بابتسامة عريضة ووجه بشوس، وملامح أفريقية بارزة، كانت تمتد يده حانية، على الفتيات والسيدات، اللآتي تعرضن للاغتصاب والعنف الجسدي في الكونغو، التي أنهكتها الصراعات والحروب والإبادات العرقية، ليستحق أن يطلق عليه لقب ” ملاك بوكافو”.
sss
أنه طبيب النساء الكونغولي “دينيس موكويغي”، الذي عمل لسنوات طويلة، في ظروف استثنائية، تمكن خلالها من مساعدة وعلاج 50 ألف سيدة، تعرضن لاغتصاب جماعي وعنف، علي يد المليشات والأعراق المتناحرة.
وهو ما تسبب في تعرضه لعدة محاولات قتل واختطاف لابنته الصغيرة، بسب أفكاره المناهضة للعنف ضد النساء، ومطالبته بحمايتهن بحل سياسي يوقف الحرب، ومطالبته حكومته “الكونغو” بضمانات لوقف هذه الممارسات.
وإذا كانت أفكاره وجهوده عرضته لحوالي 6 محاولات اغتيال، فإنها كانت كافية، لفوزه بجائزة “سخاروف” لحرية الفكر، في عام 2014، وفوزه بجائزة نوبل للسلام في عام 2018.
مساره التعليمي وتعاليم اللاهوت
يبلغ “موكويغي ” 65 عامًا الآن، ولد في مارس عام 1955، في أسرة متوسطة، وكان والده قس إنجيلي، وهو ما جعله يتلقى تعاليم اللاهوت في سن مبكرة، ربما أثر ذلك فيما بعد في شخصيته، ومسيرته المهنية بشكل واضح، من خلال مناهضته للعنف، وحبه مساعدة الآخرين والعمل التطوعي.
تمكن من مراكمة مسار تعليمي ودراسي مميز، رغم الظروف الصعبة التي تمر بها بلده الكونغو، التي عانت من مساوئ النظام العسكري، والحروب والنزاعات العرقية.
وكانت البداية عندما حصل علي شهادة في الكمياء الحيوية في عام 1974، بعدها أكمل تعليمه بالتحاقه بجامعة كينشاشا للعلوم التطبيقية وظل بها لمدة عامين فقط.
تمكن من مراكمة مسار تعليمي ودراسي مميز رغم الظروف الصعبة التي تمر بها بلده الكونغو
ولكن الدراسة بها لم تتوافق مع ميوله العلمية، فالتحق بكلية الطب في بوروندي عام 1976، وتخرج منها بعد سبع سنوات في عام 1983، التحق للعمل بمستشفى بجنوب بوكافو.
لم يتوقف طموحه العلمي عند هذا الحد، وخلال عمله في المستشفى، تأثر كثيرًا بحالات العنف الجنسي، التي تتعرض له النساء المغتصبات، وعندما حصل علي منحة للدراسة بفرنسا، تخصص أمراض النساء.
سافر ” موكويغي” لبلاد الجن والملائكة فرنسا، وهناك تمكن من الأطلاع علي الأساليب الحديثة، في أمراض النساء، وكان يراقب بكثب ما يحدث في بلده الكونغو، التي أنهكتها الحروب والصراعات.
سلاح الاغتصاب
رفض الطبيب الذي يمتلك خلفية دينية، الهروب من ساحة الميدان، والاكتفاء بدور المشاهد من برج عالي، علي ما يتعرض له النساء والفتيات في بلده، وخاض تجربة خاصة وفريدة، جعلته واحدًا من أهم الشخصيات في بلده.
كان من الممكن البقاء في فرنسا بعيدًا، ولكنه اختار العودة إلي بلده، وتحديدًا في “بوكافو” شرق الكونغو، وأسس بهذه القطعة الملتهبة بالصراع مستشفى “بانزي” في عام 1999، ولهذا التاريخ أهمية خاصة في تاريخ أفريقيا.
فقد تحولت الكونغو لساحة حرب أفريقيا، في عام 1998، شاركت فيها 8 دول ومليشيات مسلحة، بالحرب المباشرة أو بالوكالة، عرفت باسم حرب الكونغو الثانية، وكان لمدينة ” بوكافو” دور هامًا فيها، لاسيما أنها تقع علي الحدود الشرقية، مع رواندا أحد دول الصراع.
استخدمت المليشات المسلحة “الاغتصاب” كسلاح حرب، ووصفت الكونغو وقتها بأنها عاصمة الاغتصاب في العالم، ولاسيما المنطقة الشرقية، وهو ما يكشف لماذا اختار ” ملاك بوكافو” تأسيس مستشفاه في هذه المنطقة.
استخدمت المليشات المسلحة “الاغتصاب” كسلاح حرب ووصفت الكونغو وقتها بأنها عاصمة الاغتصاب في العالم
لم يكن “موكويغي” وعائلته والعاملين معه، بمنأى عن هذه الحرب الضارية، فقط تعرض لأكثر من محاولت اغتيال، وصل عددها إلي 6 محاولات، فكان يعالج النساء اللآتي تعرضن للاغتصاب الجماعي الوحشي، تحت صوت الرصاص والانفجارات.
تمكن الطبيب وفريقه الطبي، من علاج ما يزيد عن 50 ألف سيدة، من آثار الاغتصاب الجماعي العنيف، اللآتي تعرضن له علي يد الميليشات، بالتزامن مع العلاج الجسدي، قدم لهن علاج نفسي واجتماعي، حتى أطلقوا عليه لقب “ملاك بوكافو”.
تأثر الطبيب “موكويغي” بشدة من وحشية الاغتصاب والعنف، الذي تعرضت له النساء، والمشاكل الجسدية التي تعرضن لها وبشعته، لاسيما أن الاغتصاب كان يطال الأطفال والرضع منهم.
بشاعة ما رآه الطيب وفريقه المعاون، جعله يصف سلاح الاغتصاب، الذي استخدمته الميلشيات المسلحة، بأنه أخطر من السلاح النووي، ليتحول من طبيب معالج لحقوقي مدافع عن النساء.
محاولة قتله
وعندما ذهب للأمم المتحدة في عام 2012، ألقى خطاب عنيف اللهجة، ندد فيه بجرائم الاغتصاب التي تحدث في الكونغو، تحت مرأى ومسمع العالم.
وعاتب حكومات الكونغو والدول المتحاربة، والمجمتع الدولي علي صمته علي هذه الممارسات الممنهجة، وعدم تحركها لمساعدة الضحايا.
في اللحظة التي كان يلقي الطبيب خطابه، كان يرى أمامه المناظر البشعة، التي تصف بشاعة ما يتعرضن له النساء، في حروب لا طائل لها منها، ولا ذنب لهن سوى أنهن نساء وضعتهم الحروب في هذه الحرب القذرة.
أحرج الدول المتناحرة والمليشيات في الكونغو فتعرض لمحاولة اغتيال وتصفيه له ولأسرته بمنزله
يبدو أن بشاعة ما كشفه الطبيب المتخصص، الذي يمتلك سمعة طيبة، أحرج الدول المتناحرة والمليشيات في الكونغو، فتعرض لمحاولة اغتيال وتصفيه له ولأسرته بمنزله.
نجا “موكويغي” وأسرته بأعجوبة من الموت، وتعرضت ابنته للاختطاف، وكان شرط ضمان سلامته وأسرته خروجه من الكونغو، فاختار السفر إلي فرنسا.
وفي هذه البقعة البعيدة الآمنة بقلب أوروبا الديمقراطية، ظل يفضح ممارسات الاغتصاب بالكونغو، وممارسات المليشات المسلحة ضد النساء، حتى توقفت الحرب في 20013.
فوزه بجائزتي “سخاروف” والأمم المتحدة
ورغم المخاطر الكبيرة التي تحيط به، فقط اختار العودة إلي بلده الكونغو، في العام الذي توقفت فيه الحرب مباشرة، بعد أن نظمت النساء، احتجاجات مطالبة بعودته، وصل الأمر لاكتتاب لجمع ثمن تذكرة عودته وأسرته، ليستقبله الآلاف في المطار إلي مقر إقامته.
جهوده الكبيرة لمساعدة ضحايا الاغتصاب، إبان فترة الحرب الأهلية بالكونغو، جعلته يفوز بلا منازع، بجائزة التضامن البلجيكي في عام 2014، المعروفة بجائزة “سخاروف” لحرية الفكر.
كان ” موكويغي” يعتبر دراسة الطب، والحصول علي الوسائل الحديثة، هو سلاحه الوحيد لمواجهة سلاح الاغتصاب، فاستكمل مسيرته الدراسية، وحصل درجة الدكتوراه في العلوم الطبية من جامعة بروكسيل في 2015.
حنظمت النساء احتجاجات مطالبة بعودته وصل الأمر لاكتتاب لجمع ثمن تذكرة عودته وأسرته ليستقبله الألاف في المطار إلي مقر إقامته
وظل يمارس عمله من خلال مستشفاه الذي أنشأه، لعلاج ضحايا الاغتصاب والعنف الجنسي، ومناهضة الزواج المبكر، والممارسات الجنيسة الخاطئة ضد النساء، حتى وقع عليه الاختيار بالفوز بجائزة نوبل للسلام في عام 2018.
قال وهو يتسلم الجائزة في أوسلو :” “ليس مرتكبو العنف وحدهم المسؤولين عن جرائمهم فحسب، إنما أيضًا من يختارون أن يغضوا الطرف”، ليحمل الجميع مسؤولية ما حدث ويحدث، ومازال “ملاك بوكافو” يداوي نساء الكونغو، دون أن يتراجع أو يخشى منتقديه.