في مثل هذه الأيام من العام الماضي، الخامس عشر من مارس 2019، نفذ اليميني الأسترالي المتطرف برينتون تارانت، ما عُرف فيما بعد باسم «مذبحة نيوزيلندا»، حين أطلق النار بدم بارد على المصلين المسلمين أثناء صلاة الجمعة في مسجدين بمدينة «كرايست تشيرز»، وهو الهجوم الذي وصفته جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، في حينه بـ «عمل إرهابي حطّم بلدنا الصغير».
وكان البيان الذي أصدره تارانت، وقتها، أو ما أطلق عليه المعلقون السياسيون في الصحافة الغربية «مانفيستو تارانت» Brenton Tarrant’s manifesto؛ تحت اسم وثيقة «الاستبدال العظيم- نحو مجتمع جديد»، كان بمثابة المشروع الفكري للإرهاب الأبيض القادم، حيث زعم الجاني المؤمن بنظرية المؤامرة، في وثيقته أن المجتمعات الغربية تتعرض يومًا بعد يوم لـ «استبدال إثني عظيم» من المهاجرين الملونين، والمسلمون بوجه خاص، من أجل «إحلال» هؤلاء المهاجرين الملونين محل الشعوب الأوروبية البيضاء، وبالتالي سيتم – وفق الوثيقة- القضاء على هوية أوروبا وانتصار المسلمين بشكل نهائي في معركتهم الحضارية القديمة ضد الغرب. وبهذا الطرح الغريب، ومثل كل أعضاء اليمين المتطرف، اختلطت دوافع الإرهابي، بين «الثأر» للصليبيين القدامى في حروبهم ضد المسلمين، وبين الانتقام من المهاجرين، وبين الحفاظ على مكانة الرجل الأبيض وهيمنته الحضارية.
ما كتبه «تارانت» كشف عن أن ذلك العمل الإرهابي البشع قد حدث نتيجة تخطيط وترصّد سابقين، وأنه قد يمثل «نظرية فكرية» لليمين الغربي المتطرف في عصرنا، أو بتعبير آخر «البيان التأسيسي» لمشروع الإرهاب الأبيض، وذلك لكون مبنيّا على موقف أيديولوجي ورؤية عنصرية متطرّفة تدعو إلى التخلّص بالعنف والسلاح من الأجانب، ووقف موجات الهجرة والاعتداء على المسلمين وترويعهم في أي مكان في أوروبا؛ وأوروبا ليست في نظره تلك البقعة الجغرافية من أوراسيا، وإنها تشمل مواطن الأوروبيين التي استعمروها من العالم الجديد في أستراليا ونيوزلندا والأمريكيتين.
نظرية المؤامرة و«الإحلال الكبير»
لم تكن النظرية التي حققت لها وثيقة «تارانت» شهرة عالمية كبيرة، من بنات أفكار الإرهابي الأسترالي، فقد صدر في نوفمبر 2011، كتاب بالعنوان نفسه «الاستبدال العظيم» لكاتب فرنسي يميني يُدعى رينو كامو. وتتحكم نظرية مؤامرة في فكرة هذا الكتاب التي تفيد بأن الهوية الغربية والبيض تحت الحصار، بسبب موجات الهجرة الهائلة من البلدان غير الأوروبية وغير البيضاء، وأن الهجرة الجماعية مع النمو السكاني للمهاجرين ستؤدي إلى تغير ديموغرافي في الغرب، يُستبدل بموجبه مهاجرون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالأفراد الأوروبيين.
وشرح كامو في مقابلة مع «فوكس (Vox)» الأمريكية عام 2017، أفكارًا من كتابه واستخدام العنف لمواجهة التغيير الديموغرافي، الذي يغير بدوره الحضارة عندما قال: «بالطبع، في حال غيّرت السكان، فلا يمكنك أن تتوقع استمرار الحضارة نفسها؛ يخلق رفض الإنسان لأن يُستبدل شعورًا قويًّا لدى الشخص، ويمثل هذا الأمر جوهر مقاومة الاستعمار؛ إذ ترفض الشعوب أن تجتاح شعوب أخرى أراضيها وبلدانها، وتغيّر ثقافاتها ودياناتها، علاوة على نمط حياتها.»
وحذّر رينو كامو الأمريكيين بأن: «لديهم كل الأسباب الوجيهة الكافية التي تدعوهم للقلق بشأن بلدهم»، ولذلك لا يبدو تنصل كامو قويًّا من تلك الأعمال الإرهابية، وقد أجمعت أكثر من صحيفة عالمية على ربط تلك الأعمال الإرهابية في نيوزيلندا وأمريكا بفكرة «الاستبدال العظيم» لصاحبها كامو، والتي من أبرزها: صحيفتا «نيويورك تايمز» و«دايلي بيست» الأمريكيتان، وصحيفة «الجارديان» البريطانية، الذين وجدوا ترابطًا واضحًا بين تلك الهجمات الإرهابية وأفكار كامو عن «الاستبدال العظيم».
ترددت فكرة «الاستبدال الكبير»، أو «الإبادة الجماعية البيضاء»، في خطابات عديد من الحركات اليمينية المناهضة للمهاجرين في الغرب. ومن بين المروجين الرئيسيين لهذه الفكرة حاليا، الأحزاب الشعبوية اليمينية، وشبكات واسعة النطاق مثل حركة «بيغيدا» الألمانية المعادية للإسلام والمهاجرين، ومجموعات أيديولوجية مثل «كتلة الهوية» المعادية للإسلام وللولايات المتحدة.
ولفت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتباه إلى هذه النظرية في 2016، عندما أعاد نشر تغريدة لحساب عنصري متطرف يسمى «WhiteGenocideTM»، وتوجد نسخة بديلة من النظرية نفسها، تسمى «الإحلال الكبير»، نشرتها جماعة «هوية الجيل» العنصرية اليمينية المتطرفة.
وأعرب إرهابي نيوزيلاندا عن تأييده لـ «ترامب» في البيان، باعتباره «رمز للهوية البيضاء المنبعثة من جديد»، أما أشد الأشخاص إلهامًا له فهي كانديس أوينز، وهي ناشطة سياسية أمريكية محافظة مؤيدة لسياسات ترامب وخطابه الشعبوي والعنصري، يقول عنها تارانت في بيانه أنها «هي التي دفعتني أكثر إلى تبني العنف والتخلص من الخنوع والسلبية».
لكن «بيان تارانت» الذي اعتُبر منذ ذلك الحين «مانفيستو اليمين المتطرف»، حيث استلهمه عدد من منفذي العمليات الإرهابية اليمينية ضد المهاجرين فيما بعد، هو «وثيقة فكرية» من نوع ما، مكونة من قرابة ٨٠ صفحة، إضافة إلى الرسومات والخرائط والرموز التاريخية التي تشرح دوافع هذه الجريمة المفصلية في تاريخ اليمين الأوروبي والأمريكي المعاصر، وتسعى الوثيقة إلى وضع «تبرير» لها.
عمد الإرهابي إلى التنظير في وثيقته لعدم دفع الضرائب للحكومات الأوروبية بدعوى أنها «معادية للبِيض»
وأخطر ما في «وثيقة تارانت» أنها تتطرق إلى مستويات أخرى من «النظرية والتطبيق» معًا، فقد عمد الإرهابي إلى التنظير في وثيقته لعدم دفع الضرائب للحكومات الأوروبية بدعوى أنها «معادية للبِيض»، وهاجم مفاهيم راسخة في الثقافة الغربية مثل التعددية والتنوع وحقوق الإنسان، بزعم أنها أصبحت تحد من «سيادة البِيض» على أوساط لصالح المهاجرين.
وسعى «تارانت» إلى التأصيل لفكرة زعزعة استقرار المجتمع الغربي نفسه ودفعه إلى الحرب الأهلية؛ لأنه يرى أن المجتمع المستقر غير مؤهل للتغيير بعكس المجتمعات المفككة، جماعات يمينية متطرفة أوروبا، وفقًا لنظرية «الفوضى الخلاقة» التي سبق أن طرحها تيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة قبل عدة سنوات. وهي نفس الفكرة التي تبناها منفذو هجمات إرهابية في أوروبا وأمريكا بعد ذلك،
ودلل الإرهابي في البيان على فشل «الحل السياسي» التي تنتجه دول أوروبية مثل ألمانيا لأزمة الهجرة الجماعية، وقال إن القوة المسلحة هي الحل الوحيد، بل شجع على قتل الأطفال «غير البِيض» في أوروبا قبل أن يكبروا ويمثلوا خطراً على الأوربيين، وقد طبّق «تارانت» ذلك بنفسه عندما قتل أطفالاً مسلمين في مذبحة نيوزيلاندا.
من جهة أخرى، وضع «تارانت» نفسه أمام مقابلة ذاتيّة كي يفصح بالتفصيل عن أفكاره المتطرّفة وخططه لإنقاذ «العرق الأبيض» من غزو الأعراق «المتخلّفة» وإيقاف مهزلة «البوتقة» التي تنصهر في ثقافة تعددية منفتحة على الآخرين، مؤكّدًا أن هجومه ليس اعتداء على «التعدّدية»، بل يهدف إلى وضع حدّ لتراجع القوّة الأوروبية تحت دعوى هذه التعدّدية الزائفة.
ومثل كل أنصار اليمين الغربي المتشدد، يُعرّف «تارانت» نفسه في الوثيقة على أنه «فاشي- إيكولوجي» نسبة إلى الفاشية الإيكولوجية، وهو تعبير عنصري بحكم التعريف، لكون همه الأول وشغله الشاغل هو وجود المسلمين في الغرب.
يُعرّف «تارانت» نفسه في الوثيقة على أنه «فاشي- إيكولوجي»
وتكشف الوثيقة، بجلاء، عن مدى ضحالة فكر الغالبية العظمى من المتطرفين الأوروبيين، وعلى الرغم من العنوان الرنّان للوثيقة، يبدو أن البيان مأخوذ بطريقة القص واللصق من خطبة انتقادية. وفي محاولة لرفع النبرة الفكرية، يقدم «تارانت» خليطاً غير متجانس من الإشارات، ويمزج إشارات بارزة لمعارك تاريخية من حقب مختلفة بين العالم المسيحي والامبراطوريات الإسلامية المختلفة، التي يُنظر إليها باعتبارها أسلاف «الغُزاة» المسلمين الحاليين، مع إيراد شعارات ونكات عنصرية مستقاة من كتاب «كفاحي» للزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، الأمر الذي يؤسس للطبيعة الفاشية الأصيلة التي تجمع بين كل حركات اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا.
وبذلك، تتوافق الوثيقة في كل جوانبها مع طروحات اليمين المتطرف بشأن «التهديد الإسلامي» لبلادهم، ضمن موجة كراهية نحو المسلمين سادت بشكل كبير عقب الهجمات الإرهابية التي أوقعها تنظيم «داعش» في أوروبا في السنوات الأخيرة، لكن هذه الكراهية لها جذور ينظِّر لها منتمون لليمين المتطرف، يصرُّون على اعتبار المسيحية سمة لتعريف الذات، وتمييزها عن الآخر، وبالتالي فإن العدو المتوقع هو أقرب آخر غير مسيحي يمكن أن يتناقض مع المجتمع الغربي.
ــــــــــــــــ
المصادر: