفا قام في نوفمبر 1990 باغتيال المتشدد الوطني اليهودي مائير كاهانا ، وفي بداية عام 1993 ، فجر المتشددون سيارة مفخخة أسفل مركز التجارة العالمي مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص و إصابة ما يزيد على الألف بجراح ، بينما أحبط مكتب التحقيقات الفيدرالي في منتصف عام 1993خطة كان محتملا أن تكون أكثر فتكا والتي أدين فيها عدد من الإسلاميين المقيمين في الولايات المتحدة عام 1995 .
ولفت الكاتب إلى أنه جرى ، مع وقوع هذه الحوادث ، مزيد من التدقيق في الشبكات الجهادية بالولايات المتحدة ، والذي تحول إلى إجراءات صارمة فرضت عليها في أعقاب 11/9 ، مؤكدا أن أمريكا أصبحت اليوم واحدة من أكثر مناطق العالم عدائية للجهاديين .
انتهت قصة عزام وشبكته الأمريكية بنهاية مأساوية وتم تصفية “مكتب الخدمات ” في 1995
وأوضح السبب في أن الجميع كان ينظر على الجهاد الأفغاني في الثمانينيات كجهاد مشروع فلم يستشعر أحد الخطر بشأن الأفغان العرب و الأمريكان الذين انضموا إليهم ، “ولكننا رأينا هذا الخطر مجددا في المراحل المبكرة من الصراع في سوريا ، عندما ساند معظم المجتمع الدولي التمرد ضد نظام بشار الأسد ، فكل من الحكومات الغربية والإقليمية كانت في بداية الأمر مترددة في منع مواطنيها من الذهاب ، لأن القضية كانت تعتبر مشروعة ، ولكن بعد ذلك عندما رأت الدول الأرووبية الآلاف ينضمون لتنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات الإسلامية و الاعتداءات الخطيرة في الداخل ، اتخذت هذه الدول تدابير “أكثر صرامة ” ضد المقاتلين الأجانب .
وأشار إلى أن قصة عزام و شبكته الأمريكية اختتمت بنهاية سيئة له ، فقد اغتال جناة مجهولون عزام في أواخر عام 1989 في بيشاور ، وسرعان ما نشب الاقتتال الداخلي في مركز الكفاح والذي تصاعد مع اغتيال زعيمه مصطفى شلبي في 1991 ، بينما أغلق المركز في 1993 ، جرى تفكيك مقر مكتب الخدمات في 1995.
بينما سلك أسامة بن لادن مسارا مختلفا ، استمر في بناء تنظيم القاعدة ، ليعلن عن حرب شاملة على الولايات المتحدة ، و دبر هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، التي أفضت إلى الحرب على الإرهاب ، بجميع عواقبها المأساوية .