كانت جدتي كثيرا ما تحكى عن حكمة وعدالة جدى (عمدة القرية) ، تلك الحكمة والعدالة التي يمكن تلخيصها فى موقفه من جرائم (الشرف) فقد كان يكتفى بإعطاء اوامره بإنهاء الموضوع فى ابسط صوره ،وهو التخلص من المتهمة ، فيكفى المتهمة ضربة بالشومة على رأسها ووضعها فى (شوال) مربوط بحجر والقاءها في قاع النيل ، طريقة سهلة وبسيطة ومجربة ومعتاد عليها ، ولا تنتظر الكثير من ادلة الادانة والمحاكمة ووجع الراس، فيكفى شائعة تدور فى القرية عن سوء سلوك الضحية، فالقليل من القيل والقال يكفى دائما لإدانة النساء والتخلص من (عارهم).
على الجانب الآخر كانت جريمة (الثأر) التى دائما ما يكون فاعلها (ذكر) تحاط بكثير من الطقوس والاجراءات والقواعد لأهميتها وقيمتها فى الريف ولأنها جريمة ذكورية من حيث الدوافع والاسباب والطريقة، فهناك دائما باب خلفي للإفلات من العقوبة والمساءلة عن طريق تقديم الكفن لولى الدم ، هذا الاجراء الذى يكلف القاتل جزء من قيمته كـ (ذكر) حيث يجبر القاتل على حمل “كفنه” حافى القدمين وحليق شعر الرأس ومجرور من رقبته، وبذلك تنتهى معاناته.
اتذكر ذلك وانا اتابع اخبار القبض على مستخدمات تطبيقي “تيك توك” و”إنستجرام” المعروفات حنين حسام (19سنة ) ومودة الادهم (22 سنة) المتهمات بإفساد الاخلاق والتحريض على الفسق! ومن بعدهم منة عبدالعزيز (17سنة ) التى ظهرت فى فيديو تتهم فيه شخص باغتصابها وهى الان مقبوض عليها وموجه لها اتهامات يمكن ان تكون سبب فى سجنها !
فتيات فى مقتبل عمرهن صغيرات السن بلا اي سوابق اجرامية متهمات باتهامات فى غاية الخطورة كجريمة الاتجار بالبشر لمجرد استخدامهن بحسن النية لتطبيقات التواصل الاجتماعي الحديثة.
فى الوقت التى يأتى خبر العفو الرئاسي بمناسبة عيد الفطر، عن ضابط أمن الدولة السابق محسن السكري المُدان بقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي عام 2008، وذلك بعد نحو 3 سنوات من العفو عن رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى المُدان بالتحريض على القتل في القضية نفسها، وكان هشام طلعت مصطفى خرج أيضا بعفو رئاسي بمناسبة عيد الفطر في عام 2017، وكانت محكمة جنايات القاهرة قضت بالسجن المؤبد على محسن السكري والسجن 15 عاما على هشام طلعت مصطفى في عام 2010، في قضية قتل سوزان تميم، وذلك بعد نقض حكم سابق ضدهما بالإعدام.
ومن قبله كان العفو عن (صبرى نخنوخ) الذى اقتحمت قوات الأمن قصره في منطقة “كينغ مريوط” بالإسكندرية وألقت القبض عليه بتهمة حيازة أسلحة ومخدرات، وفي مايو 2013 أصدرت محكمة جنايات الإسكندرية، حكما بإدانة نخنوخ بالسجن المؤبد،و بسبب تعديل في القانون يقضي بالحكم بأقصى العقوبة في جرائم حيازة السلاح، وأيدت محكمة النقض الحكم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ولكن المحكمة الدستورية العليا أصدرت، بعد ذلك بأيام، حكما بعدم دستورية القانون الذ عوقب نخنوخ على أساسه بالسجن المؤبد،وفي 6 فبراير/شباط 2016 قبلت المحكمة الدستورية دعوى نخنوخ، وألغت حكم محكمة النقض، وفي ابريل/نيسان 2018، أحيلت القضية من جديد لدائرة بمحكمة جنايات الإسكندرية لإعادة نظرها من جديد، ولكن العفو الرئاسي صدر في الشهر التالي ، وقد انهي قرار العفو الصادر من رئيس الجمهورية جميع الإجراءات القضائية التي بدأت لإعادة محاكمة نخنوخ، كما ينهي جميع الإجراءات التي كان يتخذها هو لإلغاء آثار حكم الإدانة الصادر ضده .
مطالعة هذه الاخبار تجعلنى أتساءل عن العدالة الجنائية من منظور النوع الاجتماعي وهل ينظر القانون والمجتمع للجرائم نظرة مستقلة عن جنس مرتكبها ؟ رجل كان أو امرأة ؟
أم أننا مازلنا حتى هذه اللحظة نطبق قواعد العدالة الذكورية التى كان يطبقها جدى العمدة في قريته في الصعيد قبل 100 عام ؟
لا شك أن دستور مصر لسنة 2014 يتناول قضايا المرأة بصورة أكثر شمولا عمّا سبق، ولأول مرة تستخدم ديباجة الدستور نصوصاً تراعي الجنسين وتفيد بأن الدستور يحقق المساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز. حيث يتضمن الدستور أكثر من 20 مادة تخاطب المرأة مباشرة، بما يكفل للمرأة الفرص المتكافئة، ومنع التمييز ضدها، والحماية من جميع أشكال العنف، وتمكين المرأة والفتاة والالتزام بتوفير الرعاية في مراحل عمرها المختلفة.
تضمنت ديباجة الدستور أن: “نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصري، السيد في الوطن السيد، هذه إرادتنا وهذا دستور ثورتنا”.
كما أعلن السيد رئيس الجمهورية عام 2017 عاما للمرأة المصرية لأول مرة وتبني سيادته الاستراتيجية الوطنية للمرأة المصرية 2030 التي أعدها المجلس القومي للمرأة تماشياً مع رؤية مصر 2030 واستراتيجيتها للتنمية المستدامة.
كما أعد المجلس القومي للمرأة استراتيجية وطنية لمكافحة العنف ضد المرأة، وهي خطة خمسية تعتمد على 24 بروتوكولًا تم توقيعها مع كل من وزارات: العدل، والداخلية، والتعليم، والشباب، والأوقاف، ومع الكنيسة الأرثوذكسية، والعديد من المجالس القومية المتخصصة، ومنظمات المجتمع المدني
لكن بالرغم من كل ذلك مازالت العدالة سواء ببعدها القانونى أو بعدها الاجتماعي عدالة ذكورية تنحاز ضد النساء دائما من حيث:-
- قبول أو رفض الجريمة اجتماعيا وأخلاقيا
فالقتل بالرغم من بشاعته كجريمة لأنه إزهاق للروح البشرية ربما يكون مقبولا فى بعض الأوساط الاجتماعية أكثر من جريمة الدعارة؟! وربما يكون محل فخر البعض وسببا لتضامن الاسرة والاهل والجيران ، هذا مع ملاحظات كثيرة حول تجريم الدعارة فى مصر والذى يقتصر على النساء فقط ؟ بينما يعتبر الرجل الشريك فى ذات الفعل مجرد شاهد !.
- وصف الجريمة نفسه يختلف باختلاف جنس مرتكب الجريمة
ففى جريمة الزنا يميز القانون بين النساء والرجال من حيث العقوبات ومكان حدوث الزنا، فتُعاقب الزوجة التي ثبتت إدانتها بالزنا بالسجن لمدة لا تزيد على سنتين، داخل أو خارج بيت الزوجية ، ويعاقب الزوج الذي ثبتت إدانته بالزنا بالحبس لمدة لا تزيد عن ستة أشهر، فقط إذا حدث الزنا داخل بيت الزوجية.
بالإضافة إلى التمييز ضد المرأة في العقوبات على الزنا، يسمح قانون العقوبات بتخفيض العقوبات في حالة مفاجأة الزوج زوجته بجريمة الزنا. لا يوجد نص للتخفيف من العقوبة أو مبرر للزوجة التي تقتل الزوج الذي يرتكب الزنا. وفي إطار تطوير التشريعات، يبذل المجلس القومي للمرأة جهوداً متواصلة للتصدي لهذا التمييز
- تخفيف العقوبة على الرجال وخاصة في جرائم (الشرف) أو الجرائم المرتبطة بالنساء
ففى القانون المصرى ينص قانون العقوبات على أن الرجل الذي يفاجئ زوجته بارتكاب الزنا والذي يقتل زوجته والشخص الذي ترتكب معه الزنا في حالة تلبس، يستفيد من تخفيف العقوبة مقارنة بالعقوبة على أشكال القتل الأخر
وفي هذه الحالات، تُعامل جريمة الزوج على أنها جنحة وليست جناية. ويعاقب الزوج الذي يقتل زوجته في مثل هذه الظروف بالسجن لمدة أقصاها ثلاث سنوات بدلاً من عقوبة الإعدام أو بالسجن لمدة تصل إلى خمس وعشرين سنة بتهمة القتل
- الأبواب الخلفية للإفلات من العقوبة
ووفقا لمبادئ إصدار الأحكام، يجوز تطبيق المادة 17 من قانون العقوبات لتوفير الرأفة عن أي جرائم، رهنا بتقدير القاضي وفقا لظروف المتهم والجريمة. ويطالب القانون القاضي بتبرير تخفيف العقوبة.
كما يأتى العفو كوسيلة للاعفاء من العقوبة كما في حالات محسن السكرى وهشام طلعت مصطفى وصبرى نخنوخ .
- الإشادة بالقدرة على تنفيذ العقوبة (السجن للجدعان)
فى بعض الأحياء الشعبية والقري يتم الاحتفال بخروج المحكوم عليهم وقضاء العقوبة باحتفال أقرب إلى الأفراح كنوع من الفخر والإشادة بعودة المسجونين فى جرائم القتل والمخدرات وهى جرائم أغلب مرتكبيها من الذكور.
قضية الممثلة حبيبة وقضية تامر حسني
كلنا نتذكر قضية المطربان تامر حسنى وهيثم شاكر حيث تم اتهامهم بالتزوير في محررات رسمية والتهرب من التجنيد، تلك القضية التى قوبلت بتعاطف شديد، والتى انتهت بحكم مع إيقاف التنفيذ وخلال تلك الأشهر تصدرت أخبار تامر وهيثم الصحف والمجلات الفنية مع يوميات سجنهما، وابتسم الحظ للمطربين العاطفيين، وضاعفت قضيتهما من نحوميتهما، واستغلها منتج فيلمه الجديد السبكي بعرض بعض المشاهد التي صورها تامر قبل القبض عليه في فيلم “عمرو وسلمى” أمام مي عزالدين، كحملة ترويجية للشريط السينمائي الذي حقق أعلى الإيرادات في عام 2007، حتى لقب البعض تامر حسني بلقب ” مطرب الجيل”.
تلك القضية التى لو تم مقارنتها بقضية اخرى لممثلة تم اتهامها ظلما بجريمة قتل كانت سببا في انتهاء مشوارها الفني وهي الممثلة «حبيبة»، التي اتهمت في العام 1998 بقتل زوجها القطري الجنسية والذي تزوجته عرفيا، وعاقبتها المحكمة بالسجن 10، وبعد 5 سنوات خلف الأسوار ظهرت أدلة جديدة في القضية، وكشفت عن متهمين آخرين، وتبين أن اعتراف «حبيبة» بقتل زوجها جاء وليد إكراه وتعذيب.
وقد أصدر النائب العام قراره بالموافقة على إحالة الضابط على المحاكمة بعد أن وجهت إليه النيابة العامة تهمة التعذيب وإجبار الممثلة حبيبة على الاعتراف بجريمة لم ترتكبها والتزوير في محاضر رسمية عندما كان يشغل منصب رئيس مباحث قسم الهرم آنذاك.
وصدر هذا القرار بعد أن تولت نيابة حوادث جنوب الجيزة التحقيق مع الضابط في واقعة تعذيب حبيبة وإكراهها على الاعتراف بجريمة قتل زوجها، الأمر الذي أدى إلى إدانتها في هذه الجريمة، والحكم عليها لمدة عشر سنوات قضت منها ما يقرب من خمس سنوات إلى أن تفجرت مفاجأة في هذه القضية بظهور المتهمين الحقيقيين واعترافهم بارتكابها وهو الأمر الذي أكدته تحريات الشرطة وتقرير الطب الشرعي والذي أوضح أن الجريمة وقعت وفقا للتصور الوارد في اعترافات المتهمين الحقيقيين وليس وفقا لاعترافات المتهمة حبيبة والتي أدلت بها تحت وطأة التعذيب بحسب تقرير الطب الشرعي.