في الثاني من يونيو 1976، حمل عبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة العربية، حقيبته ورحل، تاركًا للأجيال الجديدة ميراثًا سياسيًا مضيئًا يحمل بصمات رجل من عموم الفلاحين المصريين، استطاع بوعيه الثاقب أن يلملم دول المنطقة التي يوحد بينها الدين واللسان في “بيت العرب”، خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في وقت كان العرب أحوج ما يكونوا إلى التعاون والتعاضد، خصوصًا عشية صعود دول كبرى على الساحة السياسية الدولية، وظهور نظام “القطبين” في هذه الساحة، ممثلًا في الولايات المتحدة و”الاتحاد السوفيتي” السابق.

وُلد عبد الرحمن حسن عزام “باشا” في 8 مارس عام 1893م، بقرية “الشوبك الغربي” جنوب محافظة الجيزة، التابعة حاليًا لمركز البدرشين، في أسرة عربية عريقة تنتمي أصولها إلى جزيرة العرب، وورث عن أسرته ممارسة العمل العام، فقد كان والده الشيخ “حسن بك عزام” من أعيان الجيزة، وعضوًا في أول مجلس تشريعي مصري، هو “جمعية شورى القوانين”، وذلك قبل بدء الحياة النيابية الحقيقية في مصر بناءً على دستور عام 1923م، وكان جده الشيخ سالم بك عزام ناظرًا “محافظًا” للجيزة، ونُفي في عهد الاحتلال البريطاني إلى السودان بسبب نشاطه السياسي المناوئ للإنجليز، وتُوفي ودُفن بمدينة الخرطوم.

اقرأ أيضًا:

سقوط خليفة “البغدادي”.. لامبالاة أمريكية واحتفاء عراقي

 

 

معتقل في فلسطين

في العشرينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي اشتغل فيها بالصحافة، كتب “عزام” مقالات تطرق فيها إلى المطامع اليهودية الاستعمارية في الأراضي العربية، وخلال أعمال “المؤتمر الإسلامي” بمدينة القدس المحتلة عام 1931م، هاجم سياسة “الانتداب البريطاني” الداعمة لجماعات الاستيطان اليهودي، التي راح أعضاؤها يتوافدون كالجراد على المنطقة آنذاك، وفور خروجه من قاعة المؤتمر اعتقلته السلطات البريطانية، وتم ترحيله في اليوم التالي من فلسطين إلى مدينة العريش المصرية.

بدأت البذرة الأولى لإنشاء الجامعة العربية في مكتب الصحفي أسعد داغر بجريدة “الأهرام”، وكان يحضر مجلسه عدد من أصدقائه السوريين والفلسطينيين

 

فكرة إنشاء الجامعة العربية

بدأت البذرة الأولى لإنشاء الجامعة العربية في مكتب الصحفي أسعد داغر بجريدة “الأهرام”، وكان يحضر مجلسه عدد من أصدقائه السوريين والفلسطينيين، وكان الحديث يدور في المجلس عن مصير فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بانتصار الإنجليز، وماذا سيفعله العرب بعد هزيمة ألمانيا النازية.

وخلال تلك الجلسة التاريخية، قال إسحاق درويش، أحد قادة الهيئة العربية العليا لفلسطين، إن “عزام” يدعو لفكرة جريئة سيكون لها دور كبير في قضية فلسطين، وهي إنشاء “اتحاد” يضم جميع الدول العربية، موضحًا أنه قدم مذكرة رسمية بذلك إلى عدد من ساسة الدول العربية ومن بينهم الساسة المصريون.

وتحمست حكومة “الوفد” المصرية برئاسة مصطفى النحاس في ذلك الوقت للفكرة، وبدأ العمل على استحداث هذا الاتحاد تحت اسم “الجامعة العربية”، وتم اختيار “عزام” لمنصب أول أمين عام للجامعة في مارس 1945م، لسبيين، أولهما أنه صاحب الفكرة، والثاني هو تاريخه النضالي المشرف، ومساندته في مقالاته وكتبه لفكرة وحدة العرب، باعتبارها خطوة في سبيل الوحدة الإسلامية.

المذكرات السرية: كنت ضابطًا في الجيش التركي العثماني، وموجودًا في برلين في مهمة سياسية، ممثلًا عن مصر عام 1918م، وبدأنا نشعر باستياء شديد من الجرائم التي يرتكبها الأتراك بحق المسلمين في الشام

وفي مذكراته التي حرّرها الصحفي جميل عارف، وصدر الجزء الأول منها فقط تحت عنوان “صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية”، قال عزام: “كنت ضابطًا في الجيش التركي العثماني، وموجودًا في برلين في مهمة سياسية، ممثلًا عن مصر في مؤتمر دعمته تركيا للتنديد بجرائم الاحتلال الإنجليزي في الدول الإسلامية عام 1918م، لكن بدأنا نشعر باستياء شديد من الجرائم التي يرتكبها الأتراك أنفسهم بحق المسلمين في الشام، بقيادة جمال باشا”.

اقرأ أيضًا:

“ابن تيمية”.. مُفتَرى عليه أم مُفترِي علينا؟ (قراءة في فتاوى الإرهاب) (2-2)

 

وتابع: “ذات ليلة جاءني ضابط تركي وطلب مني سرعة السفر إلى إسطنبول الليلة ومن دون تأخير، وعندما رفضت هددني بأنه أمر عسكري، فخشيت أن يكون الأمر عقابًا لي على مجاهرتي بالغضب والاستياء، من الجرائم البشعة والمذابح المنكرة التي ارتكبها جمال باشا في الشام وفي بلاد العرب”.

تُوفيّ عبد الرحمن عزام في 2 يونيو 1976 عن عمر يناهز إحدى وثمانين سنة، ووُريّ الثرى بمدفن خاص في “مسجد عزام” بمدينة حلوان، إلى جوار ابن أخيه الدكتور عبد الوهاب عزام، أستاذ اللغة الفارسية، الكاتب والمترجم المعروف.