تأتى حادثة مقتل مواطن أمريكى أسود من أصول إفريقية بدم بارد على يد رجل شرطة أمريكى أبيض فى مدينة مينيابولس بولاية مينيسوتا، لتقوض كل أوهام الحالمين بالحرية والديمقراطية الأمريكية وتضعهم فى مأزق حقيقى.
وللتخلص من هذا المأزق، لجأ الكثيرون ممن يعبدون صنم الديمقراطية الأمريكية لتبريرات عديدة حتى لا يصطدموا بالواقع المرير، ومن هذه التبريرات أن هذه حوادث فردية من رجال الشرطة، وأن الديمقراطية الأمريكية والعدالة الأمريكية حتما ولامحالاة ستنتصر للمجنى عليه.
ولكن التاريخ الأمريكى يكشف بما لا يدع مجالا للشك، زيف هذه الادعاءات والتبريرات ويفضحها، فالتاريخ حافل بمثل هذه الحوادث والجرائم ضد الأقلية السوداء من أصل أفريقى فى الولايات المتحدة، فى تكرار لهذه الحوادث يكاد يصل إلى حد التطابق، وكأن شيئا ما لم يتغير بعد مرور خمسة عقود من الاعتراف بالأمريكيين من أصول إفريقية كمواطنين كاملى الأهلية فى ستينيات القرن الماضى، كنتاج لحركة الحقوق المدنية التى قادها مارتن لوثر كينج.
فحادثة مينيابوليس ليست الحادثة الأولى ولا الثانية ولا حتى الثالثة. فلقد شهدت الولايات المتحدة أعمال عنف عديدة بسبب العنف المفرط غير المبرر والتمييز العنصرى من قبل رجال الشرطة البيض ضد الأقلية السوداء فى الولايات المتحدة، والتى تعد ثانى أقلية فى البلاد بعد الأقلية من أصول إسبانية.
ولأن المجال لا يتسع هنا لسرد كل الأحداث التى وقعت على الأقل فى التاريخ الحديث بدءا من عام 1965 وحتى الآن، فهذه بعض النماذج من الأحداث:
فى عام 1965 إثر اعتقال الشرطة لأحد الشباب السود أثناء عملية تفتيش لأحد المنازل، حدثت مشاجرة بين الشرطة وأقارب الشاب، اندلعت على إثرها أحداث عنف وشغب فى لوس أنجلوس، وتم استدعاء الحرس الوطنى لفرض الأمن، وكان نتيجة هذه الأحداث 34 قتيلا والعديد من الجرحى واعتقال 4 آلاف شخص.
وفى نفس العام وقع شجار بين الشرطة وبين سائق أسود فى ولاية نيوجيرسى، مما تسبب فى اندلاع احتجاجات واسعة وأعمال عنف راح ضحيتها 26 قتيلا و1500 جريح.
وفى عام 1967 اندلعت أيضا أعمال شغب وعنف، إثر مشكلات أيضا بين الشرطة والمواطنين فى أحد أحياء السود فى مدينة ديترويت فى ولاية ميتشيجان، وراح ضحيتها 43 قتيلا وأكثر من ألفى جريح، وامتدت أعمال الاحتجاجات فى العديد من الولايات الأخرى.
وفى عام 1968 إثر اغتيال القس الأمريكى مارتن لوثر كينج، قائد الدفاع عن الحقوق المدنية للسود فى ذلك الوقت، اندلعت أعمال عنف فى 125 مدينة أمريكية أسفرت عن 46 قتيلا و2600 جريح، وتدخل الجيش آنذاك لفض أعمال العنف والشغب وفرض الأمن والنظام.
وفى عام 1980 اندلعت أعمال العنف فى ميامى بولاية فلوريدا، إثر الحكم بالإفراج عن أربعة شرطيين قتلوا شابا أسودا ضربا حتى الموت، لأنه لم يتوقف بدراجته النارية عندما كانت إشارة المرور الحمراء، مما أسفر عن 18 قتيلا و400 جريح.
أما الحادثة الأشهر فكانت فى لوس أنجلوس فى عام 1991 حيث قام أربعة شرطيين بيض بضرب مواطن أمريكى أسود (رودنى كينج) مما تسبب فى مضاعفات صحية خطيرة له وإجراء العديد من العمليات الجراحية، وسبب شهرة هذه الحادثة أنها تم تصويرها بكاميرا فيديو من أحد السكان، الذى تصادف أنه كان يحمل الكاميرا وقتها وقام بتصوير الحادثة وتم إذاعتها عبر القنوات التليفزيونية، مما أشعل الغضب لدى الأقلية السوداء واندلعت الاحتجاجات التى تخللتها أعمال عنف وشغب أسفرت عن مقتل 59 شخصًا و2328 جريح.
ومن الجدير بالذكر أن الشرطيين الأربعة تمت تبرئتهم فيما بعد فى عام 1992 من كل التهم المنسوبة إليهم، برغم الفيديو الذى يثبت استخدامهم للعنف المفرط غير المبرر ضد رودنى كينج، الذى كان مقيدا ومنبطحا على الأرض، فى الوقت الذى كان فيه الشرطيون الأربعة يضربونه بالعصى بوحشية.
وفى العام 1999 قتل أربعة شرطيون بيض شابا مهاجرا من غينيا- أمادو ديالو- فى حى هارلم بنيويورك، وهو أمام منزله عائدا من عمله أثناء التقاطه مفاتيح منزله من جيبه ليفتح باب المنزل، فى مرور دورية من رجال الشرطة فى ملابس مدنية ودون حتى أن يوجهوا إنذارا له (حسب الشهود) حيث أطلقوا عليه 41 رصاصة، اخترقت 19 منها جسده وأردته قتيلا.
وقد برر أحد الشرطيين ذلك بأنه اشتبه به وأنه ظن أنه يخرج سلاحا من جيبه، ومرة أخرى يتم تبرئة الشرطيين الأربعة من جميع التهم المنسوبة إليهم فى المحكمة، والجدير بالذكر أن الشاب كان قادما للدراسة فى الجامعة فى الولايات المتحدة، حيث كان يحلم دائما بالسفر إليها والدراسة بها، فعاد إلى بلدته فى غينيا فى كفن.
وفى عام 2014 فى ولاية ميسورى، يطلق شرطى أبيض النار على شاب أسود (مايكل براون 18 عاما) ليرديه قتيلا وهو أعزل، لتشتعل أعمال الاحتجاجات والعنف والشغب مرة أخرى، خاصة بعد تبرئة المحكمة للشرطى الذى أطلق النار على الشاب وقتله.
وفى عام 2015، ألقت الشرطة القبض على شاب من أصل إفريق يدعى فريدى غورى 25 عاما فى منطقة بالتيمور بولاية ماريلاند، وقامت بسحبه إلى سيارة الشرطة بينما كانت يداه مقيدتين للخلف ووجهه للأسفل، وعلى الرغم من استغاثة غورى لعدم قدرته على التنفس إلا أن الشرطة لم تهتم باستغاثاته، مما أدى إلى دخوله فى غيبوبة، قبل أن يموت بعد نقله إلى المستشفى بسبب الإصابات الشديدة التى لحقت بالعمود الفقرى.
أثار الحادث احتجاج سكان مدينة بالتيمور، وما لبث الوضع أن تحول لأعمال عنف، أجبرت ولاية ماريلاند على إعلان حالة الطوارئ وتعبئة الحرس الوطنى للحفاظ على الأمن والنظام.
وفي نفس العام 2015، قامت الشرطة بإطلاق النار على الشاب غامار كلارك 24 عاماً والمنحدر من أصول إفريقية، ولقى مصرعه على الفور، حدث ذلك عندما حاول اثنان من رجال الشرطة إلقاء القبض عليه، ووفقا لشهود عيان، فإن يدى كلا رك كانتا مكبلتين عندما أطلق عليه النار فى رأسه.
وهناك الكثير من الأحداث الأخرى مثل حادثة مقتل الشاب ستيفن كلارك فى لوس أنجلوس، والذى قتلته الشرطة بـ 20 رصاصة وهو أعزل، حينما اشتبهوا أنه يحمل سلاحا، ليتضح بعد ذلك أنه كان يحمل هاتفه المحمول، وكذلك حادثة مقتل الشاب ديانتى بربر فى ولاية كاليفورنيا، بعدما أطلقت الشرطة 30 رصاصة على موقف للسيارات.
ومن الجدير بالذكر أنه فى كل هذه الحوادث الدامية تم تبرئة جميع رجال الشرطة من كل الاتهامات!!
وفى هذا الشأن وفى عام 2014، قال موتوما روتيرى المقرر الخاص للأمم المتحدة المعنى بالعنصرية تعليقا على حادث مقتل الشاب مايكل براون، فى بيان صحفى “هناك العديد من الشكاوى حول معاناة الأمريكيين من أصل أفريقى من مثل هذه الممارسات من التنميط العنصرى واستخدام القوة المفرطة والمميتة فى كثير من الأحيان.”
كما دعت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصرى فى عام 2014 الولايات المتحدة إلى تعزيز قوانينها لمناهضة العنصرية.
وقال أحد أعضاء هذه اللجنة الأممية أمام وسائل الإعلام “إن اللجوء المفرط للقوة من جانب موظفين مكلفين بتطبيق القانون ضد الأقليات العرقية والعنصرية هو موضع قلق دائم.” واعتبر أن ما حدث “ليس حادثا معزولا”، وتابع قائلا “على الولايات المتحدة اتخاذ تدابير واسعة للتصدى للأسباب العميقة وتجنب تكرار مثل هذه الحوادث المأساوية”.
ولم تكن هذه هى المرة الأولى أو الأخيرة التى تصدر فيها إحدى جهات الأمم المتحدة انتقادات لوحشية الشرطة وعنصريتها فى الولايات المتحدة الأمريكية.
ثم تأتى الحادثة الأخيرة فى مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية، والتى قام فيها الشرطى الأمريكى الأبيض ديريك شوفن بقتل جورج فلويد 46 عاما، حيث قتله خنقا بركبته عند اعتقاله حتى لفظ أنفاسه بعد نقله للمستشفى، ولتندلع أعمال الاحتجاجات والعنف مرة أخرى فى العديد من الولايات، فى مشهد تكرر كثيرا خلال أكثر من خمسين عاما.
وعلى الرغم من القبض على الشرطى القاتل، إلا أن النيابة العامة وجهت له تهمة القتل غير المتعمد، وهى تهمة قتل من الدرجة الثالثة وعقوبتها 5ر12 عاما فقط! إلا أن فيديو الواقعة يظهر بكل وضوح أن الشرطى قتل جورج فلويد عمدا، حيث كان القتيل يخبره طوال الوقت أنه لا يستطيع أن يتنفس، ومع ذلك استمر الشرطى فى خنقه بركبته رغم توسلات المواطنين من حوله لتركه لأنه يموت، فكيف يكون القتل غير متعمد!!
ما رأيناه جميعا فى فيديو الواقعة يندرج تحت بند جريمة “التعذيب حتى الموت” وهى جريمة فيدرالية فى الولايات المتحدة، فما كان يقوم به الشرطى هو تعذيب للمجنى عليه والذى استمر لفترة طويلة (8 دقائق و46 ثانية)، وكان الشرطى مستمتعا بمعاناة المجنى عليه ومدركا لفعلته ولنتائجها والتى أودت بحياة جورج فلويد.
ولكن يبدو أن النائب العام فى الولايات المتحدة أراد إرضاء الشارع المشتعل غضبا بالقبض على الجانى، ولكنه فى نفس الوقت، قام بتوجيه اتهام ضعيف لا يرقى لمستوى الجريمة، فإن لم تكن جريمة “تعذيب أدى إلى موت” فهى على أقل تقدير هى جريمة “قتل عمد”، والجريمتان تصل عقوبتهما إلى الإعدام فى الولايات المتحدة.
وبالرغم من مناهضتى لعقوبة الإعدام بوجه عام، إلا أن عقوبة القتل غير المتعمد والتى تصل لـ 5ر12 عاما عقوبة غير عادلة، هذا إذا تمت إدانة الشرطى المتهم من الأساس، ولم يفلت من العقاب ككل مرة فى كل حادثة وقعت من شرطيين بيض ضد مواطنين سود من أصل أفريقى.
فحتى لو استدعت الظروف “السياسية” الحكم بإدانة هذا الشرطى، على عكس ما حدث من قبل فى كل المحاكمات السابقة للشرطيين فى جرائم ضد المواطنين الأمريكييين السود، وذلك لإخماد الاحتجاجات والانتقادات الدولية، فهل هذا يعنى أن عنصرية الشرطة الأمريكية ستنتهى حقا؟
ولكن مهلا، هل هى حقا عنصرية الشرطة فقط؟
إن نظام العدالة الجنائية نفسه فى الولايات المتحدة هو من قام بتبرئة رجال الشرطة فى كل حادثة من الحوادث التى وقعت ضد السود من قبل الشرطة كما ذكرنا من قبل، حتى وهذه الحوادث مسجلة صوت وصورة وواضحة للعيان، كما حدث فى حادثة لوس أنجلوس (رودنى كينج) فى عام 1991، وفى حادثة ولاية ميسورى (مايكل براون) فى عام 2014، وليس انتهاءا بأخر حادث فى ولاية مينيسوتا (جورج فلويد). فالتلاعب بنظام العدالة يتم فى تشكيل هيئة المحلفين التى تصدر حكمها بإدانة المتهم أم لا وكذلك بمقدار العقوبة المفروضة عليه. وفى مثل هذه القضايا يتم استبعاد المواطنين السود من أصل أفريقى من تشكيل هيئة المحلفين، كما وفى كثير من الأحيان يتم نقل المحاكمة من المدينة نفسها التى وقعت فيها الحادثة لمدينة أخرى يغلب عليها نسبة السكان البيض عن السود.
وكمثال على ذلك، تم نقل قضية قتل أماديو دياولو من نيويورك إلى ألاباما، وكانت هيئة المحلفين مشكلة من 10 من المواطنين البيض و2 من المواطنين من أصول أسبانية، ولا وجود لمواطن واحد أسود من أصول إفريقية، وكذلك الحال فى قضية رودنى كينج فى عام 1992.
وفى هذا الصدد، قالت مجموعة من خبراء حقوق الإنسان تعليقا على حكم المحكمة فى قضيتى قتل لمواطنين من ذوى الأصول الإفريقية فى حادثين منفصلين على يد قوات الشرطة “إن قرارى هيئة المحلفين الكبرى فى الولايات المتحدة بعدم توجيه اتهام إلى رجلى شرطة فى قضية مصرع أيريك غارنر ومايكل براون وهم أمريكيان من أصل أفريقى يثيران “مخاوف مشروعة” بشأن ممارسات الشرطة فى جميع أنحاء البلاد.
ولذلك فإن الأحداث المتتالية والمتشابهة إلى حد التطابق بقتل المواطنين من أصول إفريقية فى الولايات المتحدة من قبل رجال الشرطة، ليست تصرفات فردية، ولكنها انتهاك منظم وممنهج مرتبط بتنميط الرجال القائمين على تنفيذ القانون لصورة المواطن الأسود الذى هو بالضرورة مجرم إلى أن يثبت العكس، كما يؤكد منهجية هذه الانتهاكات أن نظام العدالة الجنائية الأمريكية يتيح دائما للمجرم فى هذه الحوادث الإفلات من العقاب، كما حدث فى كل الحوادث السابقة على حادثة مينيابولس.
وفى النهاية أتذكر قول كورى وايز، أحد ضحايا نظام العدالة الجنائية الأمريكية وسياسىة التمييز العنصرى حين قال: “إن نظام العدالة غير عادل”.