استغلت الجماعات المتطرفة على مستوى العالم، سواء “الجهادية” الشرق أوسطية منها أو المنضوية تحت لواء اليمين الأوروبي، الظروف غير العادية التي فرضها تفشي وباء كورونا، لإعادة ترتيب صفوفها وبث شائعات مغلوطة عن الجائحة العالمية، خاصة في ظل انشغال الأجهزة الأمنية بفرض حظر التجول لمكافحة الفيروس، ما أوجد مناخًا أمنيًا واجتماعيًا مواتيًا لعودة ظهور تلك الجماعات في مناطق نفوذها السابقة، وكشف في الوقت نفسه عن تنامي أشكال جديدة من التطرف عززتها الجائحة بقوة، من قبيل “نظرية المؤامرة” ذات الطابع الدولي.

sss

أعاد تنظيم “داعش” تشكيل “محاكم شرعية” جديدة، في القرى والبلدات العراقية التي لا تتمركز فيها القوات الأمنية، كما أعاد التنظيم فرض الإتاوات على المدنيين، وشن مسلحو “داعش” الثلاثاء الماضي، هجومًا على قوات “البيشمركة” الكردية في بلدة “كولجو” التابعة لمحافظة السليمانية، مما أدى إلى مقتل عنصرين من “البيشمركة” وإصابة آخرين.

وزير قوات البيشمركة: تنظيم “داعش” أعاد ترتيب صفوفه في المناطق التي تشهد فراغًا أمنيًا بسبب الغياب الأمني، خاصة المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد

وقال شورش إسماعيل، وزير قوات البيشمركة الكردية، في تصريحات، إن تنظيم “داعش” أعاد ترتيب صفوفه في المناطق التي تشهد فراغًا أمنيًا بسبب الغياب الأمني، خاصة المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد، معربًا عن أسفه لعدم التمكن من التنسيق مع القوات العراقية، الأمر الذي أدى إلى خلق “فرصة ذهبية” بالنسبة للتنظيم لكي يعمل في تلك المناطق.

وأكد إسماعيل أن “داعش” فرض الإتاوات، وأعاد تشكيل محاكم يُعاقب فيها الناس، إضافة إلى حصوله على دعم من جهات، مع تمكنه أيضًا من توفير العائدات المالية لمقاتليه الذين عادوا لاستلام رواتبهم بانتظام، رغم الجائحة العالمية. 

مسمار في “نعش أوروبا”

بدأت الجماعات اليمينية في أوروبا منذ تفشي وباء كورونا، في بث أخبار وخرافات ومعلومات مضلّلة، على المستويات كافة، الصحية والاجتماعية والسياسية، وذلك سعيًا لتوظيف هذه الأشياء المغلوطة بشتى الطرق الممكنة لمصالحها الخاصة.

 

ورصد مكتب تابع لـ “خدمة العمل الخارجي الأوروبي“، وهو جهة رسمية معنية برصد حملات التضليل المتعمدة الموجهة ضد الاتحاد الأوروبي وتفنيدها، خلال الآونة الأخيرة، عددًا من الأخبار التي تتعلق بوباء كورونا والتي لا أساس لها من الصحة، حسب بيان للمكتب صدر قبل أيام، وذلك من قبيل أن فيروس (كوفيد-19) مصنع مخبريًا في الصين، أو أمريكا، أو بريطانيا، أو روسيا، أو حتى في مختبرات حلف “الناتو” العسكرية، فضلا عن شائعات مغلوطة من قبيل أن المهاجرين يساهمون في جلب ونقل وتفشي العدوى بالفيروس في القارة الأوروبية.

رصد «تريندات» محلية وعالمية على مواقع التواصل للأخبار المضلّلة تم ترويجها من قبل الجماعات اليمينية، أن الفيروس تم تخليقه مخبريًا ونقله بواسطة الجيش الأمريكي إلى مدينة “ووهان” الصينية

وذكر المكتب الأوروبي أنه رصد مؤخرًا «تريندات» محلية وعالمية على مواقع التواصل الاجتماعي للأخبار المضلّلة التي تم تداولها وترويجها من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة في بلدان مثل بريطانيا والسويد وإيطاليا والمجر، بأن الفيروس ليس طبيعيًا، بل تم تخليقه مخبريًا نقله بواسطة الجيش الأمريكي إلى مدينة “ووهان” الصينية.

وعلى الرغم من قيام المكتب الأوروبي بتفنيد كثير من هذه الأخبار في بيانه، إلا أنه في خضّم الانقسام الكبير الحاصل في البيت الأوروبي بشأن الآليات الواجب إتباعها لمواجهة الأثر الاقتصادي لتفشي الوباء، استغلت قوى اليمين الأوروبي في كل من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، في حملات إعلامية لا تخلو من التضليل والتهويل، الخوف الجماهيري من تفشي كورونا، وذلك بهدف تمرير أجنداتها السياسية على جبهتين؛ الأولى استغلال الموقف المتخبط وغياب الرؤية الموحدة لأعضائه للدفع بسياستهم المعادية للاتحاد الأوروبي إلى الأمام، خصوصًا في ظل فشل دول الاتحاد في التضامن معًا لمواجهة الوباء، ما تعتبره هذه الجماعات مبررًا قويًا لإنهاء الوحدة الأوروبية. 

وذكر تقريرًا أمنيًا صادرًا عن مكتب الأمن الداخلي في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، أنَّ “أنصار الجماعات المتطرفة المحلية والدولية شجعوا أتباعهم على شن هجمات في أثناء جائحة كوفيد-19؛ لبث الذعر، والتحريض على استهداف الأقليات والمهاجرين، والاحتفال بوفاة أعدائهم”.

ويرى المراقبون السياسيون أن “الحملات الدعائية” الروسية والصينية الضخمة، المرافقة للمعونات الطبية التي قدمتها كل من موسكو وبكين لإيطاليا وإسبانيا تحديدًا، عزّزت من ذلك الاتجاه اليميني المتطرف في الأوساط الشعبية الأوروبية، وأنها كانت فرصة سانحة لم يفوّتها اليمين الأوروبي لبث رسائل جماهيرية حول “جدوى اتحاد انكفأ أعضاؤه داخل حدودهم الوطنية في مواجهة الجائحة، بدلًا عن التوحد في مواجهتها”.

ويعتبر المعسكر اليميني المعادي لفكرة “الاتحاد الأوروبي من الأساس، والداعي للخروج منه، والانكفاء على الذات الوطنية لكل دولة على حدة، أن الانقسام الحاصل في ظل تفشي فيروس «كوفيد-19» إنها هو بمثابة مسمار جديد في نعش الاتحاد الأوروبي.

 

من جهة أخرى، استغل المعسكر اليميني فرصة تفشي الوباء لمهاجمة الأقليات غير البيضاء في أوروبا، والمهاجرين منهم بشكل خاص، والذين يشكل العداء لهم الرافعة السياسية لبرامج هذا الخط السياسي. فقد دعا بأن تفرض حكوماتهم ضوابط صارمة على الحدود لمنع تدفق المهاجرين. بحجة أنهم قد يحملون المزيد من حالات العدوى إلى أوروبا الموبؤة!

وانتقدت الناشطة اليمينية الفرنسية ماري لوبين، زعيمة حزب “الجبهة الوطنية”، ما أسمته «سياسة اللاحدود للقيادة الأوروبية» في ظل أزمة كورونا، وطالبت بإغلاقها مدعية أن ذلك من شأنه أن يحمي سكان القارة، بغض النظر عن الوضع وتطوراته سواء على المستوى الإنساني، أو لجهة أي تحسبات أخرى.

وإلى ذلك، طالب السياسي الإيطالي المتطرف ماتيو سالفيني، زعيم «حزب الرابطة» اليميني، ووزير الداخلية السابق، بإغلاق الحدود، ورفض السماح للسفن المحملة بالمهاجرين قبالة شواطئ شبه الجزيرة الإيطالية بدخول البلاد. كما انتقد السياسات الأوروبية التي تحاول التدخل في شؤون بلاده بزعمه من بوابة المساعدات الاقتصادية، ولم تتأخر السياسية اليمينية، جورجا ميلوني، عن انتقاد ما سمته «الفتات المالي» لبلادها من بروكسل لمواجهة تفشي الوباء، الذي يفتك بمواطنيها خلال الأسابيع الأخيرة.

عودة الإرهاب من جديد

رغم حالة البيات التي تعيشها الجماعات المتطرفة خلال الفترة الماضية، إلا أن ثمة تحذيرات من عودة الإرهاب مجددًا، وعدم الركون إلى وضع “الكمون” الراهن في النشاط المتطرف، خاصة أن المناخ السائد يعزز هذ الفرضية المؤكدة.

جلال عارف: قبل الأزمة كنا نتحدث عن عملية انتقال مطلوبة نحو عالم متعدد الأقطاب ونحو اقتصاد أكثر عدالة، كان الحديث عن ذلك يأتي في ظل الخوف من الصدام، الآن يأتي الحديث في ظل هاجس الانهيار

من جانبه، يحذر الكاتب جلال عارف من أن تراجع النشاط الإرهابي إنما هو أمر مؤقت، مؤكدًا أن “الإرهاب باقٍ”، وأن عصاباته في جحورها تنتظر الفرصة، وأفكاره لا تتوقف عن نشر سمومها ضد البشرية كلها.

يقول عارف: “قبل الأزمة كنا نتحدث عن عملية انتقال مطلوبة نحو عالم متعدد الأقطاب ونحو اقتصاد أكثر عدالة، كان الحديث عن ذلك يأتي في ظل الخوف من الصدام، الآن يأتي الحديث في ظل هاجس الانهيار. وما ينبغي التنبه له جيدًا هو أن مثل هذا المناخ هو الأنسب لكي ينمو التطرف ولكي يصب في مصلحة الإرهاب. وإذا لم يتعامل العالم مع الموقف بكل جدية، ولا ينخدع بما نراه على السطح الآن من تراجع لنشاط عصابات الإرهاب والقوى الداعمة لها، فإن العواقب ستكون وخيمة على العالم أجمع”.

يضيف الكاتب: “ليس أنسب للإرهاب بكل فصائله واتجاهاته، من مناخ يتراجع فيه الاقتصاد، وتتزايد فيه معدلات البطالة والفقر، وتغيب فيه الحلول. وليس أنسب للإرهاب من مناخ تتزايد فيه دعوات التعصب والكراهية. لقد توقف النشاط الإرهابي أثناء مواجهة العالم لفيروس «كورونا» لكن الإرهاب باقٍ، والمواجهة معه مستمرة وعلى العالم أن يستعد، وأن يتعلم من أخطاء الماضي، قبل أن يطل الإرهاب مرة أخرى بوجهه القبيح”.