كان صوتها على خشبة المسرح، يثير في قلوب ملايين الأفارقة آمال عريضة، ويوقظ حلم العيش في عالم يسوده العدل والحرية والمساواة،زوبدون عنصرية؛ وكان صوتها هو القذيفة التىي تناضل بها في بلدها “بريتوريا” بجنوب أفريقيا.
إنها “مريام ماكيبا” المغنية والناشطة في مجال حقوق الإنسان، التي عزفت بصوتها نغمات كانت كالقذائففي مواجهة الظلم، وهدمت بها نظام عنصري، لتتحول لأيقونة بأفريقيا بأكملها، هي حاضرة في قلوب المناضلين والباحثين عن الحرية، وفي قلب كل أفريقي يحلم بعالم جديد، رغم أن الموت غيبها عن عالمنا في عام 2008، وهي تغني للحرية على خشبة المسرح بإبطاليا، عن عمر يناهز 76 سنة.
عاشت”ماكيبا”، من أجل وطنها بالفن، وحصلت على لقب “أم أفريقيا”، وهو اللقب الذي أطلقه عليها المناضل الأسطوري “نيلسون مانديلا”، الذي قال عنها” إن “ماكيبا” كانت سيدة للغناء في جنوب أفريقيا، وتستحق لقب أم أفريقيا، فقد كانت أم معركتنا وأم شعبنا الفتي”، وقال عنها أيضًا :” إن أغانيها حملت ألم المنفى والبعد الذي شعرت به طوال 31 عامًا، وموسيقاها اعطتنا شعورًا عميقًا بالأمل”.
عزفت بصوتها نغمات زعزعت حصون الطغاة، وهدمت نظامهم العنصري لتتحول لأيقونة أفريقيا
أما الولايات المتحدة فقد وصفتها بعد موتها بأنها “أسطورة الموسيقى”، وقالت الخارجية ألأمريكية في بيانها أن ” ماكيبا “كانت نجمة ألهمت جنوب أفريقيا خلال وبعد نضالها، لإنهاء الفصل العنصري، لتعود إلى جنوب أفريقيا الديمقراطية الفتية لتلعب دورًا ايجابيا بموسيقاها”.
ولدت “أم أفريقيا” في مارس 1932 في جوهانسبورغ عاصمة جنوب أفريقيا، لأبوين من عرقين مختلفين، وسميت “زينزي”، الذي يعني بلغة الزولو “لا تلومي غير نفسك”، وهو اسم كانت لها نصيبًا كبيرًا منه، فقد دفعت الكثير من أجل وطنها، بغنائها عن السياسة وليس عن العشق.
حياة في المنفى
دفعت “ماكيبا” ضريبة وقوفها في وجه النظام العنصري بجنوب أفريقيا، عندما وصل صوتها للقابعين على السلطة، وأزعج منامهم على سرايرهم الأثيرة فقرروا نفيها خارج بلادها، وبعدها جردوها من الجنسية.
قضت “ماكيبا”30 عامًا في المنفى، تناضل من أجل الحرية والمساواة، تقف بصوتها حائط صد لأغراض المستبدين، وبعد أن هدم صوتها حصون الاستبداد، عادت لوطنها بعد الإفراج عن “نيلسون مانديلا”، الذي أصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا.
بدأت رحلت الغناء في وقت مبكرًا جدًا، وهي طفلة صغيرة، بسبب جمال وقوة صوتها، في حفلات الزفاف التي تنظمها القبائل والعائلات في جنوب أفريقيا، وعندما نضجت وشاهدت مآسي الفصل العنصري، وما يرتكبه الرجل الأبيض ضد بني جلدتها، أطلقت صوتها لتغني للحرية لا للعشق والحب، لتدفع الثمن بطردها خارج البلاد، وتطلب اللجوء السياسي في لندن ثم ذهبت للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي بلاد العم سام عرفت “ماكيبا” الديمقراطية ومارستها، لتتحول سفيرا لبلادها ولكل أفريقي باحث عن حقه وحريته في وطنه، وغنت أغنيتها الشهيرة “باتا بات” التي كتبتها بنفسها، وحققت نجاحا كبيرا، فتحت لها أبواب الولايات المتحدة الأمريكية، لتنضم لفريق ” مانهاتن براذرز” ثم لفرقة “سكايلاركس” التي كانت تضم نساء فقط.
لتتحول لسفير لبلادها ولكل أفريقي باحث عن حقه وحريته في وطنه، وغنت أغنيتها الشهيرة “باتا بات” التي كتبتها بنفسها
فتحت لها أغانيها الحماسية والسياسية طريق المجد، وغنت أغاني تمزج بين موسيقى “البلوز والجاز”، وحققت أغانيها مثل “ذي كليك سونغ” و”مالايكا” شهرة واسعة، وأصدرة حوالي 30 أسطوانة، حكت فيهم قصة وطن اختطفه الفصل العنصري، وجمعت فيها قلوب الأفارقة علي قلب رجل واحد، فكانت أغانيها الأمل الذي يتسلل عبر بوابات السجون، لأعطاء الأمل للباحثين عن الحرية والمساواة.
وأمام أغانيا العاصفة التي تحولت لأداة هدم للعنصرية، منع نظام “بريتوريا” أغانيها في جنوب أفريقيا، ولكنها لم تستسلم أو تترجع، فصدر قرارًا بتجريدها من جنسيتها في عام 1961.
وبالرغم من ملاحقة النظام وأعوانه، إلا أن “ماكيبا” لم تتوقف، ليكون ما تعانيه من معاناة وتضيق، وقود لمعركتها السامية، لتغني مع النجم الأمريكي “هاري بيلافونت”، في عيد ميلاد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جون كندي عام 1962، ويستمر نجاحها الغنائي والتفاف الجماهير السمراء حولها، لتحصل علي جائزة “غرامي” عام 1966.
أم أفريقيا
وخلال فترة تحرر الشعب الأفريقي من الاستعمار الغربي، لم تترك”ماكيبا”، الغناء مناسبة استقلال في القارة السوداء، وإلا تغنت فيها بالحرية ليطلق عليها “مانديلا” لقبها المستحق “أم أفريقيا”.
ونظام “بريتوريا” كان يتألم كثيرًا بسبب أغاني “ماكيبا”، الذي اقتربت بقوة من “كارمايكل” زعيم حركة السود بالولايات المتحدة، فاعتبرتهما واشطن غير مرغوبًا فيهما، فلجأ الاثنين إلي غينيا عام 1973، وهناك عاشت مأساة جديدة، عندما ماتت أبنتها الوحيدة “بونجي”، التي انجبتها من زواج سابق وهي في سن السابعة عشر.
ولكن هذا لم يوقف حماستها، فكانت أغانيها للحرية والعدل والمساواة، تغنى في كل أنحاء العالم، وشاركت خلال فترة السبعينات والثمانيات في عدة مهرجانات، وقامت بجولة مع المغني “بول سايمون” علي مسارح أوربا، قبل أن تستقر في عام 1985 في بروكسيل لتعيش فيها.
عاشت أم أفريقيا مأساة جديدة، عندما ماتت أبنتها الوحيدة “بونجي”، التي انجبتها من زواج سابق وهي في سن السابعة عشر
وبعد رحلة مريرة من الكفاح، نشرت مذكراتها بعنوان “ماكيبا: قصتي”، التي وصفت فيها معاناتها وهي صغيرة من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكيف تجرعت مرارة الغربة بعد نفيها، وكيف استنشقت رياح الحرية علي مسارح أمريكا وأوربا، وهي تغني لقضايا وطنها بدون قيود، ورسمت في مذكرتها أحلامًا بالعودة.
وبعد 30 عامًا من الغربة، عادت لوطنها جنوب أفريقيا، قبل 4 أعوام فقط من نهاية نظام الفصل العنصري، لتنضم لكتيبة تحرير السود في بلدها، وتكتب بصوتها الفصل الأخير من معركة الفصل العنصري، والغريب في الأمر أنها عادة لوطنها بجواز سفر فرنسي، كان واحدًا من عدة جوازات، منتحتها لها دل أخرى، ختم بتأشيرة سفر لمدة 6 أيام فقط.
استقرت “أم أفريقيا” في الضحية الشمالية لجوهانسبورج، وأسست مركزًا لإعادة تأهيل المراهقات والمشردات، قبل أن تقوم بجولة في 2005، قائلة : “يجب أن أذهب إلى العالم لاشكره وأودعه، بعد ذلك سابقى في بيتي مثل جدة، وأريد أن ينثر رمادي في المحيط الهندي لأتمكن من الابحار مجددًا إلى كل هذه الدول”.
وفي عام 2008 ماتت علي أحد مسارح إيطاليا وهي تغني، بعد إصابتها بأزمة قلبية، وعادت لتدفن في وطنها الحر جنوب أفريقيا، ولفت بعلم بلدها، ومازالت أغانيها وكلماتها باقية تلهب حماس الجماهير الأفريقية ضد الاستبداد والظلم.