تبنت الحكومة المصرية سياسة “إمساك العصا من المنتصف” في تعاملها مع أزمة كورونا، فلم تستجب لدعوات الإغلاق العام التي تبناها قطاع من المجتمع، ولم تنصاع أيضًا لمطالب رجال الأعمال بعودة الحياة لطبيعتها بصورة كاملة، وتبنت سياسة وسطية بينهما بعودة الحياة، لكن مع ضوابط احترازية، ودون جميع الأنشطة الاقتصادية.

من المعلوم أن لكل قرار اقتصادي منتفع ومتضرر، لكن يبقى رهان الحكومات دائمًا على اتخاذ القرار الذي يصب في صالح الأغلبية، وفي أزمة كورونا التي تشل الاقتصاد العالمي بشكل كامل، لا توجد هوامش واسعة للمناورة، فالخيار مرهون في المقام الأول بتقليل الخسائر بأقصى درجة ممكنة، ودخول معركة للإبقاء على معدلات النمو الاقتصادي إيجابية.

العالم يستعيد حياته الطبيعية.. ويعامل “كورونا” كأزمة طويلة الأمد

يحتاج قرار مثل الإغلاق الكامل إلى مقومات لا تتوافر في الاقتصاد المصري، الذي يعتمد بصورة أساسية على استيراد مستلزمات الإنتاج والمواد الغذائية من الخارج، واحتياطي نقدي ضخم قادر على الإنفاق منه عدة أشهر  على توفير المستلزمات الغذائية والصحية لقطاع كبير يعمل باليومية (حوالي 12.3 مليون شخص)، ولا يملك أي تأمينات اجتماعية أو صحية.

يعني الإغلاق الكامل تزايدًا في أعباء الديون وتراجعًا شديدًا في إيرادات الموازنة العامة للدولة خاصة فيما يتعلق بالإيرادات الضريبية وعجزًا أكبر في الموازنة، الذي يدفع بالنهاية إلى تخفيض التصنيف الائتماني وانخفاض تدفق الاستثمار المباشر، وإفلاس العديد من الشركات والمؤسسات.

لكن الانفتاح الكامل أيضًا سيؤدي إلى تزايد في حالات الإصابة ويحمل مخاطر كبيرة مع شعب ترتفع فيه نسبة الأمية إلى 30% من السكان الذين يفتقرون إلى معرفة أبسط القواعد الصحية، فمع فرض قرار الكمامة الإلزامية انتشرت ظاهرة “الكمامة الدوراة” في البنوك التي يتبادلها الرواد بينهم لإتمام معاملتهم في المصارف التي رفضت الدخول دون ارتدائها ولجأ البعض إلى ارتدائها دون إلقائها في القمامة بعد الاستخدام والإبقاء عليها ليوم آخر.

سياسة متوازنة

ويقول الخبير المصرفي أحمد قورة إن التوازن بين الفتح والإغلاق هو القرار الأصوب في حالة دولة كمصر، لأن الإغلاق الكامل يعني تضرر قطاع كبير من المواطنين وتدمير الاقتصاد ووصول البعض لحافة الجوع، وفي الوقت ذاته يجب على الدولة تطبيق القانون بحذافيره فيما يتعلق بالاشتراطات الصحية كارتداء الكمامات لمنع تفشي العدوى.

ويرى خبراء اقتصاد أن القطاع الصناعي يجب أن يكون أول القطاعات التي تعود، لسهولة حصر عمال المصانع وإمكانية إقامة معسكرات لهم يعملون فيها لمدة أسبوعين ما يمنع تنقلهم كثيرًا وإمكانية التقاطهم للعدوى، ويبدون تحفظًا على قطاعات مثل فتح الفنادق التي تشهد تغييرا مستمرًا في الرواد والزبائن ويصعب معها تطبيق جميع إجراءات الحظر.

ويقول قورة إن تداعيات الإغلاق ـ رغم أنه كان جزئيًا ــ ظهرت على الاحتياطي النقدي المصري الذي فقد نحو 5 مليارات دولار منذ الأزمة تم توجييها لتلبية احتياجات السوق المصرية، وتحرك أسعار صرف الدولار أمام الجنيه المصري لأول مرة منذ شهور، وحال تطبيق الإغلاق الكامل ستواجه الكثير من المؤسسات شبح الإفلاس، وستتزايد البطالة إلى معدلات غير مسبوقة، كما أنه لا يحول دون حدوث إصابات في ظل غياب الثقافة الصحية لدى المواطنين.

عودة كاملة

وإن كان كثير من خبراء الاقتصاد يرون ضرورة العودة الجزئية للنشاط الاقتصادي، إلا أن الدكتور رضا لاشين، مدير منتدى الدراسات الاقتصادية والسياسية، يطالب بعودة المنظومة الاقتصادية بصورة متكاملة دون تعطيل أي قطاع اقتصادي، فتعطل قطاع مثل الطيران يعطل الشحن والسياحة والجلب السياحي والتسويق والفنادق والنقل وجزءًا من الاستيراد والتصدير، وبالتالي لا بد من عودة القطاعات الاقتصادية بشكل متوازٍ في وقت واحد ما يدفع النمو بشكل عام.

ويطالب رجال الأعمال مثل المهندس نجيب ساويرس وحسين صبور وغبور وغيرهم بعودة كاملة لعجلة الاقتصاد،فالوقف التام للأنشطة الاقتصادية من وجهة نظرهم يؤدي لحالات إفلاس وفقد لفرص العمل وتوقف الاستثمار، وجيوش من البشر العاطلين عن العمل، و نقص في كميات الطعام.

ويضع لاشين خطة لعودة الحياة بالكامل مع تحجيم الإصابات عبر تقسيم أيام الأسبوع على القطاعات اقتصادية بحيث لا تعمل كلها في اليوم ذاته، وتغيير أوقات عمل القطاعات الجماهيرية لتصبح على فتراتبين الساعة التاسعة صباحًا وحتى السابعة مساءً، لمنع تكدس الموظفين في توجههم للعمل والخروجفي الوقت ذاته، مع الأخد في الاعتبار كافة الاحتياطات الاحترازية.

منظور مغاير

وينظر البعض للقضية بمنظور آخر مغاير وبعيد عن تكاليف الحسبة الاقتصادية، مثل رؤية المحامي نجاد البرعي، رئيس المجموعة المتحدة للاستشارات القانونية، الذي يقول إن المصريين لا يستطيعون البقاء في بيوتهم طويلًا، فإذا اجتمع عليهم ذل الحبس مع قلة المال وغياب العمل، سيؤدي ذلك لكارثة تصيب الاستقرار في مقتل، وبالتالي فإن كثيرين ممن يدعون إلى الإغلاق الكلي وإيقاف حركة المواصلات تمامًا وإلزام الناس بالبيوت لا يدركون  طبيعة ما يتكلمون عنه ولا نتائجه.

الإغلاق الكامل.. ضرورة صحية “ممنوعة” بأمر الاقتصاد

لكن البعض ما زال مصممًا على موقفه بضرورة الإغلاق الكامل لمدة أسبوعين مهما كانت تكلفتهما الاقتصادية لأن الحياة ستعود إلى طبيعتها بعدها بما يسمح بتعويض الخسائر وحماية الأرواح في الوقت ذاته، مثل الدكتور خالد رفعت، مدير مركز طيبة للدراسات السياسية، الذي يقول إن الدولة تأخرت في تأجيل الدراسة وإغلاق المطارات والمسارح والسينما وإيقاف النشاط الرياضي في بداية أزمة كورونا قبل أن تضطر إلى اتخاذها في النهاية بعد شهر كامل من المطالبات، وعليها فرض حظر تجوال كامل لمدة أسبوعين كاملين قبل فوات الأوان.

ويضرب أنصار الإغلاق الكامل حاليًا المثل بتجربتي الأردن وتونس اللذين يتمتعان باقتصاد أضعف من مصر ويعتمدان على السياحة أيضًا بصورة أساسية لكنهما اتخذا القرار الأصعب واستطاعا تحجيم المرض بصورة شاملة، واستئناف الحياة الاقتصادية بصورة شبه كاملة حاليًا، مطالبين مصر بالاستفادة من تجربتهما.