تهيمن منصات التواصل الاجتماعي على المنتديات العامة في جميع أنحاء العالم ، ولهذا السبب ، فإن نظام حوكمة متجذر في “القيم الاجتماعية ” بدلا من حقوق الإنسان ، قد يكون ملائما للمؤسسات ، ولكنه غير مرض تماما فيما يتعلق بحماية المستخدمين ، في حين تعتبر مؤسسات مثل جوجل وفيسبوك  نفسها ملتزمة داخليا ، وبقوة بحقوق الإنسان وتعزيزها بفعالية ، إلا أنه يتم ترجمة هذا الالتزام خارجيا بضرورة حماية المستخدمين من التهديدات الخارجية.

ونشرت منظمة “أوبن جلوبال رايتس” البريطانية ، مقالا تحليلا كتبته ستيفانيا دي ستيفانو ، وهي مساعد مدير مشروع بأكاديمية جنيف للقانون الإنساني الدولي و حقوق الإنسان ، و مرشح دكتوراة بالمعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية منذ 2018 ، والذي تناول العلاقة بين فيسبوك كأبرز مواقع التواصل الاجتماعي ، و حقوق الإنسان من حيث الحرية في نشر المحتوى أو حجبه وتقييده ، على خلفية المعايير الحقوقية المحلية و الدولية ، وقيود المصلحة العامة و الضوابط الحكومية .  

وصفة زوكربرج

و أشارت في هذا الصدد إلى خطاب مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرج ، لمستخدمي الموقع على مستوى العالم ،  والذين يصل عددهم 2.45 مليار نسمة ، حيث حدد في “منشور ” له على صفحته الشخصية ما سوف يركز عليه في العقد المقبل ، وتنوعت الموضوعات ما بين الدور الذي يلعبه “فيسبوك ” في تغيير الجيل الجديد ، مرورا  بإعادة اكتشاف “الحميمية  ” في العلاقات القائمة بين الأشخاص ، وصولا إلى إمكانية تحقيق النمو الاقتصادي التي تستطيع منتجات “فيسبوك” أن تقدمها للمشاريع الصغيرة والمتوسطة في جميع أنحاء العالم ، و للأشكال الجديدة من حوكمة المجتمعات الرقمية .

فضيحة بيانات فيسبوك كانت جزءا من عملية عالمية  تعمل مع الحكومات و أجهزة المخابرات و الشركات التجارية والحملات السياسية للتلاعب بالناس والتأثير عليهم 

وأضافت ستفانيا ، وهي حاصلة على درجة الماجستير في القانون الدولي ، وليسانس الحقوق والدرسات القانونية الأوروبية من جامعة ساوثامبتون ، أن إعلان استقلال بارلو للفضاء الإلكتروني ، مع فكرته بأن التكنولوجيا ستأتي بعالم أفضل ، كانت من الأمور الواضحة بقوة في  “وصفة زوكربيرج ” للعقد المقبل .

غياب فاضح للحقوق

وقالت ” لم يثر دهشتي أنه لم يذكر حقوق الإنسان على الإطلاق ، و لا حتى ما يتعلق بالنتائج المفيدة المزعومة التي يمكن أن تحققها  مشروعاته ، موضحة  :” حدث هذا الغياب الفاضح للحقوق رغم الفضائح الأخيرة التي تورطت فيها شركات التكنولوجيا  الكبرى و الدعوات البارزة من قبل المجتمع الدولي من أجل تناول  “حقوق الإنسان افتراضيا ” في “حوكمة ” المنصات .

وأردفت  أن مثل هذه الفضائح  تشمل التحقيقات التي أجريت مؤخرا،  و الوثائق المسربة التي تؤكد في الوقت الراهن أن فضيحة بيانات فيسبوك كانت جزءا من عملية عالمية أكبر بكثير ، والتي كانت تعمل مع الحكومات و أجهزة المخابرات و الشركات التجارية والحملات السياسية للتلاعب بالناس والتأثير عليهم والتي أثارت” ملابسات ضخمة  بشأن الأمن القومي .”

ورأت الكاتبة أن هناك سببا واحد يفسر عدم ذكر “زوكربيرج ” للحقوق ” على الإطلاق ، وهو أن “فيسبوك ” لا يعتبر نفسه ملتزما بقانون حقوق الإنسان الدولي ، مثلما هو معلن حقيقة  على موقعه ، مشيرة إلى أن هناك جدلا مستمرا  حول ما إذا كان ينبغى على المؤسسات أن يكون لديها التزمات مباشرة بحقوق الإنسان الدولية .

كما أشارت إلى فرضية أخرى ، تنبثق من “التصور  الذاتي ” و الأدبيات الداخلية حول حقوق الإنسان والتي تهمين على المنصة ومفادها أن حقوق الإنسان  تشكل ملامح لمنتج ما،  والتي يجري احتوائها بشكل تأصيلي ضمن الخدمات المقدمة .

وأكدت الكاتبة أن حرية التعبير تساوي القدرة على الحديث ، والاتصال ومشاركة المحتوى ، لافتة إلى أن هذا الافتراض القائم بأن الحقوق “متضمنة داخليا ” يسمح لفيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى ، بتجنب الحديث الصريح بشأن معايير حقوق الإنسان .

فيسبوك وحرية التعبير

وقالت إن الفكرة القائمة على أن حقوق الإنسان هي نتاج الخدمات التي تقدمها هذه “المنصات ” قد تأكدت من خلال دراسة أجراها ريكي فرانك جورجنسين ، الذي وجد أن هناك انفصالا بين حديث المؤسسة بشأن حرية التعبير والحديث الخارجي والقلق المتعلق بهذه القضايا .

وأضافت :” بينما تعتبر مؤسسات مثل جوجل وفيسبوك  نفسها ملتزمة داخليا وبقوة بحقوق الإنسان وتعزيزها بفعالية ، إلا أنه يتم ترجمة هذا الالتزام خارجيا بفكرة أن عليهما حماية المستخدمين من التهديدات الخارجية (الحكومية وغيرها )  

“فيسبوك ” يستطيع في بعض الحالات أن يسمح بمحتوى  قد يناهض معايير مجتمعية

وأشارت إلى أن تعزيز حرية التعبير في “فيسبوك” تقدم نفسها في شكل علاقة مفهومة والتي  توجد بين حرية التعبير و القدرة على الاتصال والمشاركة ، وهو ما “يعمي” الشركة عن مدى التأثير السلبي لممارساتها التجارية على حقوق وحريات مستخدميها .

إن افتراض أن الحقوق “مُتضمنة  ” يسمح لـ”فيسبوك ” و غيرها من منصات التواصل الاجتماعي بتجنب أي حوار صريح بشأن معايير حقوق الإنسان.

وضربت على ذلك مثلا ، بأنه عندما تصدر الحكومة طلبا لإزالة محتوى ما، يقوم “فيسبوك ” بتقييمه وفقا لمعايير حقوق الإنسان ، ولكن فيما يتعلق بأي محتوى يبلغ عنه المستخدم ، فإن عملية الحذف يتم قياسها وفقا للسياسات الداخلية الخاصة بـ”اعتدال ” المحتوى .

وما يثير الاهتمام ، أن “فيسبوك ” يستطيع في بعض الحالات أن يسمح بمحتوى  قد يناهض معايير مجتمعية ،  أ ما إذا اعتبره  ذا  قيمة “خبرية ” و يدخل في إطار المصلحة العامة ، ففي مثل هذه الأمثلة من الإساءة ، يتطلع إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان كي يُكون أحكامه.

بين القيم والحقوق 

واستدركت بأن “فيسبوك ” يعتبر نفسه صديقا لحقوق الإنسان ، بالضرورة ، ولكنه حريص جدا في تجنب مصطلح حقوق الإنسان ، حتى عند الإشارة صراحة إلى حرية التعبير أو الخصوصية ، فإنه لا يصفهما كحقوق إنسان ، ولكن كقيم إجتماعية .

وقالت :” كما هو واضح في خطاب زوكربيرج بجورج تاون،  و كما يؤكد كيت كلونيك أستاذ تشريعات الانترنت بجامعة سانت جون الأمريكية  ، فإن هذه القيم الاجتماعية متجذرة بعمق في القيم الأمريكية ، فالإشارة إلى مصطلح القيم (الذي يقدم كمصطلح محايد و يمثل القيم الأمريكية في الواقع ) ، يجري ترويجه بشكل نشط ويستخدم كدرع ضد أحاديث حقوق الإنسان .

العلاقة التي تحتاج إلى تنظيم ، ليست تلك القائمة بين الفرد والدولة ، ولكن بين الفرد والمؤسسات الرقمية

إذا كان أحد حلول “الحوكمة ” التي اقترحها زوكربيرج والذي يتمثل في مزيد من التنظيم  و القواعد الأكثر وضوحا والتي تقيمها الحكومات ، فإن هناك حل “أكثر ثورية ” ويتمثل في إنشاء مجلس رقابة من شأنه أن يسمح للمستخدمين بالطعن على القرارات الخاصة بالمحتوى ، وهنا وللمرة الثانية ، يتم تجنب حقوق الإنسان بحرص ، ومن ثم يقوم المجلس ، وفقا للميثاق ، بمراجعة قرارات إنفاذ المحتوى و يقرر ما إذا كانت متوافقة مع سياسيات المحتوى الخاصة بفيسبوك وقيمه ، وليس مع معايير حقوق الإنسان .

منصات التواصل والمحتوى

تقدم سياسات المحتوى ، حسب ستيفانيا ، مستوى أقل من الحماية لحرية التعبير مقارنة بمعايير حقوق الإنسان ، مستشهدة في هذا الصدد بشروط كتابة اسم المستخدم الحقيقي ، مما أثار مخاوف حقوقية شديدة ، لدى المستخدمين “المستهدفين “

وحذرت من أن القواعد الغامضة وتنفيذ القواعد غير الثابتة ، من الأمور التي يمكن أن تؤدي إلى استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر خطاب الكراهية ، مثلما ذكرت بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة في ميانمار . 

وتساءلت الكاتبة :” لكن لماذا لا يُستخدم الإطار الدولي لحقوق الإنسان ، والذي يوجد بالفعل ؟ قائلة إن حقوق الإنسان مجموعة من المعايير المتفق عليها دوليا ، بل ويمكن القول بأنها “أكثر ملائمة” من نظرية القيم الغامضة ، في إدارة المجتمعات الرقمية العالمية  .

القواعد الغامضة  تؤدي إلى استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر خطاب الكراهية

وأشارت إلى أن تفضيل إطار “أخلاقي ” بقوة من جانب هذه المؤسسات يبدو أنه قائم على فكرة أن المبادئ الأخلاقية مثل النزاهة أو الوقاية من الضرر، مرنة عند تأويلها .

ونبهت الكاتبة إلى أنه على الرغم من إصرار “فيسبوك ” بأنها ليست مقيدة بقانون حقوق الإنسان ، إلا إنها لا يزال عليها تحمل مسؤولية احترام حقوق الإنسان بمقتضى مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية  بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان ،والتي يجب بمقتضاها أن تتجنب انتهاك حقوق الآخرين ، وأن تعالج التأثيرات السلبية التي تتورط فيها .

الفرد والمؤسسات الرقمية

وأكدت الكاتبة أن العلاقة التي تحتاج إلى تنظيم ، ليست تلك القائمة بين الفرد والدولة ، ولكن بين الفرد والمؤسسات الرقمية ،منبهة إلى أن المقررين الخاصون  بالأمم المتحدة لحرية الرأي والتعبير والخصوصية ، أصدروا سلسلة من التقارير التي تحدد الأطر المعيارية لمجال الانترنت.

وشددت الكاتبة على ضرورة أن تتحول حقوق الإنسان إلى معايير واضحة والتي تقوم عليها أنظمة حوكمة المنصات ،قائلة  بما أن منصات التواصل الاجتماع تهيمن على المنتديات العامة في جميع أنحاء العالم ، فإن نظاما للحوكمة يتجذر في القيم الاجتماعية ربما يكون أكثر ملائمة للمؤسسات ، ولكنه غير مرض تماما  “

“فيسبوك ” حريص للغاية في تجنب مصطلح حقوق الإنسان ، حتى عند الإشارة صراحة إلى حرية التعبير أو الخصوصية ، فإنه لا يصفهما كحقوق ، ولكن كقيم إجتماعية .

ونقلت عن أستاذ القانون  بجامعة كاليفورنيا  ديفيد كاي ، قوله إن خطاب حقوق الإنسان يمكن أن يكون قويا للغاية لتحقيق هذه الأهداف التي تسعى إليها مؤسسات مثل “فيسبوك ” ، حيث ان قانون حقوق الإنسان يمنح المؤسسات “لغة” للإفصاح بوضوح عن مواقفها في جميع أنحاء العالم ، بأسلوب يحترم المعايير الديمقراطية و يناهض المطالب السلطوية ” فبينما  يُحبذ أن تبدأ هذه المنصات في الاعتراف بمسؤوليتها الاجتماعية و القوة التي تمارسها ، إلا أن استجابتها الحالية و حلولها المقترحة لا تزال غير كافية .

وقالت الكاتبة :” إن حقوق الإنسان عنصر ضروري ، وذلك إذا تعين على فيسبوك أن تعالج حقا ، التحديات التي حددتها .”

حرية التعبير

وأضافت :” صارت وسائل التواصل الاجتماعي  جزء أساسيا مما يسميه أستاذ القانون الدستوري بجامعة “يل ”  جاك بالكين ، مثلث حرية التعبير ، وذك بقدر ما يتعلق الأمر بهذه الحرية .  

وتابعت :” إذا تعين حماية حقوق الإنسان الفردية بفعالية ، فإنه يجب الاعتراف بأن هذه العلاقة تحتاج إلى التنظيم ، ليس بين الفرد والدولة فحسب ، ولكن بين الفرد والمؤسسات الرقمية أيضا ، والتي تقوم حاليا بتنظيم الخطاب بشكل فعال و بأسلوب غير مسبوق .

وأكدت أن قانون حقوق الإنسان يقدم بالفعل إطارا لتحقيق التوازن بين المصالح “التنافسية ” التي تسعى “فيسبوك ” لحلها .

كما تقدم حقوق الإنسان معايير عالمية لإدارة المجال العام الرقمي على المستوى العالمي ،وتضع بالإضافة إلى ذلك معايير ثابتة ومتوقعة لسلوك المستخدم .

ونبهت الكاتبة إلى أنه مالم يتحقق تطور  للأدبيات الداخلية بـالمؤسسة ، فإن “وصفة فيسبوك ” للعقد المقبل لن تكون مخيبة للآمال فحسب ، ولكنها ستترك مستخدمي الموقع أكثر استهدافا بالخطر .