فيروس كورونا الذي لا يُرى إلا بالعين المجردة، أربك حسابات العالم، وأصبح حدثا عالميا يصعب تجاهله أو تخيل عواقبه التي وصفها محللون وخبراء بالوخيمة، حتما سيعيد هذا المخلوق صغير الحجم لا محالة إعادة رسم خريطة العالم.

sss

وتسبب كورونا، الذي ظهر في الصين أواخر العام الماضي، وانتشر في 147 دولة، إصابة أكثر من   450  ألف شخص حول العالم، توفى منهم أكثر من 20 ألف مصاب.

شراسةالفيروس وتوسعه،  في الهجوم الذي طال دولا كانت تصنف بالعظمى ولكنها لم تقوى على المواجهة، دعت محللين خبراء لعقد مقارنات  بين جائحة كورونا وأحداث عالمية أحدثت أثرا في الاقتصاد والسياسية الدولية، مثل انهيار جدار برلين مثلا الذي وقع في نوفمبر 1989،  عندما قرر الآلاف من شباب ألمانيا الشرقية تغيير مجرى التاريخ، واخترقوا الجدار بين الألمانيتي، وانهيار شركة ليمان براذرز،  عام 2008  والتي تسببت في الإفلاس الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، والأزمة المالية العالمية الطاحنة.

أزمة اقتصادية

أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 3 مارس2020 أن النمو الاقتصادي قد ينخفض إلى النصف في حال استمرار انتشار  كورونا، ما قد يدفع الاقتصاد العالمي إلى أسوأ حالاته منذ الأزمة المالية العالمية.

وقالت المنظمة في بيان لها، إن إجمالي الناتج المحلي العالمي سينمو بنسبة 1.5% فقط في العام 2020، إذا انتشر الفيروس على نطاق أوسع في جميع أنحاء آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، أي ما يقرب حوالي نصف معدل النمو البالغ 2.9% الذي كانت قد توقعته المجموعة لعام 2020 قبل انتشار الفيروس، الأمر الذي قد يدفع باليابان وأوروبا إلى ركود اقتصادي.

وقالت المنظمة،” في أفضل الأحوال، يصل الوباء إلى ذروته في الصين خلال الربع الأول ولا يتفشى سوى بحالات خفيفة في بلدان أخرى، سينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.4% فقط، أي في أضعف مستويات نموه منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2009، بعد أن بلغ النمو العالمي حوالي 3% في العام الماضي”.

ويقول لورنس بون، كبير الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إن الفيروس “يشكل خطراً على الاقتصاد العالمي الذي أضعفته التوترات التجارية والسياسية، ويتعين على الحكومات أن تعمل فوراً لاحتواء الوباء، ودعم نظام الرعاية الصحية، وحماية الناس، ودعم الطلب وتوفير حبل إنقاذ مالي للأسر والشركات الأكثر تضرراً”.

 

النفوذ الأميركي بحاجة لاستراتيجية جديدة:

يرى الأستاذ بجامعة هارفارد، جوزيف ناي جونيور، أنه يتعين على الولايات المتحدة الأميركية بلورة استراتيجية جديدة، وقال إنه في عام 2017 أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن استراتيجية للأمن القومي تقوم على التنافس الشديد بين القوى العظمى، لكن “كوفيد 19” أظهر فشلها، 

وأوضح “جونيو”في تدوينه له عبر تويتر:” أنه حتى في حال استمرت الولايات المتحدة قوة عظمى، فإنه لن يكون في وسعها حماية أمنها بالتصرف لوحدها”.

تراجع الانفتاح والنمو

 اعتبر أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، ستيفن والت، أن الجائحة ستقوي وضع الدولة وستعزز الانتماء الوطني، موضحاً أن الحكومات بمختلف ألوانها ستتبنى إجراءات طارئة لتدبير الأزمة، وأن العديد منها لن تكون مستعدة للتخلي عن السلطات التي أصبحت بين أيديها بعد مرور الأزمة.

ويرى والت في تحليل قدمته مجلتة” فورين بوليسي”:” أن فيروس كورونا سيسرع كذلك وتيرة انتقال النفوذ والتأثير من الغرب إلى الشرق، موضحا أن كوريا الجنوبية وسنغافورة أبلتا بلاء حسنا في مواجهة الوباء، وأن الصين فعلت كذلك لكن بعد أخطاء البداية.

وفي تقدير والت فإن الشيء الذي لن يتغير هو النزاعات التي تطبع السياسات الدولية، متوقعا أن يحدث تراجع في مستوى العولمة، وأن يشرع المواطنون في الالتفاف حول حكومات بلدانهم لحمايتهم، وأن تلجأ الدول والشركات لتقليص المخاطر التي قد تواجهها في المستقبل.

وفي المجمل يرى والت،  أن فيروس كورونا سيجعل العالم أقل انفتاحاً، وأقل نمواً، وأقل حرية.

بداية جديدة للعولمة

يتوقع مدير مركز “تشاتام هاوس” للأبحاث بلندن، روبين نيبليت، أن جائحة كورونا قد تكون القشة التي ستقصم ظهر البعير، لا سيما على مستوى العولمة الاقتصادية.

وقال إن كوفيد 19 يدفع حاليا الحكومات، والشركات، والمجتمعات إلى تعزيز قدراتها على التعامل مع فترات طويلة من الانطواء الاقتصادي الذاتي.

وأضاف نيبليت في تحليله الذي نشرته مجلة ” فورين بوليسي” أنه في ظل ذلك من المستبعد جداً أن يعود العالم لتبني فكرة الاستفادة المتبادلة من ثمار العولمة، التي طبعت بداية القرن الحالي.

 مضيفاً أنه في غياب ما يشجع على حماية الامتيازات المتبادلة من التكامل الاقتصادي العالمي، فإنه سيسهل العودة إلى تدابير الحوكمة الاقتصادية العالمية التي جرى اتباعها في القرن العشرين.

أما البروفيسور كيشور مهبوباني السنغافوري وعميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية، يتوقع أن يتسبب كوفيد 19 في تغيير بوصلة الاقتصاد العالمي، وأنه سيسرع تحولاً قد بدأ منذ فترة، والمتمثل في انتقال مركز العولمة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين.

مزيد من الاستقرار:

رأت شانون أونيل الباحثة المتخصصة بشؤون أميركا الجنوبية بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في تقييمها أن فيروس كورونا يقوض أسس الصناعة العالمية، متوقعة أن تعيد الشركات التفكير في تقليص تعدد خطوات وبلدان خطوط الإمداد والتوريد، التي تهيمن على الإنتاج اليوم.

واستحضرت في هذا الصدد أن خطوط الإمداد العالمية كانت تتعرض لانتقادات كبيرة بالفعل، لا سيما على المستوى الاقتصادي، بسبب ارتفاع تكاليف العمالة الصينية والحرب التجارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتقدم الحاصل في مجال الروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد، وكذلك سياسيا، بسبب فقدان الوظائف وصعوبة خلقها خاصة في الاقتصادات المتقدمة.

وتوقعت أونيل، أن يتسبب  كورونا في تقويض الروابط الاقتصادية، فإغلاق المصانع بالمناطق المنكوبة أدى إلى ترك المحال التجارية والمستشفيات والصيدليات بدون مخزون أو منتجات.

وتوقعت في التحليل الذي نقلته مجلة ” فورين بوليسي” عنها أن يدفع ذلك الشركات إلى أن تطلب المزيد من المعلومات عن مصادر إمداداتها مستقبلا، وأن تتدخل الحكومات كذلك في ما تعتبره صناعات استراتيجية لتأمين الدعم والاحتياطي للسوق المحلي. وخلصت إلى أنه سيؤدي كذلك إلى تحسن استقرار التموين، على حساب تراجع المكاسب.

وفي قراءته لتأثير فيروس كورونا، قال شيف شانكار مينون الدبلوماسي الهندي، إن ثلاثة أشياء تبدو واضحة رغم أن الحسم في ذلك سابق لأوانه، حيث يرى مينون أن وباء كورونا سيؤدي إلى تغيير سياسات الدول داخليا وخارجيا.

 مضيفا أن المجتمعات، وحتى عتاة المطالبين بالتحرر، وجدوا الملاذ في سلطة الحكومات، وتوقع أن النجاح النسبي للحكومات في التغلب على الوباء وآثاره الاقتصادية سيؤدي إمّا لتفاقم أو لتقليص الأخطار الأمنية والاستقطاب داخل المجتمعات، ليخلص إلى أن الحكومات استعادت بذلك مكانتها.

اختبار للأنظمة الديمقراطية:

رأى جون ايكنبيري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة برينستون، في قراءته للوضع الدولي بعد فيروس كورونا:” أنه على المدى القريب ستؤدي الأزمة الناشئة عنه إلى إذكاء الخلافات بين مختلف المعسكرات الأيديولوجية بالدول الغربية، متوقعا أن يحتدم النقاش بين القوميين ومعارضي العولمة، والصقور المتربصين بالصين، وحتى الليبراليين المدافعين عن العولمة.

وأضاف أنه بالنظر إلى التداعيات الوشيكة لأزمة كورونا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فإن العالم سيتجه نحو مزيد من الانكفاء القومي، والتنافس الشديد بين القوى العالمية، وكذلك العزلة الاستراتيجية، وما شابه.

وفي تقدير ايكنبيري فإن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية قد تلجأ في البداية إلى الانكفاء القومي، لكن على الأمد الطويل، ستجد نفسها بصدد تطوير شكل جديد من العولمة أكثر براغماتية ويوفر لها الحماية.

فهناك تطلعات بأن العالم بعد كورونا سيتغير على المستويين السياسي والإقتصادي عن ما قبل وباء كورونا، حيث تتباين آراء المفكرين حول العالم إزاء تداعيات كورونا على الدول والتكتلات المختلفة.