هدأت محركات الآلات عن العمل، واختفي طنين المصانع، ولازمت السيارات جراجاتها، وخيم الصمت التام على البحار، وعادت السماء لقاطنيها التقليديين من الطيور فقط، مع وضع نصف سكان العالم في العزل المنزلي والحجر الصحي، بسبب انتشار فيروس كورونا، ولزوم الجميع منازلهم.

sss

أصبح النفط أحد ضحايا الفيروس الفتاك بعدما ظهرت عليه الأعراض بتهاوي الأسعار بعدما سجل البرميل الذي يزن 159 لترًا سعرًا مساويًا لزجاجتيّ مياه فرنسية دارجة الاستعمال في الخليج العربي طوال الثلاثة أشهر الأولى من العام الحالي، مع حرق ملحوظ للأسعار بين المنتجين من أجل الاحتفاظ بالمراكز الأولى في صدارة الإنتاج العالمي فقط.

يمثل “كورونا” ضربة ثقيلة على رؤوس حركة الاستهلاك العالمي للمواد البترولية، فالإنتاج الصناعي العالمي شبه متوقف باستثناء المؤسسات المعنية بالجوانب الصحية، وسياسة البقاء في المنازل حرمت نصف المليار سيارة من وقودها، والمطارات لا تجد موضع قدم من تخمة الطائرات المتوقفة دون حركة.

يمر النفط حاليًا بفترة زمنية منذ أن أصبح أهم سلعة عالمية، فلم يسبق أن فقد 65% من قيمته في 90 يومًا، وسط موجة توقعات متشائمة بألا يتجاوز 40 دولاراً للبرميل على مدار العام الحالي في أحسن التوقعات رغم تقليص الإنتاج المستمر.
رغم مراهنة البعض على قرار منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ومنتجي الخام من خارجها (أوبك +) بتخفيض الإنتاج بنحو 10 ملايين برميل يومياً في الشهرين المقبلين وتحرك الأسعار بنحو 10% نحو الأعلى، إلا أنه لن يأتي ثماره في ظل تشبع أماكن التخزين في العالم.

استغلت غالبية الدول المستوردة هبوط الأسعار لما دون 20 دولارًا للبرميل، وخزنت طوال شهري فبراير ومارس الماضيين المواد البترولية في كل مكان سواء أكانت سفن البترول العملاقة المتوقفة بالموانئ أو “التنكات الضخمة” في المصانع، وحتى عربات النقل الضخمة لم تعد قادرة على استيعاب قطرة واحدة.

وفقًا لدراسة لـ”جولدمان ساكس”، المؤسسة الأمريكية الأكبر في تقديم الخدمات المالية والاستثمارية، فإن مخازن الملحقة بمحطات التكرير والمصافي (مجمعات صناعية عملاقة للبترول) والأنابيب وناقلات النفط وصلت إلى أقصى قدرتها الاستيعابية، وهو أمر لم يحدث منذ عام 1998، ما يعني أن الكميات المستخرجة لن تجد تصريفا أو تخزينا أو حتى مشترٍ.

وأعادت رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا التأكيد على تلك النقطة حينما قالت، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الروسية الرسمية، إن اتفاق “أوبك +” سيمنع المزيد من الانخفاض في أسعار النفط لكن الأسعار تعتمد على انتعاش الاقتصاد العالمي، فأي اتفاق مهما كان سيكون له تأثير على استقرار الأسعار فقط.

وتعاني أسعار النفط منذ توقف الإنتاج الصناعي في الصين أكبر مستورد في العالم، فمع إغلاق معظم أنشطتها الصناعية جراء انتشار العدوى بالفيروس تقلص استهلاكها اليومي الضخم البالغ 14 مليون برميل ومعه هوى الطلب العالمي في المجمل.
يقول البنك الدولي، في دراسة حديثة له، إن إجمالي الناتج المحلي العالمي سينمو بنسبة 1.5% فقط عام 2020 حال انتشار كورونا على نطاق أوسع بجميع أنحاء آسيا وأوروبا وأمريكا، أي ما يقرب من حوالي نصف معدل النمو البالغ 2.9% الذي كانت قد توقعته المجموعة لعام 2020 قبل اكتشاف وانتشار الفيروس.

لكن وكالةُ “ستاندر آند بورز للتصنيف الائتماني” (واحدة من 3 مؤسسات تصدر تقارير تدرس اقتصاديات الدول ومؤسساتها الكبرى) كانت أكثر تشاؤمًا حينما خفضت توقعاتِها لنمو الاقتصاد العالمي إلى 0.7% لعام 2020 بالكامل مقابل 1.5% قبل أسبوع واحد ما ينذر بواقع صعب للصناعة العالمية.

حرب الأسعار

تجاوز اتفاق “أوبك +” حرب حرق الأسعار بين كبار المنتجين (السعودية وروسيا وأمريكا) التي كثفت كل منها الإنتاج بصورة لا تتماشي مع توقعات بانخفاض لحجم الطلب بالسوق العالمية خلال أبريل الحالي إلى 20 مليون برميل يوميًا، بنسبة لا تتجاوز 20% من إجمالي الطلب المعتاد.
وظلت السعودية تنتج نحو 9.8 مليون برميل يوميًا حتى نهاية مارس قبل أن تقرر قلب الطاولة وتزيد الإنتاج إلى 12 مليون برميل يوميًا، بما يزيد عن 300 ألف برميل يوميا فوق طاقتها القصوى، وردت روسيا في المقابل بالإعلان عن إنتاج 500 ألف برميل إضافية، بينما وصل الإنتاج الأمريكي إلى أعلى مستوى في التاريخ متجاوز 13 مليون برميل.

وحافظت الرياض على نفوذها الدولي، بعد الوصول لاتفاق أوبك، فهي الأكثر امتلاكًا لفائض نفطي في العالم مع احتياطيات للطوارئ تسمح لها بتعزيز الإنتاج لتغطية أي عجز للدول الأخرى، واستطاعت أن تظهر للعالم أن احتلال أمريكا صدارة الإنتاج أخيرًا بفضل النفط الصخري أو محاولات روسيا لاحتلال الأماكن التقليدية التي تصدر إليها، مرهون بالإنتاج السعودي الذي يمكن أن يقلب المعادلة في أي وقت.

وتتحمل الأسواق العالمية في الوضع الطبيعي (قبل كورونا) نحو 91 مليون برميل يوميا، تنتج دول منظمة “الأوبك” 32.5 مليون برميل منها، بينما تنتج دول العالم الأخرى حوالي 57 مليونًا.

تعتبر الولايات المتحدة، التي وصل إنتاجها للمعدل الأعلى خلال فبراير الماضي بمستوى 13.1 مليون برميل يوميًا، الأكثر تضررًا من أسعار النفط الحالية، فإنتاجها من الحصول الصخرية هو الأعلى في تكاليف الاستخراج التي تصل وحدها لـ 35 دولارًا للبرميل، والأسعار الحالية (32 دولارًا) تجعل إنتاجه دون جدوى اقتصادية.

ويواجه منتجو النفط والغاز في أمريكا الشمالية أزمة ديون قياسية، فعليهم مديونيات مستحقة بــ85 مليار دولار حتى عام 2024، منها 5.3 مليارات دولار للعام الحالي، ما قد يضطرها إلى تسريح ما بين 1500 و3000 موظف، وفقا لوكالة التصنيف الائتماني “موديز”.

وارجع مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول الأسبق، الهبوط العنيف لأسعار البترول في الربع الأول من العام الحالي لانخفاض الطلب الذي تزامن معه “حرب السيطرة” بين روسيا والسعودية التي تهيمن على قرارات الدول المنتجة “أوبك”، وتضرر معها شركات الطاقة العالمية وأسواق الأسهم والاستثمارات الضخمة الموجهة لقطاع الطاقة.

تبدو المشكلة الرئيسية التي تواجه دول الخليج حاليًا في موازناتها العامة للعام الحالي التي قدرت فيها سعر للنفط بنحو 60 دولارًا للبرميل، وبالتالي من المتوقع أن يتسع العجز الأولى في تلك الميزانيات بصورة كبيرة (العجز الأول يمثل الفرق بين الإيرادات والمصروفات)، وما يفاقهم مشكلاتها اعتماد بعضها على سياسة التصدير لدولة واحدة فقط مثل سلطنة عمان التي تبيع ما يزيد عن 75% من إنتاجها النفطي للصين التي تقلص استهلاكها بصورة عنيفة.

ويؤكد يوسف أن الدول المستوردة للنفط هي المستفيد الأول من حرق الأسعار، ومن بينها مصر التي حققت مكاسب كبيرة من تلك المعركة، فتراجع سعر المواد البترولية عالميًا سيخفض قيمة الواردات المصرية من النفط ما يحسن الميزان التجاري ويقلل الطلب على الدولار الأمريكي ويخفف أيضًا الضغط على الموازنة العامة للدولة..

وانخفضت قيمة الواردات المصرية من المنتجات البترولية خلال 2019 بنسبة 23.4% لتسجل 9.429 مليار دولار في مقابل 12.313 مليار دولار خلال 2018، بفضل توقفها عن استيراد الغاز المسال وضخ إنتاج الحقول الجديدة في شرق المتوسط وفي مقدمتها “ظهر”.

أوضاع ملتبسة

لكن ذلك لا يعني عدم وجود متضررين في مصر من هبوط الأسعار، كمعامل التكرير المصرية التي تعتمد على استيراد جزء من احتياجاتها من النفط من الخارج وإضافة قيمة مضافة عليها ثم إعادة تصديرها، وبالتالي تتأثر سلبيا نتيجة تلك التذبذبات، فأرباحها الجيدة تحدث عند ثبات الأسعار بوجه عام، وحال زيادة الأسعار بوتيره منتظمة تتعاظم المكاسب والعكس صحيح.

يقول يوسف إن انعكاس تخفيض أسعار المواد البترولية على المواطن المصري لن يظهر سريعًا لاعتماده على عدة عوامل، أولها المخزون النفطي المشترى قبل فترة تراجع الأسعار، وعمولة شركات التسويق ومقدمي الخدمة في محطات تموين السيارات وتكلفة التكرير والنقل والتخزين والتداول والضرائب في بعض المنتجات البترولية.

وفقًا لبنك الاستثمار “برايم” فإن تراجع أسعار البترول العالمية، سيكون له أثرًا سلبيًا على إيرادات الموزانة العامة، فيما يتعلق بمكاسب قطاع البترول المحصلة في صورة ضرائب وأرباح موزعة والمقدرة في العام الحالي بنحو 91 مليار جنيه.

يعترف بتلك التأثيرات وزير المالية محمد معيط، الذي أكد في تصريحات صحفية، أن انعكاس الخفض جيد على الموازنة العامة للدولة فيما يتعلق بمخصصات البترول، لكنه يضر بتحويلات المصريين من الخارج، وإيرادات قناة السويس ورسوم الطيران.

وبلغت تحويلات المصريين بالخارج نهاية 2019 نحو 25.2 مليار دولار مقابل نحو 26.4 مليار دولار خلال العام قبل الماضي، وسجلت إيرادات قناة السويس 5.8 مليار دولار مقابل 5.7 مليار دولار خلال الفترة المقارنة ذاتها.

ويعني تهاوي أسعار النفط العالمية توقف الشركات التي تعمل بمجال الحفر والاستكشاف فهوامش أرباحها ستنخفض لأنها تحصل على هامش الربح من بيع حصتها في الإنتاج والسعر العالمي، ويعني توقف نشاط البحث والاستكشاف أن يتراجع الإنتاج خلال 4 أو 5 سنوات المقبلة، وحدوث فجوة بين الإنتاج والاستهلاك.

ويقول المحلل المالي نادي عزام إن مستقبل أسعار النفط مرهون بصفقات سياسية سيتم التوصل إليها كبار منتجي النفط لمنع انهيار الأسعار والوصول للسيناريو المتشائم بشان هبوطها لمستوى يقترب من الصفر فالأمر لا يتعدى حاليًا محاولة المنتجين الكبار لفرض كلمتهم على السوق فقط.

ويرجح عزام أن يستقر النفط عند مستوى 40 دولارًا للبرميل لكنه لن يكون كافيًا لطموحات المنتجين في أمريكا التي ترى السعر المناسب لا يجب أن يقل عن 60 دولارًا للبرميل.

وتظل صناعة النفط حاليا معلقة بأحبال جهود احتواء انتشار وباء كورونا، وعودة العالم لما كان عليه قبل انتشار الوباء، وستظل على المدى المتوسط تعاني من تذبذب الاسعار والخسائر القياسية التي تعاني منها أسهم الشركات المنتجة للنفط في البورصات المحلية والعالمية.