أسفل سقف خيمة بسيطة، في قلب الصحراء الأفريقية الممتدة، حلم الطفل الصغير بعالم لا يعرف العبودية، وعندما كبر وكبُرت معه أحلامه، طمح الفتى الأسمر بالوصول لقصر الرئاسة، والسير علي خطى مخلصين العبيد، أمثال مارتن لوثر كينج، ونيسلون مانديلا.
sss
“بيرام ولد الداه آعبيد” الذى حصل على لقب “محرر العبيد”، الذي كُتبت سيرته الذاتيه بعشرات اللغات، وذاع صيته في العالم كله، كناشط سياسي وحقوقي، يلتف حوله الألاف في موريتانيا، يحلمون معه بالتحرر من الرق وأثارالعبودية.
ولد “محرر العبيد” ، في جنوب موريتانية بمنطقة زراعية تسمى “شمامة” في عام 1965، ولحسن حظه أنه كان حر وهو في بطن أمه، لاسيما أنه ولد لأب محرر من العبيد وأم بسيطة يعملان في الأرض، التي يمتلكها السيد الأبيض بما عليها.
تمكن “بيرام” من استكمال تعليمه في ظروف صعبة للغاية، وعمل بالسياسة وناهض نظام العبودية المعمول به سرًا في بلده موريتانيا حتى وقتنا هذا، رغم وجود قوانين تمنعه ولكنها غير فعالة.
خاض محرر العبيد الانتخابات الرئاسية السابقة، ولكن لم يحالفه الحظ، ونجح في دخول البرلمان، والأن يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في موريتانيا.
حياة العبودية
محطات كثيرة في حياة ” بيرام آعبيد”، حولته لبطل قومي ومخلص ينتظره السود، ليخلصهم من مهانة وذل العبودية، فبحسب النظام الذي كان يعمل به في موريتانيا، تعتلي قمة النظام الاجتماعي، قبائل عربية بربرية وأمازيغية، تتحدث اللهجة الحسانية، وهي قبائل تمارس الاسترقاق إلى وقتنا الحالي بشكل مستتر.
تتخذ هذه القبائل عبيدًا لخدمتهم، والقيام بالأعمال المنزلية مثل جلب الماء والعناية بالأطفال والطبخ، وغيره من الأعمال الشاقة، لأنه طبقًا للأعراف والتقاليد القبالية، تعتبر هذه الأعمال مهانة، إذا قام بها أي فرد من أفراد هذه القبائل، ولذا تتخذ كل أسرة عبد أو اثنين، للقيام بهذه المهام الشاقة يعاملون معاملة العبيد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استغلت هذه القبائل والأسر، الفائض من العبيد وأسرهم، وأرسلتهم لاستصلاح الأراضي التي يمتلكونها، وفي موسم الحصاد يحضر السيد لأخذ المحصول، ويترك للأسرة ما يكفيهم بالكاد للأكل والشرب.
استغلت هذه القبائل والأسر، الفائض من العبيد وأسرهم وأرسلتهم لاستصلاح الأراضي التي يمتلكونها وفي موسم الحصاد يحضر السيد لأخذ المحصول
ولحسن الحظ أن “بيرام” أن والده عبد محرر، عتق واستقر في جنوب موريتانيا، للعمل في الأرض في منطقة تسمى “شمامة”، بنظام عمل يسمى “العبودية العقارية”، وهو نظام يقتضي أن تدفع الأسرة اتاوات مجحفة سنويًا، عبارة عن نسبة من المحصول الزراعي، لأسياد والده وأمه السابقين.
في هذه الظروف الصعبة للغاية ولد ” بيرام” الفتى الأسمر، الذي عاش وعاني ما يعانيه العبيد، في خيمة بسيطة للغاية، وكان يتنقل مع أسرته وعشيرته أينما وجد الماء والكلأ، يزرعون طوال العام، وفي نهاية الموسم يحضر السيد ليجني الثمار.
يبدو أن أثار هذه الحياة الصعبة، تركت بصمات وأثار عميقة في نفسية “بيرام”، الذي أطلق لأحلامه العنان لأبعد ما يكون، عندما تحدى كل هذه الظروف واستكمل تعليمه، وعمل في مضمار السياسة وترشح لرئاسة الجمهورية.
كفاحه للتعليم
كان حلم الحرية في قلب وعقل محرر العبيد يكبر كل يوم، ويذهب لأفاق بعيدة خارج خيمته الصغيرة، وهو ما يرى ممارسات السيد تجاه والده وأسرته، وكبر هذا الحلم وأصبح يقين، عندما علم من والده كيف تحولت جدته لأبيه لعبدة، عندما باعها زعيم ديني يدعى “الساموري توري” في سوق الرق، ولكن لحسن الحظ تمكن الأب من الحصول علي حريته.
تأثر “بيرام” خلال فترة دراسته الثانوية في فترة الستينات والسبعينات، بالنهضة الزنجية خلال فترة تحرر الشعوب الإفريقة من براثن الاستعمار الفرنسي والأنجليزي، وتابع عن كثب ما يحدث من تغير في نطاق محيطة الأقليمي والعالمي.
كان الفتى الأسمر من الذكاء، عندما تبني مواقف معارضة بشدة لحركة تسمى “الحر” وهي حركة تأسست في 1978 بموريتانيا، وكانت أول منظمة تهتم بقضايا العبودية في موريتانيا.
وكانت لدى الشاب الصغير أسباب منطقة لتبني هذا الموقف، أهمها أن ممثل هذه الحركة في بلدته، كان من ملاك العبيد ويمارس الاسترقاق، ويتبني مواقف تمثل مواقف البيض، بالرغم من أنه كان عبد سابق.
بعد معاناة طويلة حصل “بيرام” علي الباكالوريا عام 1985، من مدرسة في مدينة “روصو” بجنوب موريتانيا، وكان ذلك يؤهله للدخول الجامعة واستكمال تعليمه، إلا أن أحلامه باستكمال تعليمه تحطمت علي صخرة الفقر، لعدم قدرته علي دفع تكاليف الانتقال للكلية.
زاد من معاناته الشديدة حال أسرته المدقع في الفقر بعد أن كبر والده وأمه وانهكتهما العبودية
وزاد من معاناته الشديدة حال أسرته المدقع في الفقر، بعد أن كبر والده وأمه، وانهكتهما العبودية لدى السيد، الذي كان يحصل سنويًا علي محصول الأرض التي يزرعونه، ويعطي للأسرة ما يكفيهم بالكاد للعيش فقط.
تقدم “بيرام” بأوراقه للعمل “كاتب ضبط” في قلم محكمة، وانخرط في العمل النقابي والسياسي، وابتسمت له الأقدار عندما قًبل في الوظيفة عام 1987، وتحسنت أوضاعه المالية بعض الشئ بسبب وظيفته، وهو ما مكنه من استكمال حلمه بالالتحاق بالجامعة عام 1996، ليحصل علي ليسانس الحقوق.
وكانت هذه فقط البداية، فذهب للسنغال وحصل عي دراسات عليا في التاريخ، وبعدها حصل على شهادة في القانون الدولي، من المركز العالمي للقانون الانتقالي، وشهادة أخرى في القانون الدولي من جنيف، كل هذا خلال فترة عمله كموظف بالمحكمة والتي استمرت لمدة 12 عامًا فقط.
وفي هذه الأثناء لم ينس حلمه الكبير في التحرر من العبودية، ولأنه موظفًا عموميًا، وأفكاره تمثل خروج عن نظام الدولة، تم نقله تعسفيًا إلي مدينة “نواذيبو”، وهناك أسس حركة حقوقية تهتم بمنطقة “شمامة” التي ولد بها في جنوب موريتانيا.
أحراق فقه العبودية
بعد أن ترك عمله كموظف بسيط في المحكمة، تفرع لقضيته الأساسية، وهي قضية العبيد وتحررهم، وخاض الكثير من المعارك الحقوقية والسياسية، وبعد عدة محاولات ظهرت حركة “إيرا” في 2008، وهي الحركة التي لعبت دورًا هامًا علي الساحة الموريتانيا.
يقول “بيرام” عن الحركة:” كانت السلطات تهمل حقوق العبيد السابقين، والمهمشين والفقراء، ولذا حاولت أن أبعث حركة “الانعتاقية”، وهي حركة كان يعترف بها والدي، ولكنها اضمحت بسبب محاربة السلطة لها”.
وحركة الانعتاقية هي حركة زنجية تأسست في 1986 للدفاع عن حقوق الزنوج بموريتانيا، ووجه لها النظام تهمة دعم الانقلاب العسكري في عام 1987 وتم قمعها والتنكيل بأعضاءها لمدة تزيد عن ربع قرن، حتى تحولت لحزب سياسي في عام 2014.
عانى العبيد المحرريين بشدة، حتى بعد إلغاء الرق بمرسوم عام 1981، بفتوى دينية أصدرها عددًا من علماء الدين، ولكن ظلت الاسترقاق يعمل به سرًا، واكتفت السلطة بإصدار قوانين غير كافية لمنح العبيد حريتهم كاملة، ولذا فإن محرر العبيد كان هدفه، هو إلغاء العبودية بشكل نهائي والحصول على المساواة.
ولذلك اقبلت الحركة علي حرق مجموعة من أمهات كتب الفقه المالكي، في أحد الأسواق الشعبية على مرأى الجميع عام 2012، وبرر “بيرام” زعيم الحركة حرقها، بأنها دعوة لتجاوز الفهم الخاطئ للإسلام والعودة للإسلام الصحيح، الذي جاء ليحرر الإنسان لا لاستعباده.
لم تكتف حركة “إيرا” بهذا، بل نظمت مجموعة من الفاعليات المناهضة للسلطة المطالبة بالمساواة، والحصول علي حقوق العبيد كاملة، وتعرض أعضاء الحركة لاعتداءات عنيفة من الشرطة.
وبرر “بيرام” زعيم الحركة حرقها بأنها دعوة لتجاوز الفهم الخاطئ للإسلام والعودة للإسلام الصحيح الذي جاء ليحرر الإنسان لا لاستعباده.
أما “بيرام” فقد تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وعاش في غياهب السجون لفترات طويلة من عمره، ولفقت له عدة اتهامات مثل الاعتداء علي القوات، وتبني أفكارًا تمس الوحدة الوطنية، والتحريض على العصيان المدني، وقيادة منظمة غير مرخصة.
تركت تجربة السجن أثار كبيرة في نفس “بيرام”، وصقلت تجربته السياسية والحقوقية، وزادت خبراته القانونية، ليصل لمرحلة النضج السياسي، وهو ما مكنه من قيادة حركة “إيرا” التي ظلت تمارس دورها بفاعلية.
وكللت جهود الحركة عندما حصل رئيسها” بيرام” محرر العبيد، علي جائزة مدينة فايمر الألمانية، التي تُعتبر من أرفع جوائز حقوق الإنسان في ألمانيا، كما حصل عام 2013 على جائزة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان.
وصلت الحركة لقمة توهجها، عندما وقفت في وجه السلطة، ورشحت زعيمها “بيرام” لرئاسة الجمهورية في عام 2014، وبعد مارثون انتخابي حصل علي المركز الثاني، ولم يتوقف حلم محرر العبيد عند ذلك الحد، فدخل الانتخابات البرلمانية عام 2018 وتمكن من حجز مقعده.
يستعد محرر العبيد أو المخلص “بيرام”، لملهم للباحثين عن الحرية، لخوض الانتخابات الرئاسية في يونيو المقبل، ليكتمل الفصل الأخير في حلمه من الخيمة للقصر.