وجه ” صدِيّقة” الناعم بنظرة خائفة تتسلل اليه الكاميرا كما لو كانت تراقبها، لا توثق ما تفعله، أو تمنحها الحياة، ويلاحقها داخل الحي الصغير الفقير الذى تظهر منه تفاصيل حياة متواضعة أصحابها من المؤكد انهم يشعرون بالمعاناة رغم جمالهم، يصاحب الحوار المميز صورا لجثث ملقاة باهمال على أرض مسورة بأسلاك شائكة، وصياح مآساوى يكمل الفهم للمشاهد وان هناك مرضا منتشر لا حيلة للجميع لتحجيمه، حتي الممرضة الهادئة التي تلاحق المرضى على حد فهمها وتطرح الكثير من التساؤلات، كما لو كانت مهمتها القبض عليهم لا منحهم العلاج” ، الكثير من القصص المتداخلة التي تقربك من حالة اجتماعية على هامش وباء لا العكس.
sss
إشارة بالتليفون لعمدة كفر في قرية مصرية في أربيعنيات القرن الماضى تعلن: ” نظرا لانتشار حمى الملاريا، أيوة يعني الرعاش ياجهلة، يتنبه على جميع الأهالي التوجه للمركز للتطعيم” صوت أحد شيوخ القرية المتواجد مع العمدة :” البركة في العطارة والشافي هو الله ” كان المشهد السابق في فيلم الزوجة الثانية اخراج صلاح أبو سيف، يعد مرورا وحيدا عابرا على مرض الملاريا في السينما المصرية.
مشاهد بسيطة لسلك شائك وخيم من القماش بداخلها عددا من المصابين، وبعض المصابين يمدون اذرعتهم لأخذ جرعات من العلاج عن طريق الحقن، وأحد الأطباء فى الريف ينادي فى جمع من الناس ” ياناس البلد مهددة بوباء خطير إذا أسرعنا بمعرفته هاننقذ ألاف الأرواح”، ومن مشهد لاخر مشهد أخر ” دى الكوليرا أنا عارف أعراضها تفضل مرمي لوحدك وترجع بعد 6 أيام ” .
قدمت السينما المصرية عدد من الأفلام التي تناولت واقع عاشه المصريين من قبل، لكنها نأت بنفسها عن أفلام الخيال العلمي واحتمالات ظهور أوبئة ووضع سيناريو للتعامل معها، على غرار الأفلام فى السينما العالمية، والتي يتحدث الجميع عن تنبؤها بالأحداث، رغم انه من الأساس الخيال بطل الابداع ويمنحك احتمالات كثيرة للتعامل لا يشترط ان تكون تنبؤ بعينه.
عددا بسيطا من الأفلام المصرية لا يتجاوز الخمس أفلام تناول الأوبئة التي مرت مرور كبير على الحياة المصرية ورغم ذلك فقد مرت مرور الكرام على الشاشة، وجاء تناولها مغلفا بالصبغة الاجتماعية لأبطال الوباء، سواء عن تعايشهم الأساسي وعلى هامشه، الوباء يأخذ دورا ثانويا في تلك الاعمال ويقتصر على ” الكوليرا والملاريا “
الكوليرا ضربت مصر ثلاث مرات على مراحل مختلفة المرة الأولي كانت في 1883 واطلق عليه الشوطة – نسبة الى الأعداد الكبيرة التي كان يشوطها المرض- والمرة الثانية 1902 في التل الكبير بالشرقية، و في 1947 وانعزلت وقتها مصر عن العالم لارتفاع عدد الإصابات، ووصل عدد الوفيات الى أكثر من 10 آلاف شخص، فى حين غاب الطاعون الذى مر أيضا مرورا لا يمكن تجاهله بمصر، حيث لقى 200 ألف مصري لقى حتفهم عن طريق القوافل التي ربطت بين مصر وبلبيس في الشرقية، وقيل في بغ=عض الكتب التاريخية ان الطاعون حصد أعداد كانت تتناثر على أرصفة الطرقات بمصر، وكان يخرج عددا مهولا يوميا من الجثث في القاهرة ، كما عاد في عهد محمد على باشا بالإسكندرية كما ظهر مرة اخري في دمياط 1831 عن طريق سفينة آتية من بيروت، ومرة أخيرة في بور سعيد 1905.
التناول الإنساني للوباء كان على قمة تلك الاعمال، ولم يتطرق الى هويه المرض نفسه او تاريخ ظهوره، او أسبابه، أو علاجه، اكتفى بالبشر المعايشيين للحدث.
فيلم اليوم السادس كان أكثر الأفلام التي جعلت احد الأمراض الصعبة التي مرت على حياة المصريين بطلا يحرك الاحداث، ويتداعي على ألسنة الأبطال بكل المعتقدات تجاهه، وكان بطولة داليدا وحمدى أحمد ومحسن محى الدين ويروي قصة ” صديقة” التي تسببت الكوليرا في وفاة كثير من أفراد أسرتها، وتحاول انقاذ حفيدها الذى تمني رؤية البحر فتهرب به بمساعدة احد جيرانها الذى يحبها رغم فارق السن بينهما ويمثل لها الحماس والحياة والأمل.
فيلم ” صراع الأبطال” هو الاخر تناول الكوليرا وأسماها دون تجهيلها، من خلال طبيب يصل إحدى القري التي تعاني الفقر والجهل والمرض ولا يعرف الجميع ما السبب في وفاة ومرض عددا من سكانها، إلا أن هناك سببا اقتصاديا مرتبط بسيدة أرستقراطية تحاول استغلال الفلاحين بكل الطرق الممكنة ومحاربة طبيب القرية الذى ينبه لتفشى مرض ما.
أيضا فيلم ” عاصفة في الريف” الذى كان عملا مسرحيا قبل ان يتحول الى فيلم سينمائى لبطل واحد هو يوسف وهبي ويروى أيضا إصابات الكوليرا في أحدى القري المصرية ، في حين اكتفى فيلم ” شفيقة ومتولي ” بجملة على لسان بطلته ” سعاد حسني” وهى تتساءل عن كيفية الموت بالكوليرا في إشارة لمعاناة المصريين أمام استغلال وقمع وسرقة الأمراء والحكام لمصر في بدايات القرن التاسع عشر
اختلفت بالطبع تلك الأفلام في تناولها عن طبيعة التناول المرتبط بالفيروسات في العالم وكان التناول الإنساني الاجتماعي هو البطل .
يقول الناقد محمود عبد الشكور في تصريحات ل” مصر 360″ أن السينما المصرية لم يكن بها أفلام تتحدث عن الأوبئة كالخيال العلمي، لكنها حللت العلاقات الاجتماعية والخرافات التي تؤدى الى انهيار المجتمع من خلال تلك الأوبئة، كما حدث في فيلم ” صراع الأبطال” لتوفيق صالح، أيضا فيلم ” اليوم السادس” المأخوذ عن قصة حقيقية لانتشار الكوليرا في مصر 1946 والتي بدا من معسكرات الكامب الإنجليزي بالشرقية، ، يقول ” عبد الشكور” الفيلم لم يتحدث عن الوباء قدر حديثه عن فكرة الخرافات والجهل، وصراع السيدة الأرستقراطية التي تحاول إخفاء الحقيقة، ويواجهها الدكتور .
الصراع هنا بعيدا عن الوباء وان كان في قلب الحدوتة، أيضا ” اليوم السادس” وانتشار الكوليرا، قد يكون الهدف منه إظهار الصراع بين الحياة والموت من خلال ” صدّيقة” التي تمثل الموت و”أوكا” الذى يمثل الحياة وينتصر في الفيلم يوسف شاهين في النهاية للحياة ورغم موت الحفيد إلا انه يجعل الحياة تستمر.
يوضح ” عبد الشكور” ان السينما العربية والمصرية على الخصوص لا تحبذ الفيلم الأمريكي المرتبط بالخيال العلمي والكوارث واذا اقتربت من فكرة الوباء يصبح وسيلة لعرض أفكار مثل الجهل او الفقر او الصراع المجتمعي، فصناع الأفلام المصرية ليس لديهم الجرأة للعمل على تلك النوعية من الأفلام، وكان التناول الإنساني هو البطل في كل تلك الأعمال على اقليتها، وجميعها أحداث واقعية عاشها المصريين، كما حدث وكتب طه حسين في ” الأيام” التي تحولت الى عمل درامي عن الكوليرا وروي وفاة شقيقه في الواقع بنفس المرض والذى كان يعمل طبيبا، وهو ما يفسره ” عبد الشكور” ان الفن المصري يفضل الواقع على الخيال العلمي.
” أفلام الازمات” هكذا اطلقت عليها الناقدة ماجدة خير الله واعبترتها غير مفضلة في مصر، قائلة” الجمهور ينزل ليه يتفرج على كوليرا او طاعون” وهو ما يجعل الجمهور العربي والمصري تحديدا مختلف عن نوعية الجمهور في الخارج فخيال المواطن الغربي مختلف وقبوله مختلف، فالمشاهد العربي كما توضح يتعامل أحيانا مع الشاشة على انها واقع، فما كان من صناع الأفلام الا ان ينقلوا له واقعا حقيقيا معاش قبل ذلك.
في حين إرتأت ” خير الله ” أنه اذا عبرت السينما عن حادث أو انتشار وباء بعينه يحتاج الى توضيح لأبعاده بشكل جيد لانه يعد توثيقا .
وأردفت الناقدة الشابة “أروى تاج الدين” : لم يتم تناول اﻷوبئة في السينما المصرية سوى في فيلم واحد تقريبا وهو فيلم اليوم السادس للمخرج يوسف شاهين، الذي كانت تدور أحداثه في وقت اجتياح وباء الكوليرا لمصر، حيث أصيب حفيد البطلة بالمرض وكان عليها أن تراعاه لستة أيام حتى يشفى من المرض، ولكنه يموت في النهاية. واستطاع الفيلم أن يرسم لنا صورة لحالة الفزع والرعب التي أصابت الناس بسبب هذا المرض الذي لم يكن له علاج في ذلك الحين، خاصة وان المرضى كان يتمة إلقائهم في معسكرات معزولة حتى موتهم. كما جسد أيضا الفئة التي كانت تتكسب من هذا الوباء عن طريق اﻹبلاغ عن المرضى للفوز بالكافأة التي تمنحها الحكومة لهم. عدم تناول اﻷوبئة كبطل رئيسي مثل اﻷفلام اﻷجنبية راجع لغياب هذا النوع الفيلمي عن السينما المصرية فغالبية هذه الأفلام تندرج تحت نوع الخيال العلمي، وأعتقد أنه عدم إنتاج هذه النوعية من اﻷفلام في مصر راجع لتكلفتها العالية التي لا يستطيع أي منتج أن يغامر ويتحملها.